بازگشت

فلسفة البكاء و التأكيد عليه


لقد أكد أئمة أهل البيت عليهم السلام انطلاقا من الامام زين العابدين عليه السلام علي ظاهرة البكاء و الحزن في علاقة الجماهير الاسلامية بالثورة الحسينية المقدسة، فكانوا يحثون شيعتهم علي عقد المجالس العزائية و اقامة المآتم الحسينية، فلماذا هذا التأكيد و ما هي فلسفة ذلك؟ فان هناك من يستهجن هذه المسألة و يعيب هذه الظاهرة التي أكد عليها أئمة أهل البيت عليهم السلام و التزم بها شيعتهم في طول هذه الفترة التاريخية من بعد فاجعة كربلاء، و ان هؤلاء الناقدين لا تخلوا دوافعهم الي هذا النقد من أحد أمرين:

اما أنهم مغرضون و مجندون لمحاربة بقاء الثورة الحسينية في وجدان الأمة؛ لأنهم رأوا مدي تأثيرها علي الأجيال في الارتباط بأهل البيت و مبادئهم و توعية الأمة في قضاياها المصيرية و استمرارية رفض الظلم و الفساد و الانحراف، فقاموا بمحاولة اليائسين لتشوية هذا الوجه و اضعاف هذه الروح في نفوس الأجيال.

أو أنهم جاهلون و غير مدركين لأبعاد المسألة، يجهلون أن فلسفة ذلك هو أن الثورة الحسينية لابد أن تملأ علي الانسان المسلم كل وجوده و تعيش في وجدانه كما تعيش في فكره؛ لأن الانسان يوجد له بعدان: البعد الفكري و البعد الوجداني العاطفي، فأراد أئمة أهل البيت عليهم السلام للثورة الحسينية أن تعيش في كلا البعدين من الانسان، فلا يكفي أن يتأثر بها البعد الفكري فقط؛ لأن ذلك يهددها بالضعف و التلاشي فلا يكون لها ذلك التأثير المطلوب و المستمر؛ لأن الانسان قد يصل الي قناعة فكرته في عقيدة


ما، الا أنه لا ينفعل بها وجدانيا و عاطفيا، فسوف لا يكون لها ذلكا لتأثير علي حياته، بل ستتعرض للجفاف و الضعف أمام التحديات علي المدي البعيد.

أما اذا عاشها بوجدانه و عاطفته الي جانب قناعته الفكرية فسوف تبقي حية متجددة و فاعلة في وجوده، فان (من الأمور الواضحة اجتماعيا و نفسيا أن القناعة الفكرية وحدها لا تقدم ضمانة كافية للثبات و الصمود أمام الأخطار العظيمة و الاضطهاد العنيف الذي يستمر قرنا بعد قرن، ان العنف المدروس المستمر و الاضطهاد الذي لا يتورع عن شي ء - كالعنف الذي واجهه شيعة أهل البيت - سرعان ما يحطم التماسك عند الجماهير حول العقيدة التي لا يتاح لهذه الجماهير أن تتصل بقادتها بحرية و أمان، ولا يتاح لها دائما أن تظل علي اتصال تام بأفكار العقيدة و مواقفها، و لا يتاح لها أن تمارس حياتها علنا وفقا لعقيدتها...

و من أجل أن يضاف الي القناعة الفكرية بالعقيدة رباط عاطفي يضفي علي القناعة الفكرية حرارة و قوة و مضاء في مواجهة الاضطهاد و الصبر علي الشدائد و يحافظ علي التماسك أمام ضربات العنف و يحيط الموقف العقلي بوهج عاطفي يرتفع بالعقيدة من مرتبة الحالة العقلية الي مرتبة الحالة الشعورية) [1] .

من أجل ذلك كله أكد أئمة أهل البيت عليهم السلام علي ظاهرة البكاء و التباكي و اقامة مجالس العزاء لتجديد ذكري واقعة الطف،و أكدوا علي نظم الشعر و انشاده في هذا المجال.

(حتي جاء في ثواب من خرج من عينيه كجناح الذباب أنه يطفي ء حر جهنم، فان الغرض ليس الا أن الدمعة لا تفاض الا عند انفعال النفس و تأثرها مما يصيب من


تمت به بنحو من أسباب الصلة، لا شك أن قوي النفس عند تأثرها بذلك تكون متأثرة بشي ء آخر و هو العداء و البغض لكل من أوقع الفوادح و الآلام.

فالأئمة حيث انهم أعرف الناس بمقتضيات الأحوال و الملابسات التي تؤكد دعوتهم كانوا يتحرون التوصل الي أغراضهم بكل صورة، و كان من الوسائل التي توجب انحراف الأمة عن أعداء الله تعالي و رسوله أمرهم بالكباء علي مصاب الحسين عليه السلام، لما فيه من استلزام تذكر تلك القساوة المستلزم لانفعال النفس و انصرافها عما يلائم خطتهم، و هذا هو المغزي لقول الحسين عليه السلام:» أنا قتيل العبرة، لا يذكرني مؤمن الا استعبر» فالمؤمن حيث يمت بالحسين بالولاء و المشايعة كان ذلك موجبا لتأثر نفسه و احتدام قلبه.

لقد راق أئمة الهدي عليهم السلام أن تبقي تلك الذكريات الخالدة مدي الدهر تتحدث بها الأجيال المتعاقبة، علما منهم ببقاء الدين غضا طريا ما دامت الأمة تتذاكر تلك الفاجعة العظمي، و لم يقتصروا علي لازمها و هو البكاء حتي دعوا الي التباكي و هو التشبه بالباكي من دون أن يخرج منه دمع، فيقول الامام الصادق:» من تباكي فله الجنة». و معلوم أن التباكي انما يتصور فيمن تتعسر عليه الدمعة لكنه لم يفقد التأثر لأجل المصاب كما يشاهد في كثيرين، فالتألم النفساني بتصور ما ورد علي المحبوب من آلام و فوادح يستلزم قهرا النفرة ممن أورد ذلك العدوان) [2] .

و ظاهرة البكاء و اقامة مجالس العزاء هي كأي ظاهرة من الظواهر بدأت في أؤل انطلاقتها تتسم بالبساطة و العفوية، و لكنها ببركة رعاية الأئمة الطاهرين عليهم السلام قد تعمقت و تطورت تدريجيا حتي أصبحت بالمستوي الذي هي عليه في العصر الراهن.


قال سماحة الشيخ محمد مهدي شمس الدين رحمه الله في معرض حديثه عن المأتم الحسيني المعاصر و عناصره: (قد غدا المأتم الحسيني يشتمل الي جانب عنصر المأساة علي العناصر التالية:

أولا: لم تعد المأساة تشكل عنصرا نهائيا في المأتم و ان كانت لا تزال عنصرا رئيسيا فيه.

ثانيا: غدا المأتم يشتمل غالبا علي عرض تاريخي يحيط كربلاء بعواملها التاريخية في حدود سعة و عمق الثقافة التاريخية للخطيب.

ثالثا: احتلت الدراسات الاسلامية و الدعوة الي الاسلام مركزا مهما جدا في المأتم الحسيني بحيث غدت مقياسا تعتمد عليه الجماهير في الاقبال علي المأتم و انكفائها عنه.

رابعا: غدا المأتم الحسيني مناسبة مهمة لمعالجة الأمراض الاجتماعية و مظاهر الانحطاط و الدعوة الي اصلاحها علي ضوء التوجيه الديني.

ان المأتم الحسيني الآن في أفضل حالاته، و حين يقوم به غير الجهلة المتطفلين عليه - و الكلام للشيخ شمس الدين - يعتبر في رأيي مؤسسة من أعظم المؤسسات خيرا و بركة بما يقوم به من دور فعال في التثقيف و التوعية و في الكشف عن تراثنا الفكري و الحضاري و في التوجه الاسلامي الصحيح ازاء المشاكل اللفكرية و العقيدية الغربية عن تراثنا و عن حضارتنا) [3] .

و مع هذا كله فلابد من الحفاظ علي البعد الوجداني و العاطفي للمأتم الحسيني المتمثل في الجانب المأساوي في الثورة الحسينية و الارتباط بها، و متي ما ضعف هذا البعد أو هذا العنصر فان المأتم الحسيني سوف يتعرض للضعف والجفاف و لا يعود يؤدي دوره المتكامل في الأجيال الاسلامية المرتبطة بهذا المأتم.


و اذا كان ثمة تطوير أكثر يحتاج اليه المأتم الحسيني لمسايرة العصر فليكن في بقية الجوانب أو العناصر الأخري للمأتم، ليبقي عنصر المأساة أو الجانب العاطفي هو الرباط الذي يربط بين سائر العناصر الأخري و يمدها بالحرارة و القوة.

و في نظري أن كل دعوة الي فصل أو الغاء هذا الجانب من المأتم الحسيني فهي ليست في صالح المأتم و استمرارية ثأثيره في نفوس الجماهير، و متي تم هذا الفصل أو هذا الالغاء فانه لم يعد مأتما حسينيا و ضيفته تعميق روح الثورة الحسينية في وجدان جماهير الأمة و الحفاظ علي تلك الروح؛ لأن الانسان هو الانسان في كل زمان و مكان في بعدية الفكري و العاطفي و الوجداني، و قد كان المأتم الحسيني و لا يزال مرتبطا بكلا البعدين في وجود جماهيره، و لابد أن يبقي كذلك يغذي البعدين معا.

الي هنا تمت قراءاتنا لبيانات و نصوص الثورة الحسينية المقدسة، سائلا المولي تعالي أن يجعل ذلك في سجلات تلك الثورة المقدسة، و الصلاة و السلام علي أبي الأحرار و سيدالشهداء أبي عبدالله الحسين و علي جده و أبيه و أمه و أخيه و التسعة المعصومين من بنيه، و الحمد لله أولا و آخرا.

23 جمادي الأولي 1422 ه.


پاورقي

[1] الشيخ محمد مهدي شمس الدين مجلة الموسم عدد 18 ص 61.

[2] مقتل المقرم ص 27 - 26.

[3] مجلة الموسم عدد 18 ص 59.