بازگشت

البيان الزينبي


ان الخطاب الذي أدلت به الحوراء زينب في مجلس يزيد بن معاوية من أقوي الخطابات التي أترث عن أهل البيت عليهم السلام، و تتبين قوته أكثر عند ملاحظة الظرف الذي القي فيه ذلك الخطاب، حيث كان سبايا آل محمد في عاصمة الحكم الأموي و في قبضة رأس النظام (يزيد بن معاوية) و هو يعيش حالة من النشوة و الشعور بالنصر و الظفر، و يري نفسه هو الفائز و المنتصر في هذه المعركة؛ لأنه قد قتل خصومه و جاء بالعائلة الكريمة الي عاصمته سبايا و أساري، و لا زالت وسائل القوة بيده من جيش و سلاح و مال، فهو يري أن من حقه أن ينتشي و يفرح بهذه المناسبة، و هنا تذكر يزيد


الصراع الماضي بين جد هذه الأسرة التي أصبحت في قبضته و بين أجداده و أسلافه، ذلك الصراع الذي كان بين الاسلام و الشرك، و قد كانت نتيجته استئصال شأفة الشرك و كسر شوكته و القضاء علي رؤوسه بما فيهم أجداد يزيد و أسلافه، و ها هو الآن قد انتقم لأولئك الأسلاف بابادة عترة محمد صلي الله عليه و آله فتمثل بأبيات عبدالله بن الزبعري و هي:



ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل



لأهلوا و استهلوا فرحا

ثم قالوا يا يزيد لا تشل



قد قتلنا القرم من ساداتهم

و عدلناه ببدر فاعتدل



لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء و لا وحي نزل



لست من خندف ان لم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعل [1] .



ان من أسوأ مفارقات هذا التاريخ أن يزيد يحكم المسلمين باسم الاسلام و نبي الاسلام، فيعلن كلمة الكفر علي منبر المسلمين متحديا مشاعر الأمة، و ليس في ذلك الجمهور من لديه الأرادة ليرد عليه قوله هذا.

في هذا الجو المحفوف بالطغيان و الكفر لم تكترث بطلة كربلاء زينب عليهاالسلام بكل من حولها و ما حولها، فثارت هاتفة رافعة لصوت الحق العلوي في وجه الباطل الأموي مبرهنة ليزيد و للأجيال أن هذه الفاجعة الكبري لا تعني القضاء علي الاسلام الذي أراد يزيد أن ينتقم منه، بل ان ما فعله يزيد انما يعني بداية النهاية ليزيد نفسه و نهاية حكمه.


فوقفت ابنة علي في ذلك المجلس فقالت:

» الحمد الله رب العالمين، و صلي الله علي رسوله و آله أجمعين، صدق الله سبحانه حيث يقول: (ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأي أن كذبوا بآيات الله و كانوا بها يستهزئون) [2] .

أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض و آفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الأساري، أن بنا علي الله هوانا و بك عليه كرامة، و ان ذلك لعظم خطرك عنده، فشمخت بأنفك و نظرت في عطفك جذلان مسرورا، حين رأيت الدنيا لك مستوثقة، و الأمور متسقة، و حين صفا لك ملكنا و سلطاننا، فمهلا مهلا، أنسيت قول الله تعالي: (و لا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم انما نملي لهم ليزدادوا اثما و لهم عذاب مهين) [3] »

في هذا المقطع من بيانها عليهاالسلام نلاحظ ما يلي:

أولا: أنها سلبت يزيد بن معاوية صفة الاسلام و طبقت عليه عنوان الكفر بعد تمثله بأبيات ابن الزبعري، و طبقت عليه الآيتين السابقتين في بداية المقطع و نهايته، حيث يعني تطبيق الآية الأولي أن اعلان يزيد لكلمة الكفر صريحة انما هي ثمرة أعماله و ممارساته السيئة التي لا تلتقي مع روح الاسلام الحنيف.


ثانيا: عرفت يزيد علي جهله حين يظن أن هذا الحال الذي هو عليه من السلطان و اتساق الأمور و توفر الأسباب دليل علي كرامته علي الله، و كون سبايا آل محمد في قبضته و قد ضيق عليهم الدنيا دليلا علي هوانهم، فبلغ به الغرور و الطغيان مبلغه، فعرفته الحوراء بأن ذلك ليس مقياسا للكرامة و الفضل عند الله تعالي.

و الا فما أكثر الطواغيت في التاريخ الذين توفرت لهم أسباب القوة و السلطان فملأوا الأرض ظلما و فسادا كفرعون و النمرود و أشباههم، بينما يقف في الطرف الآخر أنبياء الله و أولياؤه الذين هم قادة البشرية بحق و ولاة أمرها.

و يزيد هو واحد من أولئك الذين واجهوا الله بالطغيان و الاستكبار في الأرض بينما الحكم الذي في يده و الملك الذي هو فيه انما هو حق لآل محمد صلي الله عليه و آله؛ لأنهم هم ورثة النبي في علمه و حكمه و سلطانه، فهم قادة الأمة و حكامها بحق.

ثم استشهدت الحوراء بالآية الكريمة الثانية و طبقتها علي يزيد، و الآية تشير الي الجهل الذي يقع فيه الطواغيت دائما حينما تجتمع لهم أسباب القوة و السلطان فيظنون أن ذلك دليل تميزهم علي من سواهم من البشرية، و أن مظاهر القوة و السلطان المتوفره لديهم تمثل الخير و السعادة و الرضا من الله تعالي، بينما الحق غير ذلك، انما هي مظاهر سنة الاملاء و الاستدراج من الله تعالي لهم ليبلغوا حدا في طغيانهم و استكبارهم في الأرض ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، قال تعالي: (و الذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون - و أملي لهم ان كيدي متين) [4] .

و يزيد ليس خارجا من هذه القاعدة أو السنة الالهية.

ثم قالت عليهاالسلام:

» أمن العدل يابن الطلقاء تخديرك حرائرك و اماءك و سوقك


بنات رسول الله صلي الله عليه و آله سبايا، قد هتكت ستورهن، و أبديت وجوههن، تحدوبهن الأعداء من بلد الي بلد، و يستشرفهن أهل المناهل و المعاقل، و يتصفح وجوههن القريب و البعيد، ليس معهن من حماتهن حمي و لا من رجالهن ولي؟! و كيف يرتجي مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء، و نبت لحمه من دماء الشهداء؟! و كيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر الينا بالشنف و الشنآن و الاحن و الأضغان؟!».

هذا الاستفهام من الحوراء استفهام استنكاري، فهي تريد أن تقول: انك يا يزيد تدعي بأنك حاكم اسلامي تحكم المسلمين باسم الاسلام و باسم محمد صلي الله عليه و آله، والحكم في الاسلام قائم علي العدل، فأين حكمك من الاسلام؟ و هل تعتبر ما فعلته في عترة الرسول جزءا من عدلك؟ أليس هذا ظلما لمحمد و للاسلام، فكيف يحق لك أن تنطق باسم الاسلام؟

ثم رجعت الحوراء بالأذهان الي السوابق التاريخية ليزيد لتذكره و غيره بماضيه المتمثل في مواقف أسلافه من الاسلام و مواقف الاسلام منهم، و ربطت ما بين ما فعله يزيد بأهل البيت و بين ذلك الماضي.

فذكرته أولا موقف جدها الرسول الأعظم من آبائه يوم الفتح يوم دخل مكة المكرمة منتصرا ظافرا و أصحبت قريش و أهل مكة في قبضته، الا أنه قد قابل أولئك (الذين كذبوه و أهانوه و عذبوا أتباعه و طردوه و جمعوا له العرب حتي غزوه في دار هجرته و مثلوا بعمه أقبح تمثيل و منعوه قبل عامين من دخول مكة لأداء مناسك الحج و فعلوا معه ما لا تبيحه أعراف العرب و عاداتهم، و كان أبوسفيان و زوجته هند من


أشد الناس عداوة لله و رسوله، و مع ذلك حين أمكنه الله منهم من عليهم و أمر من ينادي في الناس:» من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، و من ألقي سلاحه فهو آمن، و من دخل داره و أغلق عليه بابه فهو آمن» [5] .

ثم (وجه حديثه الي المكيين ثانية و سألهم:» ماذا ترون أني فاعل بكم و ما تظنون؟» قالوا: أخ كريم و ابن أخ كريم، و قد قدرت و أصبح أمرنا بيدك، فقال:» اني أقول لكم ما قاله أخي يوسف لاخوته: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم و هو أرحم الراحمين) [6] ، اذهبوا فأنتم الطلقاء») [7] .

و الاشارة من الحوراء الي هذا الموقف لها دلالتها من جهتين:

الجهة الأولي: هي المقارنة ما بين هذا الموقف من الرسول تجاه أسلاف يزيد و بين موقف يزيد من عترة الرسول صلي الله عليه و آله، ليتضح الفرق البعيد بين أهداف الاسلام و نبي الاسلام و بين يزيد و سيرته و أهدافه، فهما اتجاهان لا يلتقيان.

الجهة الثانية: الاشارة الي مغزي هذا الوسام الذي وضعه الرسول علي هؤلاء - أعني (الطلقاء) - بما فيهم أبوسفيان و ابنه معاوية، و علاقة ذلك بخلافة يزيد علي المسلمين فان استخلافه علي الأمة لا يستند علي مستند شرعي علي كل النظريات الموجودة في شأن الحكم في الاسلام و ذلك لما يلي.

أ - أما علي رأي مدرسة أهل البيت فالأمر واضح؛ لأن مدرستهم عليهم السلام تتبني مبدأ النص و التعيين في الخلافة من قبل الله و الرسول صلي الله عليه و آله.

ب - و أما علي رأي مدرسة الصحابة التي تتبني مبدأ الشوري فان الكيفية التي تم


بها استخلاف يزيد من قبل أبيه معاوية لا تمت الي الشوري بصلة، و قد مر الكلام حولها في القراءة الثانية من هذه القراءات.

ج- و بما أن يزيد من أبناء الطلقاء ليس له حق في الخلافة علي المسلمين، و هذا رأي الخليفة الثاني في حق الطلقاء و أبنائهم كما جاء في (الاصابة) و (طبقات ابن سعد).

ففي الاصابة:(ان عمر قال لأهل الشوري لا تختلفوا فانكم ان اختلفتم جاءكم معاوية من الشام و عبدالله بن ربيعة من اليمن، فلا يريان لكم فضلا لسابقتكم، و أن هذا الأمر لا يصلح للطلقاء و لا أبناء الطلقاء) [8] .

و في (الطبقات) أن عمر قال: (هذا الأمر في أهل بدر ما بقي منهم أحد، ثم في أهل أحد ما بقي منهم أحد، و في كذا و كذا، و ليس فيها لطليق و لا لولد طليق و لا لمسلمة الفتح شي ء) [9] .

فيكون يزيد قد تسلط علي رقاب الأمة بلا أي وجه شرعي، و انما بالقوة و الغلبة.

ثم أشارت عليهاالسلام الي أن ما فعله يزيد في حق العترة النبوية يلتقي و ينسجم مع طبيعة يزيد و نشأته؛ لأنه قد نبت لحمه علي بغض آل محمد، و قد ورث ذلك من أسلافه، أليست جدته هند بنت عتبة هي التي قطعت كبد سيدالشهداء حمزة بن عبدالمطلب و وضعتها في فمها تشفيا و انتقاما؟! فمن الطبيعي أن يصدر من يزيد كل ما صدر ما دامت هذه منطلقاته الأسرية و هذه موروثاته الأخلاقية.

و استمرت العقيلة عليهاالسلام ببيانها مخاطبة ليزيد قائله:

» ثم تقول غير متأثم و لا مستعظم:



لأهلوا و استهلوا فرحا

ثم قالوا يا يزيد لا تشل




منتحيا علي ثنايا أبي عبدالله عليه السلام سيد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصرتك، و كيف لا تقول ذلك و قد نكأت القرحة و استأصلت الشأفة باراقتك دماء ذرية محمد صلي الله عليه و آله و نجوم الأرض من آل عبدالمطلب؟ و تهتف بأشياخك زعمت أنك تناديهم فلتردن و شيكا موردهم و لتودن أنك شللت و بكمت و لم تكن قلت ما قلت و فعلت ما فعلت. اللهم خذ لنا بحقنا و انتقم ممن ظلمنا و احلل غضبك بمن سفك دماءنا و قتل حماتنا.».

و هنا أشارت الحوراء عليهاالسلام الي ما تمثل به يزيد من أبيات ابن الزبعري غير شاعر بأي اثم أو تحرج بما يقوله أو بما ارتكبه من سفك تلك الدماء الطاهرة من ذرية محمد صلي الله عليه و آله، أو ما يمارسه في مجلسه من أساليب الانتقام الذي ينم عن مدي الحقد الذي قد تمكن من قلبه و خالط لحمه و دمه تجاه محمد و ذريته، فانه قد وضع رأس الامام الشهيد أمام و أخذ يضرب علي شفتيه بعضا كانت في يده متمنيا حضور أسلافه ليروا كيف أخذ يزيد بثأرهم و ثأر لدمائهم التي أراقها الرسول الأعظم دفاعا عن رسالة الاسلام.

و لما كان يزيد يحمل في واقعة مبادي ء أسلافه و ان غلفها بغلاف كاذب من اسلامه لذلك، فان مصيره هو مصيرهم، و سوف يري ذلك عندما ينكشف له واقع عمله فيجني ثمار ما قدمت يداه، عند ذلك يرجع فيتمني لو أنه لم يفعل و لم يقل ما قاله و صرح به من الكفر، بل سيتمني لو أنه أصيب بالصم و البكم و الشلل و لم يبدر منه ما


بدر و لم يجري علي لسانه ما جري، الا أنه لا ينفعه التمني و لا يجديه الندم و ما ربك بظلام للعبيد.

و تواصل الصديقة الصغري بيانها العلوي و خطابها لرأس النظام قائلة:

» فو الله، ما فريت الا جلدك و لا حززت الا لحمك، و لتردن علي رسول الله صلي الله عليه و آله بما تحملت من سفك دماء ذريته و انتهكت من حرمته في عترته و لحمته، حيث يجمع الله شملهم ويلم شعثهم و يأخذ بحقهم (و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) [10] و حسبك بالله حاكما و بمحمد صلي الله عليه و آله خصيما و بجبرئيل ظهيرا و سيعلم من سول لك و مكنك من رقاب المسلمين بئس للظالمين بدلا، و أيكم شر مكانا و أضعف جندا».

و تؤكد حفيدة الرسول هنا أن ما ارتكبه يزيد في حق أهل البيت لا يؤثر علي مقامهم الرفيع و جلالهم الرباني؛ لأن كل ما جري عليهم انما هو من أجل الله و الاسلام؛ لأن خط الشهادة و التضحية في سبيل الله هو الخط الذي ارتضاه الله لهم فرضوه لأنفسهم، فهم سادة الشهداء و المضحين الذين أكد القرآن أنهم أحياء لا أموات و ان حسبهم أهل الجهل أمواتا.

و حياة هؤلاء حياتان:

الأولي: الحياة المجازية، و هي بقاء و خلود الذكر في أفكار و ضمائر أجيال الأمة،


ترفعهم شعارا للحياة الحرة الكريمة، و تستمد من مواقفهم روح القوة و الصمود كلما تعرضت الأمة الي المخاطر التي تهدد وجودها بالتلاشي و النهاية.

الثانية: الحياة الحقيقية الأخروية في جوار الله تعالي، حيث يجتمع شمل صاحب الرسالة بعترته و ينتقم الله لهم ممن ظلمهم و سفك دماءهم، و عند ذلك يتضح ليزيد أنه انما قتل نفسه بنفسه حين يقف أمام محكمة العدل الالهية، فيكون خصمه نبي هذه الأمة، و ماذا يكون مصير من يخاصمه نبي الرحمة محمد صلي الله عليه و آله.

و قد أشارت السيدة الحوراء اشارة بعيدة بقولها: (و سيعلم من سول لك و مكنك من رقاب المسلمين) حيث تعني: أن شريك يزيد في هذه الجريمة الكبري من أوصله الي كرسي الحكم و حكمه في رقاب الأمة، اذ لو لا ذلك لما حلت بالأمة تلك الكوارث و المآسي السوداء.

و تتابع ابنة الزهراء كلامها تتخاطب الطاغية بنبرة كبرياء الايمان قائلة:

» و لئن جرت علي الدواهي مخاطبتك، اني لأستصغر قدرك و استعظم تقريعك و استكثر توبيخك، لكن العيون عبري و الصدور حري، ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء! فهذه الأيدي تنطف من دمائنا و الأفواه تتحلب من لحومنا، و تلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل و تعفرها أمهات الفراعل، و لئن اتخذتنا مغنما لتجدن و شيكا مغرما، حين لا تجد الا ما قدمت يداك، و ما ربك بظلام للعبيد، و الي الله المشتكي و عليه المعول.».

انها قوة الايمان و عزة الحق و كبرياء الرسالة تطفح علي لسان هذه المرأة العظيمة.


نعم، انها ابنة علي عليه السلام الذي قال في كتاب له الي أخيه عقيل:» لا يزيدني كثرة الناس حولي عزة، و لا تفرقهم عني وحشة، و لا تحسبن ابن أبيك و لو أسلمه الناس مضرعا منخشعا و لا مقرا للضيم» [11] .

و هي بنت الزهراء التي أخذت عنها روح الاندفاع لنصرة الحق و مواجهة الباطل، و هي أخت الحسين و شريكته في ثورته، و هو القائل:» هيهات منا الذلة، يأبي الله لنا ذلك و رسوله و المؤمنون و جدود طابت و حجور طهرت و أنوف حمية و نفوس أبية، لا نؤثر طاعة اللئام علي مصارع الكرام» [12] .

كيف لا و القرآن الكريم يهتف بقوله تعالي:» و لله العزة و لرسوله و للمؤمنين».

لقد وجهت الحوراء سهامها الي صميم غرور الطاغية، فعرفته علي نفسه، فانه أقل و أحقر من أن تخاطبه عقيلة البيت الهاشمي، غير أن الظروف الجأتها الي ذلك.

ثم أبدت عجبها من مفارقات هذه الحياة مشيرة الي أن الصراع بين أهل البيت و بين خصومهم من الأمويين انما هو صراع بين حزبين هما علي طرفي نقيض فيما يحمله كل منها من القيم و المبادي ء و الأهداف. فأهل البيت هم المعنيون بالاصطلاح القرآني و هو (حزب الله): (ألا ان حزب الله هم المفلحون). [13] .

فمن الطبيعي أن يكون عدوهم حزبا للشيطان، لكن المفارقة هي أن من كانوا هم حزب الله يبادون و يقتلون علي أيدي حزب الشيطان.

ثم عادت العقيلة مذكرة ليزيد بأنه ان كان قد اعتبر جريمته هذه مكسبا و مغنما


فسوف يأتي اليوم الذي يقف فيه موقف الخاسر النادم، ثم خاطبته بلهجة التحدي قائلة:

» فكد كيدك واسع سعيك و ناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا و لا تميت و حينا و لا تدرك أمدنا و لا ترحض عنك عارها، و هل رأيك الا فند و أيامك الا عدد، و جمعك الا بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله علي الظالمين.

و الحمد لله رب العالمين الذي ختم لأولنا بالسعادة و المغفرة و لآخرنا بالشهادة و الرحمة و نسأل الله أن يكمل لهم الثواب و يوجب لهم المزيد و يحسن علينا الخلافة انه رحيم ودود و حسبنا الله و نعم الوكيل» [14] .

بهذه القوة من لهجة التحدي ختمت الحوراء بيانها.

نعم، بمنطق العالمة المواثقة بأن كافة الأساليب التي اتخذها و يتخذها يزيد هو و من قبله و من بعده في سبيل القضاء علي ذكر آل محمد صلي الله عليه و آله و مبادئهم، فانهم لن يستطيعوا الي ذلك سبيلا؛ لأن ذكرهم و مبادئهم هي الوحي السماوي الذي نزل علي صاحب الرسالة، و هو النور الذي عناه القرآن في قوله تعالي: (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم و يأبي الله الا أن يتم نوره و لو كره الكافرون). [15] .


فمادام منزل هذا الوحي و هذا النور يأبي الا اتمامه سوف يبقي من أجل البشرية و أجيالها التي من حقها أن يصل اليها ذلك النور.

أما المحاولات التي قام و يقوم بها أعداء هذا النور لاطفائه فانها سوف تتلاشي أمام عظمة هذا النور مهما تعملقوا بما يملكون من أسباب و آليات، بل ان أعداء هذا النور يخدمونه من حيث لا يعلمون، و أوضح شاهد علي ذلك ما أشارت اليه الحوراء من محاولة يزيد و من قبله أبوه معاوية للقضاء علي هدي آل محمد و ذكرهم حتي ارتكبت في حقهم فاجعة الطف ظنا منهم أنهم بذلك يستطيعون القضاء عليهم و علي مبادئهم و وحيهم، و ما دروا أن تلك الدماء الزكية سوف تسقي تلك الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت و فرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين باذن ربها، و سوف تبقي هذه الشجرة تنمو و تتسامي كلها سقيت بدماء الشهداء الأبرار.

أما هم - أعني: أعداء الحق و أهله - فسوف يزولون من الأرض و تنتهي جولتهم و يبقي ذلك النور يزداد تألقا و وضوحا حتي يتحقق وعد الله تعالي باتمام نوره و لو كره المشركون.

(و كان خطاب العقيلة كالصاعقة علي رأس يزيد، فقد انهار غروره و حطم كبرياؤه و حار في الجواب، فلم يستطع أن يقول شيئا الا أنه تمثل بقول الشاعر:



يا صيحة تحمد من صوائح

ما أهون النوح علي النوائح



و لم تكن أية مناسبة بين ذلك الخطاب النعيم الذي أبرزت فيه عقيلة الوحي واقع يزيد و جردته من جميع القيم الانسانية و بين ما تمثل به من الشعر الذي أعلن فيه أن الصيحة تحمد من الصوائح و أن النوح يهون علي النائحات، فأي ربط بين الأمرين) [16] .


مما يدل علي ما أحدثه هذا الخطاب في نفس الطاغية حتي بدا مضطربا في كلامه؛ لأن العقيلة كشفت واقعه و واقع أبيه و أسرته لأهل الشام، و مزقت تلك الهالة الخادعة التي كان معاوية قد غلف بها واقعه و واقع أسرته و حكمه.

و كما اتضح مما سبق أن البيان الزينبي كان أكثر انصبابه علي هذه الجهة، و لقد استوفت السيدة كلامها حول هذه النقطةببيان ما عليه من مزيد.


پاورقي

[1] تمثل يزيد بأبيات عبدالله بن الزبعري مما أجمع عليه المؤرخون سواء بعد قتل الامام الحسين عليه‏السلام أو بعد واقعة الحرة في المدينة عام 63، و ذکر تمثل يزيد بهذه الأبيات مع الاختلاف في عددها و التقديم و التأخير کل من ابن‏أعثم في الفتوح ج 5 ص 129 و اللهوف في قتلي الطفوف ص 105 و اللفظ له.

[2] الروم: 10.

[3] آل عمران: 178.

[4] الأعراف: 183 - 182.

[5] سيرة المصطفي ص 595.

[6] يوسف: 92.

[7] سيرة المصطفي ص 604.

[8] الاصابة ج 2 ص 297.

[9] طبقات ابن‏سعد ج 3 ص 260.

[10] آل عمران:169.

[11] نهج‏البلاغة قطعة رقم 36 ص 409 صبحي الصالح.

[12] حياة الامام الحسين ج 3 ص 193.

[13] المجادلة: 22.

[14] نقلنا نص الخطبة من اللهوف لابن‏طاووس ص 108 - 105 و مثير الأحزان لابن نما ص 80 و ص 18 و بحارالأنوار ج 45 ص 133 و اللفظ للأول.

[15] التوبة: 32.

[16] حياة الامام الحسين ج 3 ص 383.