بازگشت

خطاب الامام السجاد في المدينة


آخر البيانات الاعلامية للثورة هو الخطاب الذي ألقاه الامام زين العابدين عليه السلام في المدينة المنورة بعد رجوعهم اليه بعد نهاية تلك الملحمة الكبري الخالدة، و بعد تلك المسيرة المقدسة التي قطعها سبايا آل محمد صلي الله عليه و آله.

و يختلف المحور الذي يدور عليه هذا البيان عن محاور البيانات السابقة، فان هذا البيان قد تمحور حول البعد العاطفي من الثورة، فقد أراد الامام أن يؤكد علي جانب البكاء و الحزن لما جري علي شهيد كربلاء و أهل بيته و أصحابه، و هذا جانب مهم و ضروري لخلود الثورة و بقاء آثارها في وجدان الأمة علي تعاقب الأجيال.

(قال بشير بن حذلم: لما قربنا من المدينة نزل علي بن الحسين و حط رحله و ضرب فسطاطه و أنزل نساءه، و قال:» يا بشير، رحم الله أباك، لقد كان شاعرا، فهل تقدر علي شي ء منه؟!» قلت: بلي يابن رسول الله، اني لشاعر، فقال عليه السلام:،» ادخل المدينة و انعي أباعبدالله») [1] .

و انما اراد الامام بهذا أن يهي ء النفوس و العواطف لاستقبال البيان الذي يريد أن يدلي به من أجل أن يؤثر أثره في النفوس و يجد طريقه الي وجدان الجماهير، و كلنا


يعلم بما للشعر من أثره الخاص علي العاطفة الانسانية، لذلك أراد الامم تسخير الشعر في خدمة قضيتهم في تأجيج المشاعر و توجيهها نحو هذا الاتجاه، فان الشعر في القدم و الحديث من أهم الوسائل المؤثرة في توجيه الرأي العام الي أي منحي يراد توجيهه اليه، لذلك أكد أئمة أهل البيت علي هذه الظاهرة فدعوا الي قول الشعر و انشاده في رثائهم و مدحهم.

(قال بشير: فركبت فرسي حتي دخلت المدينة فلما بلغت مسجد النبي صلي الله عليه و آله رفعت صوتي بالبكاء و أنشأت:



يا أهل يثرب لا مقام لكم بها

قتل الحسين فأدمعي مدرار



الجسم منه بكربلاء مضرج

و الرأس منه علي القناة يدار



و قلت: هذا علي بن الحسين عليه السلام مع عماته و أخواته قد خلوا بساحتكم، و أنا رسوله اليكم أعرفكم مكانه. فخرج الناس يهرعون و لم تبق مخدرة الا برزت تدعو بالويل و الثبور، و ضجت المدينة بالبكاء، فلم أر باكيا أكثر من ذلك اليوم، و اجتمعوا علي الامام زين العابدين عليه السلام يعزونه) [2] .

في هذا الجو المملوء بالعواطف الجياشة و المشاعر المتأججة من ذلك الجمهور الذي خرج لاستقبال العائدين من أهل البيت، فاذا هم يرون أنفسهم لا يستقبلون الا النساء و الأطفال، أما الرجال فقد أبيدوا جميعا لم يرجع منهم الا الامام السجاد عليه السلام، فلك أن تتصور الي أن مدي يكون تأثير المأساة في وجدان ذلك الجمهور عند ما يستمع الي الامام يتحدث عما جري عليهم. و قد (خرج من الفسطاط و بيده خرقة يمسح بها دموعه و خلفه مولي بعد كرسي فجلس عليه و هو لا يتمالك من العبرة،


و ارتفعت الأصوات بالبكاء و الحنين، فأومأ الي الناس أن اسكتوا،فلما سكتت فورتهم قال عليه السلام:

» الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، باري ء الخلائق أجمعين، الذي بعد فارتفع في السماوات العلي، و قرب فشهد النجوي، نحمده علي عظائم الأمور و فجائع الدهور و ألم الفجائع و مضاضة اللواذع و جليل الرزء و عظيم المصائب الفاظعة الكاظة الفادحة الجائحة. أيها القوم، ان الله تعالي و له الحمد ابتلانا بمصائب جليلة و ثلمة في الاسلام عظيمة، قتل أبوعبدالله الحسين عليه السلام و عترته و سبيت نساؤه و صبيته و داروا برأسه في البلدان من فوق عامل [3] السنان و هذه الرزية التي لا مثلها رزية» [4] .

في هذا الجزء من هذا البيان و الذي يمثل المقدمة لخطاب الامام، بدأ الامام خطابة بحمد الله تعالي علي كل ما جري عليهم من الفجائع العظيمة و الملمات الجسمية؛ ليبين أن مواقفهم من هذه المصائب هو موقف الشكر لا موقف الصبر فقط؛ لأن كل ما حدث بهم و جري عليه انما هو من أجله تعالي و من أجل دينه و رسالته، و هذا ما يعظم شأنهم عنده تعالي و يزيدهم قربا منه و يعلي من مراتبهم لأنها ابتلاء من الله تعالي لهم، و خط الابتلاء هو خط الأنبياء و الأؤلياء، فانهم أشد البشرية ابتلاء


و امتحانا، و أهل البيت عليهم السلام هم سادة هذا الطريق، فتكون هذه الرزايا في باطنها نعمة يشكر المنعم عليها تبارك و تعالي و ان كانت هذه الفاجعة ثلمة في الدين لأن المقتول هو ذلك الامام الذي تجسد فيه الاسلام بمفاهيمه و قيمه و أحكامه.

و تابع الامام السجاد عليه السلام خطابه موجها كلامه الي الحضور قائلا:

» أيها الناس، فأي رجالات منكم يسرون بعد قتله، أم أي فؤاد لا يحزن من أجله، أم أية عين منكم تحبس دمعها و تضن عن انهمالها، فلقد بكت السبع الشداد لقتله، و بكت البحار بأمواجها، و السماوات بأركانها، و الأرض بأرجائها، و الأشجار بأغصانها، و الحيتان و لجج البحار، و الملائكة المقربون و أهل السماوات أجمعون.

يا أيها الناس، أي قلب لا ينصدع لقتله، أم أي فؤاد لا يحن اليه، أم أي سمع لا يسمع هذه الثملة ثلمت في الاسلام و لا يصم» [5] .

في هذه الجمل أشار الامام عليه السلام الي مسألة مهمة جديرة بأن نتوقف عندها قليلا، و هي نسبة البكاء الي سائر المخلوقات غير الانسان من الملائكة و السماوات و الأرض و النبات و الحيوان، فماذا تعني هذه النسبة، و ما حقيقة هذا البكاء؟

و يمكن أن توجه هذه النسبة بتوجيهين:

التوجيه الأول: بأن تكون هذه النسبة نسبة تقديرية أو مجازية، بمعني أن هذه


الفاجعة المؤلة و المصيبة العظيمة هي علي درجة من الفضاعة بأن تدمي القلوب و تثير الشجون و تجري الدموع من العيون، و نظرا الي مقام من وقعت عليه هذه الكارثة و ما له من مقام عند الله تعالي فمن حقه أن يبكي عليه كل موجود بما في ذلك الحيوان و النبات و الجماد له قدر أن لهذه الكائنات عقل و شعور ليكت لمصاب هذا الامام العظيم و ما جري عليه و علي أهله من الرزايا و الكوارث المفجعة، فكيف بالانسان الذي يحمل العقل و الشعور و الاحساس و العاطفة، فمن حق كل مسلم، بل كل انسان أن يبكي و يتألم من أجل هذه المصيبة التي لم يحدث التاريخ بمثلها.

التوجيه الثاني: هو أن ينظر الي هذه المسألة من زاوية فلسفية بأن يقال: ان كل موجود ممكن له درجة من الشعور تتناسب مع ما له من رتبة وجودية، و كلما كانت درجته الوجودية أرفع و أكمل كانت درجة شعوره أعلي و أوضح، و هذا ما يشير اليه القرآن الكريم حينما ينسب التسبيح لله تعالي الي كل شي ء كما في قوله تعالي: (تسبح له السماوات السبع و الأرض و من فيهن و ان من شي ء الا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم) [6] .

فكل شي ء - بناء علي هذا - له حظ من التسبيح يتناسب مع حظه من الوجود، الا اننا نحن البشر لا ندرك حقيقة تسبيح الكائنات الأخري من حيوان و نبات و جماد.

قال في (الميزان): (كلامه تعالي يشعر بأن العلم سار في الموجودات مع سريان الخلقة، فلكل منها حظ من العلم علي مقدار حظه من الوجود، و ليس لازم ذلك أن يتساوي الجميع من حيث العلم أو يتحدوا من حيث جنسه و نوعه، أو يكون عند كل ما عند الانسان، من ذلك أو أن يفقه الانسان بما عندها من العلم، قال تعالي حكاية


عن أعضاء الانسان: (قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شي ء) [7] و قال: (فقال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) [8] ، و الآيات في هذا المعني كثيرة) [9] .

(فالحق أن التسبيح الذي تثبته الآية لكل شي ء هو التسبيح بمعناه الحقيقي، و قد تكرر في كلامه تعالي اثباته للسماوات و الأرض و من فيهن و ما فيهن، و فيها موارد لا تحتمل الا الحقيقة كقوله تعالي: (و سخرنا مع داود الجبال يسبحن و الطير) [10] و قوله: (انا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي و الاشراق) [11] و يقرب منه قوله: (يا جبال أوبي معه و الطير) [12] فلا معني لحملها علي التسبيح بلسان الحال) [13] .

فانطلاقا من هذا الفكر القرآني يمكن أن ينسب البكاء الي سائر الموجودات غير الانسان، فتكون النسبة حقيقة و يكون البكاء حقيقيا علي مصيبة سيدالشهداء و ما حل به و بأهل بيته من الرزايا الأليمة، و ليس من اللازم أن يكون بكاؤها كبكاء الانسان، و انما هو درجة من درجات التأثر تتناسب مع درجة الشعور الذي يملكها ذلك المخلوق.

روي زرارة بن أعين عن أبي عبدالله، أنه قال:» بكت السماء علي يحيي بن زكريا و الحسين بن علي عليهماالسلام أربعين صباحا». قلت: فما بكاؤها؟ قال:» كانت تطلع حمراء و تغيب حمراء» [14] .


و في (الدر المنثور) أخرج ابن أبي حاتم عن عبيد المكتب عن ابراهيم، قال: ما بكت السماء منذ كانت الدنيا الا علي اثنين. قيل لعبيد: أليس السماء و الأرض تبكي علي المؤمن. قال: ذاك مقامه و حيث يصعد عمله، قال: أتدري ما بكاء السماء؟ قال: لا، قال: تحمر و تصير وردة كالدهان، ان يحيي بن زكريا لما قتل احمرت السماء و قطرت دما، و ان الحسين بن علي يوم قتل احمرت السماء) [15] .

لأن ما جري علي نبي الله يحيي و ما جري علي سيدالشهداء عليهماالسلام هو من أقبح و أفجع ما يحدث من أشكال الظلم علي الأرض، فهما انما قتلا لأنهما يدعوان الي الحق و العدل و اقامة حكم الله و تطبيقه في الأرض، فقتلهما بتلك الصورة المؤلة و المفجعة للقلوب بما لهما من منزلة عظيمة عند الله تعالي، فليس مستحيلا، بل و لا بعيدا أن يؤثر قتلهما في الكون ذلك التأثير الذي أطلقت عليه النصوص عنوان البكاء و ان لم نستطع - نحن البشر - أن ندرك حقيقة ذلك البكاء و ذلك التأثر، كما أننا لا نستطيع أن ندرك حقيقة تسبيح الأشياء لله تعالي في هذا الكون.

قال في (الميزان): (و لو بني في معني بكاء السماء و الأرض علي ما يظهر من هذه الروايات لم يحتج الي حمل بكائهما علي الكناية التخييلية) [16] .

فلهذا فان بالامكان حمل الآية الكريمة علي الحقيقة، و هي قوله تعالي: (فما بكت عليهم السماء و الأرض و ما كانوا منظرين) [17] فان الله تعالي ينفي البكاء عن السماء و الأرض علي أولئك الظلمة المفسدين في الأرض؛ لأنهم ليس لهم قيمة وجودية معتبرة؛ لذلك لا يؤثر فقدهم علي وجود سائر الكائنات، و بالمقابل فان هناك من


أولياء الله تعالي من يكون لفقده تأثير علي سائر الموجودات، كما تقدم بالنسبة الي نبي الله يحيي و الامام الشهيد الحسين بن علي بن أبي طالب عليهماالسلام.

و تابع الامام السجاد عليه السلام خطابه مشيرا الي جوانب تلك الفاجعة و ما جري عليهم في سفرهم هذا قائلا:

» أيها الناس، أصبحنا مشردين مطرودين مذودين و شاسعين عن الأمصار كأنا أولاد ترك و كابل من غير جرم اجترمناه و لا مكروه ارتكبناه و لا ثلمة في الاسلام ثلمناها (و ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين) [18] ، (ان هذا الا اختلاق) [19] ، و الله لو أن النبي صلي الله عليه و آله تقدم اليهم في قتالنا كما تقدم اليهم في الوصاية بنالما زادوا علي ما فعلوا بنا، فانا لله و انا اليه راجعون من مصيبة ما أعظمها و أوجعها و أفجعها و أكظها و أفظعها و أمرها و أفدحها، فعند الله نحتسب ما أصابنا و ما بلغ بنا فانه عزيز ذو انتقام» [20] .

حقا ان ما جري علي آل محمد في هذه الكارثة مثير للتساؤل، بماذا استحق أهل البيت هذا كله من الأمة حتي أبيدوا و شردوا و كأنهم من ملة أو أمة أخري، و كأنهم لم يكونوا عترة نبي هذه الأمة و لحمته، و كأن النبي لم يوص و لم يأمر بمودتهم و مراعاتهم؟! أم لأنهم قد ارتكبوا من الاثم في حق الله و حق الناس ما يستحقون عليه


أن يفعل بهم ما فعل الي الحد الذي لو فرض أن الرسول الأعظم أمر بقتال و قتل أهل بيته لما فعلوا فيهم أكثر و أشنع مما فعلوه؟!

و يفرض هذا التساؤل نفسه علي الانسان حينما يطلع علي الأحداث المؤلمة و التحديات التي واجهها أهل البيت عليهم السلام، فيسأل نفسه ما هو منشأ هذا الحقد الدفين الذي عبر عنه أعداء آل محمد بتلك الطريقة التي تدل علي أن فاعلها لا عهد له بالدين أو الانسانية، و عسي أن يجد القاري ء الكريم في هذه القراءات التي بين يديه شيئا من الجواب علي هذا التساؤل.



پاورقي

[1] مقتل المقرم ص 248.

[2] مقتل المقرم ص 248.

[3] في مثير الأحزان: عالي.

[4] اللهوف ص 117 - 116 ه، و مثير الأحزان لابن نما ص 91.

[5] اللهوف ص 117، و مثير الأحزان ص 91.

[6] الاسراء: 44.

[7] فصلت: 21.

[8] فصلت: 11.

[9] الميزان في تفسير القرآن ج 3 ص 110.

[10] الأنبياء: 79.

[11] ص: 18.

[12] سبأ: 10.

[13] الميزان في تفسير القرآن ج 3 ص 112.

[14] الميزان في تفسير القرآن ج 3 ص 110.

[15] الميزان في تفسير القرآن چ 18 ص 142.

[16] الميزان في تفسير القرآن ج 18 ص 143.

[17] الدخان: 29.

[18] القصص: 36.

[19] ص: 7.

[20] نقلنا نص الخطبة من اللهوف لابن‏طاووس ص 116 و ص 117، و مثير الأحزان لابن نما ص 91، و اللفظ للأول.