بازگشت

الصبر


المؤشر الثالث من مؤشرات البعد الروحي للثورة الحسينية المقدسة هي ملكة الصبر و الثبات المنقطعة النظير التي كان يتحلي بها أبوالأحرار هو و من معه من أنصاره و أهل بيته و عائلته في مواجهة الموقف الصعبة و الكوارث الشديدة التي لا تقوم لها الجبال الراسية.

و لعمري، فان الطريق الذي سلكه سيدالشهداء - و هو طريق الجهاد و الاصلاح - يقتضي التسلح بالصبر و الثبات و التسليم لقضاء الله تعالي؛ لأنه أشق الطرق و أصعبها و هو طريق الأنبياء و الرسل عبر تاريخ البشرية، فكم لقي أنبياء الله و رسله من المعاناة و المصاعب في سبيل اصلاح أممهم و مجتمعاتهم حتي قتل الكثير منهم في هذا السبيل.


فلقد كان صبر الحسين عليه السلام صبرا ايجابيا لا صبرا سلبيا، كان صبره صبر العمل و الجهاد و التضحية لا صبر الخنوع و الاستسلام، و هذا هو صبر الأنبياء و الرسل علي ما يواجهونه من أممهم و مجتمعاتهم عندما يدعونهم الي الله و يحاولون اصلاح تلك الأمم و المجتمعات، فقد وطنوا أنفسهم علي كل مشاق الطريق و متاعبه، و قد ورث أبوالأحرار منهم ذلك كله، فهو وارث الأنبياء في خطهم و مبادئهم و أهدافهم.

و من هذا المنطلق كان الامام عليه السلام يربط بين شهادته و شهادة بعض الأنبياء السابقين، و يربط بين موقف أعدائه و بين موقف أعداء الأنبياء السابقين كما في جوابه لابن عباس قبيل خروجه من مكة حينما قال:

» هيهات هيهات يابن عباس، ان القوم لن يتركوني و انهم يطلبوني أينما كنت حتي أبايعهم كرها أو يقتلوني، و الله لو كنت في ثقب هامة من هوام الأرض لاستخرجوني منها و قتلوني، و الله انهم ليعتدون علي كما اعتدت اليهود في يوم السبت، و أنا ماض في أمر رسول الله صلي الله عليه و آله حيث أمرني، و انا لله و انا اليه راجعون» [1] .

و هكذا نلمس هذا الربط واضحا في خطاب الامام لعبدالله بن عمر لما أشار علي الامام بمصالحة النظام الأموي و حذره من القتل و القتال، فأجابه الامام قائلا:

» يا أباعبدالرحمن، أما علمت أن من هوان الدنيا علي الله تعالي أن رأس يحيي بن زكريا أهدي الي بغي من بغايا بني اسرائيل،


أما تعلم أن بني اسرائيل كانو يقتلون ما بين طلوع الفجر الي طلوع الشمس سبعين نبيا ثم يجلسون في أسواقهم يبيعون و يشترون كأن لم يصنعوا شيئا، فلم يجعل الله عليهم، بل أمهلهم ثم أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز ذي انتقام، اتق الله يا أباعبدالرحمن و لا تدع نصرتي» [2] .

و انما يريد أبوعبدالله عليه السلام من هذا الحديث عن زكريا و غيره من الأنبياء ليؤكد أن لا فرق بين هدفهم الذي من أجله قتلوا أو حوربوا و بين هدفه الذي خرج من أجله و هو اقامة دين الله و شرعه و الدعوة اليه، فهو قد وطن نفسه علي ما وطن الأنبياء عليه أنفسهم.

قال عليه السلام مؤكدا تصميمه علي تحقيق هدفه:

» رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر علي بلائه فيوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله لحمته، بل هي مجموعة له في حضيرة القدس، تقربهم عينه، و ينجز بهم وعده، و من كان باذلا فينا مهجته موطنا علي لقاءالله نفسه فليرحل معنا، فاني راحل مصبحا ان شاء الله» [3] .

و لعمري، لقد ضرب أبوالأحرار رقما قياسيا في صبره و تحمله و مواجهته لتلك الكوارث التي لم يواجهها حتي الأنبياء، فكان كالطود الأشم الذي لاتحركه الرياح


العاتية، و هو مع ذلك يزود من حوله بروح الصبر و التسليم لقضاء الله تعالي.

فهذه أخته زينب الحوراء تبكي لما تنتظره من فقد الأخوة و باقي الرجال، فأقبل عليها الامام مخاطبا لها ليعدها لمهمتها القادمة التي تمثل حلقة من حلقات الثورة، فقال عليه السلام:

» يا أخيه، اتقي الله و تعزي بعزاء الله و اعلمي أن أهل الأرض يموتون و أن أهل السماء لا يبقون، و أن كل شي ء هالك الا وجه الله الذي خلق الأرض بقدرته و يبعث الخلق فيعودون و هو فرد وحده، أبي خير مني و أمي خير مني و أخي خير مني ولي معهم و لكل مسلم برسول الله أسوة» [4] .

و بهذا فقد أمد أبوالأحرار شقيقته بطلة كربلاء بروح العزيمة و الصمود حتي ضربت الحوراء زينب أروع الأمثلة في تاريخ المرأة المسلمة في ميادين الصمود و المواجهة للانحراف و الطاغوت.

لقد فهمت زينب مغزي رسالته - أي الامام - و وعتها جيدا، و هكذا بسطت يديها تحت بدنه المقدس بعد مقتله رافعة طرفها نحو السماء هاتفة:

» اللهم تقبل منا هذا القربان».

و صمدت بقوة غريبة أمام أكبر كارثة يمكن أن تحل بامرأة قتل أهل بيتها و حماتها في لحظات قصيرة [5] .


و هكذا كانت رجال الامام من حوله يستمدون منه روح الصبر، فقد كان يحثهم علي الصبر و الثبات بوجه العدو الذي كان يتفوق عليهم عددا و عدة، قال عليه السلام:

» صبرا بني الكرام، فما الموت الا قنطرة تعبر بكم عن البؤس و الضراء الي الجنان الواسعة النعيم الدائمة، فأيكم يكره أن ينتقل من سجن الي قصر، و ما هو لأعدائكم الا كمن ينتقل من قصر الي سجن و عذاب، أن أبي حدثني عن رسول الله صلي الله عليه و آله: ان الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر و الموت جسرها هؤلاء الي جناتهم، و جسر هؤلاء الي جهنمهم، ما كذبت و لا كذبت» [6] .

و قال عليه السلام مخاطبا أهل بيته:

» صبرا علي الموت يا بني عمومتي، لا رأيتم هوانا بعد هذا اليوم» [7] .

و لقد كان بحق هو و تلك الصفوة من حوله أعظم مدرسة للأجيال في الصبر و الصمود و اللامبالاة بالموت في سبيل الأهداف المقدسة، فقد اندفع أولئك الأبطال للقتال بكل صبر و ثبات، فكان كل شخص منهم أراد القتال أتي الحسين فيودعه قائلا: السلام عليك يا أباعبدالله، فيحييه الحسين:» و عليك السلام و نحن خلفك».

و يقرأ: (فمنهم من قضي نحبه و منهم من ينتظر و ما بدلوا تبديلا) [8] .


ان هذا الموقف الذي لم يحدث التاريخ لا يمكن أن يقفه الا الأشخاص الذين يحملون أرواحا قد تجاوزت الحدود الدنيوية المحسوسة فأصبحت تعيش في عالم الملكوت، أو علي حد تعبير أميرالمؤمنين عليه السلام:» أجسادهم في الدنيا و أرواحهم معلقة بالملأ الأعلي».

(كان الشهيد يبدو و كأنه مشهد احتفالي سعيد، و قد أوشكت قافلة الحسين الصغيرة علي بلوغ الهدف... و كان من يسير في مقدمة القافلة يشعر أنه أول من سيرتاح و سيكون في استقبال أصحابه بعد فراق قصير لن يدوم طويلا) [9] .

و يقف أبوالأحرار صامدا يواجه تلك الكوارث بثبات الصابرين قائلا:

» صبرا علي قضائك يا رب، لا اله سواك، يا غياث المستغيثين، ما لي رب سواك، و لا معبود غيرك، صبرا، علي حكمك يا غياث من لا غياث له» [10] .

و ختم أبوالأحرار فصول ملحمته حينما وقع علي الأرض، مزملا بدمائه الزكية علي أثر أصابته بسهم في صدره قائلا:

» بسم الله و بالله و علي ملة رسول الله»

ثم رفع رأسه الي السماء و قال:

» الهي انك تعلم أنهم يقتلون رجلا ليس علي وجه الأرض ابن بنت نبي غيره» [11] .


و وضع يديه تحت الجرح فلما امتلأت دما رمي به نحو السماء و قال:

» هون علي ما نزل بي أنه بعين الله»

فلم يسقط من ذلك الدم قطرة الي الأرض، ثم مد يديه ثانيا فلما امتلأت لطخ به رأسه و وجهه، و قال:

» هكذا أكون حتي ألقي الله و جدي رسول الله و أنا مخضب بدمي» [12] .

و هكذا تبقي يا أباالأحرار مدرسة الأجيال في كل ميدان من ميادين العظمة و النبل و الفضيلة، و تبقي مصباحا للهدي تضي ء للأمة طريقها و تعلم الأحرار كيف يعيشون أو كيف يموتون.


پاورقي

[1] معالي السبطين للشيخ مهدي المازندراني ج 1 ص 246 طبع النعمان.

[2] اللهوف ص 22 طبع الأعلمي، و البحار ج 44 ص 364.

[3] اللهوف ص 38، و تقدمت بقية المصادر في ص 54 هامش 2.

[4] موسوعة کلمات الامام الحسين ص 414.

[5] و تنفس صبح الحسين ص 316.

[6] معاني الأخبار للشيخ الصدوق ص 289 تحقيق علي أکبر الغفاري.

[7] و تنفس الصبح الحسين ص 319.

[8] الأحزاب: 23.

[9] و تنفس صبح الحسين ص 327.

[10] مقتل الحسين للمقرم ص 283 طبع قم.

[11] اللهوف لابن طاووس ص 71 طبع الأعلمي.

[12] مقتل الحسين للمقرم ص 279.