بازگشت

الوسيلة الاعلامية للثورة


كل ثورة في العالم لابد لها من حملة اعلامية لا يصال صوتها الي أسماع الناس، و ذلك من خلال الوسائل الاعلامية المتاحة في عصر تلك الثورة، و كانت الوسيلة الاعلامية للثورة الحسينية المقدسة فريدة من نوعها، لم تستخدم في أي ثورة في العالم، و يتمثل ذلك في مسيرة السبي التي تعرضت لها عائلة الامام الحسين عليه السلام من أطفال و نساء من بعد الواقعة.

ففي تلك المسيرة استطاع سبايا أهل البيت أن يعطوا الثورة بعدها الاعلامي و القوة التأثيرية في نفوس الجماهير، بحيث لو لا هذا الدور لاستطاع النظام الأموي أن يشوه الثورة و يقوم بعملية التعتيم علي أهدافها و القضاء علي نتائجها، كما يحصل للكثير من الحركات الاصلاحية في العالم حينما يقضي عليها في مهدها، و بما أن الطرف المضاد هو الذي يملك وسائل القوة بما في ذلك القوة الاعلامية، فانه يستطيع أن يشوه صورة تلك الحركة في ذهنية الرأي العالم الي الحد الذي يصبح الناس فيه ناقمين علي تلك الحركة الاصلاحية و يقفون منها موقف المواجهة، مع أن تلك الحركة قد تكون في حقيقتها في صالح الناس، و لكن بسبب التعتيم الاعلامي تشوه الصورة.

هكذا سوف يكون مصير الثورة الحسينية لو لا الدور الذي قام به سبايا آل محمد صلي الله عليه و آله، و لذهبت تلك الدماء الزكية هدرا دون أن يكون لها هذا الأثر و هذا العطاء الذي نشاهده و نعيشه.


و هذا مغزي كلمة الامام الحسين عليه السلام حينما سئل عن سبب حمله للنسوة و العائلة مع أنه ماض الي مواجهة النظام الأموي، فقال عليه السلام:

» ان الله شاء أن يراهن سبايا» [1] .

يعني: أن الله تعالي أراد لهن أن يقمن بهذا الدور الذي لا يمكن لأحد من الرجال أن يقوم به في ظرف ما بعد الثورة، نظرا ما للمرأة و كلامها من التأثير العاطفي علي النفوس في اثارة المشاعر و العواطف، و لا سيما اذا كانت المرأة تمتلك مقاليد البيان و تتحلي بالشجاعة الأدبية كحرائر بيت النبوة و علي رأسهن الحوراء زينب بنت علي عليهم السلام. و كذلك ما للمرأة من مكانة خاصة في النفوس لا سيما عند العرب آنذاك، تلك المكانة التي تكسب المرأة حماية اجتماعية خاصة عن التعدي علي حياتها.

من هنا استطاع سبايا أهل البيت أن يفضحوا النظام الأموي بكل قوة و وضوح،

و هذا ما لا يستطيع أحد من الرجال أن يقوم به في تلك الظروف التي كمت فيها الأفواه، فمن تحدث عما جري علي آل محمد فانه يعرض نفسه للموت.

و حتي الامام زين العابدين عليه السلام قد تعرضت حياته للخطر لو لا دفاع عمته الحوراء عليهاالسلام، و ذلك حينما رد علي الطاغية ابن زياد كلامه في مجلسه، عندما التفت الطاغية فرأي الامام فسأله:

من أنت؟ فأجابه الامام:» أنا علي بن الحسين»، فقال الطاغية: أو لم يقتل الله علي ابن الحسين؟ فأجابه الامام بأناة:» كان لي أخ يسمي عليا فقتلوه، و ان له منكم مطالبا يوم القيامة».


فثار ابن زياد في وقاحة و صلف و صاح بالامام: الله قتله، فأجابه الامام بكل شجاعة و ثبات: (الله يتوفي الأنفس حين موتها)، (و ما كان لنفس أن تموت الا باذن الله)».

و دارت الأرض بابن زياد و أخذته عزة الأثم فقد غاظه أن يتكلم هذا الغلام الأسير بهذه الطلاقة و قوة الحجة و الاستشهاد بالقرآن فصاح به: و بك جرأة علي رد جواب و فيك بقية للرد علي. و صاح الرجس الخبيث بأحد جلاديه و قال: خذ هذا الغلام و اضرب عنقه. و طاشت أحلام السيدة زينب و انبرت بشجاعة لا يرهبها سلطان، فأخذت الامام فاعتنقته و قالت لابن مرجانة: حسبك يابن زياد من دمائنا ما سفكت، و هل أبقيت أحدا غير هذا، فان أردت قتله فاقتلني معه.

و انخذل الطاغية و قال متعجبا: دعوة لها، يا للرحم، ودت أنها تقتل معه. [2] .

فنلاحظ هنا لو لا موقف العقيلة زينب عليهاالسلام لقتل الامام زين العابدين عليه السلام.

ف (من الذي يستطيع أن يتكلم و الجو ملبد بالمخاوف، فرأس زعيم الأمة و قائدها الأعلي علي الحراب، و عقائل الرسالة سبايا في المصر، فلم يعد في مقدور أي أحد أن يتلفظ بحرف واحد، فمكت الأفواه و أخرست الألسن و ملئت السجون بالرؤوس و الضروس، و استسلم الجميع لحكم ابن مرجانة) [3] .

الا أن الساحة لم تخل من الغياري الذين يحملون روح المعارضة للنظام، و لكن أي فرد يجرؤ علي رفع صوته منكرا و معارضا فان مصيره القتل كما كان مصير عبدالله بن عفيف الأزدي عندما وقف في وجه ابن زياد حينما صعد الطاغية المنبر و هو في نشوة


الظفر و الانتضار و قال: (الحمد لله الذي أظهر الحق و أهله و نصر أميرالمؤمنين يزيد و حزبه و قتل الكذاب ابن الكذاب الحسين بن علي و شيعته).

نعم، هكذا بلغ الحال بأمة الاسلام و القرآن بأن يصعد منابرها مثل ابن مرجانة و يتكلم بهذا المنطق الذي يقلب الموازين فيجعل الحق باطلا و الباطل حقا و يجعل الصادق كاذبا و الكاذب صادقا.

فمن هو الحسين و من أبوه حتي يوصف بهذه الأوصاف علي منابر أمة جده و علي رؤوس المسلمين، و من هو يزيد و من أبوه حتي يجعلا أهلا للحق و أنصارا له، و لكنها النكسة و الارتداد اللذين أصيبت بهما هذه الأمة، و لكن مهما تعملق الباطل و الطغيان فان كلمة الحق لا تموت، و ان أسكتت دهرا ما فلابد لها أن تعلو في وجه الباطل.

فلما نطق ابن زياد بقول الباطل قام في مجلسه عبدالله بن عفيف الأزدي و كان ضريرا ذهبت احدي عينيه يوم الجمل و الأخري بصفين مع الامام أميرالمؤمنين عليه السلام، و كان لا يفارق المسجد يتعبد فيه، فصاح: يابن مرجانة، الكذاب ابن الكذاب أنت و أبوك و الذي ولاك و ابوه. يابن مرجانة، أتقتلون أولاد الأنبياء و تتكلمون بكلام الصديقي؟!

فصاح ابن زياد: من هذا المتكلم؟ فقال ابن عفيف: أنا المتكلم يا عدو الله، أتقتلون الذرية الطاهرة التي أذهب الله عنهم الرجس و تزعم أنك علي دين الاسلام. واغوثاه، أين أولاد المهاجرين والأنصار لينتقموا من طاغيتك اللعين ابن اللعين علي لسان محمد رسول الله رب العالمين).

... و صاح ابن زياد و قد امتلأ غيضا: علي به.

فبادرت اليه الجلاوزة لتختطفه، فنادي ابن عفيف بشعار أسرته: يا مبرور.


و كان في المجلس من الأزد سبعمائة فوثبوا اليه و أنقذو من أيدي الجلاوزة و جاؤوا به الي منزله.

الا أن الطاغية حينما رأي هذا الموقف من ابن عفيف وعشريته أخذه القلق خوفا من أن يتسع نطاق المعارضة و النقمة فقرر أن يسكت ذلك الصوت، فأصدر أمره باعتقال عبدالله بن عفيف، فجاءت القوة نحو بيته و قام الأزد للدفاع عن ابن عفيف و وقع القتال بين الطرفين الا أن قوات ابن زياد سيطرت علي الموقف و استطاعت أن تقتحم علي ابن عفيف داره، فناولته ابنته سيفا فجعل يذب به عن نفسه و هو يرتجز و يقول:



أنا ابن ذي الفضل العفيف الطاهر

عفيف شيخي و ابن أم عامر



كم دارع من جمعكم و حاسر

و بطل جندلته مغاور



و أخذت ابنته تدل علي المحاربين له فتقول له: يا أبت، أتاك القوم من جهة كذا.

و تكاثروا عليه و أحاطوا به من كل جانب فألقوا القبض عليه و انطلقوا به الي ابن زياد و هو يقول في طريقه:



أقسم لو يفسح لي عن بصري

شق عليكم موردي و مصدري [4] .



و مثل ابن عفيف بين يدي الطاغية، و بعد حوار بينهما أمر ابن زياد بقتله ليخمد هذا الصوت في نظره، و لم يعلم ابن مرجانة أن صوت ابن عفيف لا يمكن أن يسكت؛ لأنه صدي لصوت الحق الذي ارتفع من أرض كربلاء، و سوف يبقي عاليا في وجه الطغيان و الانحراف.

و انبري ابن عفيف الي ابن زياد قائلا: (الحمد لله رب العالمين، أما اني كنت أسأل ربي أن يرزقني الشهادة من قبل أن تلدك أمك، و سألت الله أن يجعلها علي يدي ألعن


خلقه و أبغضهم اليه، و لما كف بصري يئست من الشهادة، أما الآن و الحمد لله الذي رزقنيها بعد اليأس و عرفني الاجابة في قديم دعائي) [5] . ثم رزق ابن عفيف و سام الشهادة.

و لا شك أن لهذا الموقف و أمثاله أثرا كبيرا في تأجيج النقمة في النفوس علي النظام الأموي، الا أن الثورة لا زالت في حاجة الي مواقف اعلامية أقوي و أعظم تأثيرا، فهي تحتاج الي مواقف المرأة الايمانية و الجهادية و صوتها الذي لا يقدر النظام علي اسكاته، و يتمثل هذا الدور في مواقف حرائر بيت النبوة بزعامة عقيلة البيت الهاشمي زينب ابنة علي عليه السلام (و قد أعد الحسين عليه السلام النساء للقيام بذلك الدور الاعلامي فيما بعد المعركة، و جعل كل أصحابه و كل شخص في قافلته بما فيهم النساء يدرك الهدف من مسيرته و يستعد لتقبل كل التضحيات و المصاعب، و لا يتوقف عن ممارسة مسؤولياته تجاه التغيير الذي أراده الامام) [6] .

لا سيما زعيمة الركب الحسيني زينب عليهاالسلام التي لم تبدي أي انكسار أمام ما واجهته في مسيرة السبي من المواقف التي أراد منها النظام اذلال العائلة الحسينية، و لكن العقيلة زينب عليهاالسلام دافعت و بقوة عن كرامة أهل البيت عليهم السلام، و وقفت أمام طغيان يزيد و ابن زياد مبرهنة علي أن المرأة المسلمة اذا ما تسلحت بالوعي و القوة في الايمان فان بامكانها أن تؤدي الأدوار الرسالية و الجهاديد التي لا نقل أهميته عن الأدوار التي يقوم بها الرجل.

فحينما أدخل سبايا آل محمد صلي الله عليه و آله علي الطاغية ابن زياد انحازت الحوراء في ناحية من المجلس و معها نساؤها، فقال الطاغية: (من هذه التي انحازت ناحية و معها نساؤها؟


و لم تلتفت اليه الحوراء، فانبرت احدي السيدات فقالت له: هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله، فقال: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم و أبطل أحدوثتكم.

فثارت حفيدة الرسول بشجاعة محتقرة لذلك الوضر الخبيث و صاحت به:

» الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد صلي الله عليه و آله و طهرنا تطهيرا، انما يفتضح الفاسق و يكذب الفاجر و هو غيرنا».

فقال: كيف رأيت صنع الله بأهل بيتك؟ فأجابته الحوراء بقولها:

» ما رأيت الا جميلا، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا الي مضاجعهم، و سيجمع الله بينك و بينهم فتحاج و تخاصم، فانظر لمن الفلج، هبلتك أمك يا ابن مرجانة» [7] .

و فقد الحقير اهابه من هذا التبكيت الموجع و التعريض المقذع و تميز غيظا و غضبا، و هم بأن ينزل بها عقوبته فنهاه عمرو بن حريث و قال له: انها امرأة لا تؤخذ بشي ء من منطقها. فالتفت اليها قائلا: لقد شفي الله قلبي من طاغيتك و العصاة المردة من أهل بيتك.

فأجابته الحوراء قائلة: (لعمري، لقد قتلت كهلي و أبدت أهلي و قطعت فرعي و اجتثثت أصلي، فان يشفك هذا فقد اشتفيت) [8] .


فنلاحظ هنا أن الطاغية لما فقد صوابه هم بأن ينتقم من الحوراء باستخدام القوة؛ لأنه عجز عن مواجهتها بالمنطق و البيان، الا أن عمرو بن حريث تدارك الموقف؛ لأن هذا التصرف لو أقدم عليه ابن زياد من شأنه أن يجر عليه ردة فعل من قبل الحضور في المجلس: لأن المجتمع آنذاك يعتبر مواجهة المرأة بهذا الأسلوب أمرا يجر علي صاحبه نقمة لدي الناس، فكيف و المرأة المواجهة لابن زياد هي بنت أميرالمؤمنين عليه السلام الذي لا يخلوا المجلس من الموالين له، فخشي عمرو بن حريث من ردة الفعل عند الحاضرين لا سيما أن النفوس تعيش حالة الغليان بسبب تلك الفاجعةالكبري.

فمن هنا يتضح أن الفرصة متاحة للنساء أكثر مما هي متاحة للرجال في تلك الظروف المملوءة بالارهاب و كم الأفواه.



پاورقي

[1] اللهوف ص 40 طبع الأعلمي، و البحار ج 44 ص 364.

[2] حياة الامام الحسين ج 3 ص 346.

[3] حياة الامام الحسين ج 3 ص 347.

[4] انظر: الفتوح لابن‏أعثم ج 5 ص 124.

[5] المصدر السابق.

[6] و تنفس الصبح الحسين ص 431.

[7] مثير الأحزان لابن نما الحلي ص 71 طبع الحيدرية، و اللهوف ص 93، و الأمالي للصدوق ص 229، و بحارالأنوار ج 45 ص 115، و العوالم (الامام الحسين) ص 375 و ص 383 و ص 384، و الفتوح لابن‏أعثم ج 5 عص 122، و اللفظ للأول.

[8] حياة الامام الحسين ج 3 ص 342 الي ص 345.