بازگشت

الدعاء


ان الدعاء يمثل ظاهرة أخري من ظواهر التعلق و الانشداد من العبد نحو خالقه تعالي، و قد جاء التأكيد والحث عليه في الكتاب و السنة) و قد لا يكون الانسان مبالغا اذ قال: لم تهتم شريعة من الشرائع السماوية كشريعتنا الاسلامية بالدعاء و التوجه اليه تعالي، و قد جاء ذلك واضحا في الآيات القرآنية و الأخبار المروية عن النبي و خلفائه عليهم السلام،حيث تناولت الدعاء من وجوه عديدة) [1] .

فمن القرآن الكريم قوله تعالي: (و اذا سألك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداع اذا دعان) [2] و قال تعالي: (ادعوا ربكم تضرعا و خفية انه لا يحب المعتدين) [3] .


و عن الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله:» ان الدعاء سلاح المؤمن و عمود الدين و نور السماوات و الأرض» [4] .

و عنه صلي الله عليه و آله:» الدعاء مخ العبادة» [5] .

(كما أن مخ الانسان يقوم عليه الانسان فكذلك الدعاء تقوم عليه العبادة) [6] ؛ لأن الدعاء يضع الانسان الداعي في مقام الاعتراف بالحاجة و الفقر المطلق أمام الغني المطلق.

و قد روي عن النبي و أهل بيته المعصومين أدعية كثيرة في مختلف الأوقات من ساعات الليل و النهار و مختلف المناسبات من أيام الأسبوع و الأعياد و غيرها، و قد طرح المعصومون في تلك النصوص من الأدعية مختلف المسائل المتعلقة بالرسالة الالهية من فكرية و عقدية و أخلاقية و سلوكية، بالاضافة الي البعد الروحي التي تتضمنه تلك الأدعية حتي أصبحت مدرسة الدعاء في الاسلام من أشمل و أعمق المدارس.

و ان من أشهر و أعظم الأدعية الواردة عن المعصومين عليهم السلام الدعاء المعروف بدعاء عرفة الوارد عن الامام الحسين الشهيد عليه السلام، و يعتبر هذا الدعاء من أجل الأدعية و أعظمها من حيث المضامين التي أشار اليها أبوالأحرار في دعائه و التي تعتبر من أرقي و أدق ما طرح في مقام التوحيد و العرفان و سائر المعارف الأخري.

فتأمل في الجمل الآتية من الدعاء حينما يتحدث الدعاء عن مقام الانسان أمام ربه فيضعه في مقامه المناسب فيشعره بضآلة وجوده ليعيش الانسان بعيدا عن كل غرور


بسبب ما في يده من أسباب و اضافات يضيفها الي نفسه في الحياة من مال و علم أو جاه أو غير ذلك.

قال عليه السلام:» الهي أنا الفقير في غناي فكيف لا أكون فقيرا في فقري:، الهي أنا الجاهل في علمي فكيف لا أكون جاهلا في جهلي، الهي ان اختلاف تدبيرك و سرعة طواء مقاديرك منعا عبادك العارفين بك عن السكون الي عطاء و اليأس منك في بلاء، الهي مني ما يليق بلؤمي و منك ما يليق بكرمك» [7] .

و تأمل كذلك في اشارته عليه السلام الي طريق معرفة الله تعالي كيف يتجاوز ما أطلق عليها عنوان الآثار و هي الآثار الكونية في دلالتها علي خالقها تعالي، و سلك الامام طريقا أسمي و أرفع لمعرفة المولي تعالي.

قال عليه السلام:» الهي ترددي في الآثار يوجب بعد المزار، فأجمعني عليك بخدمة توصلني اليك، كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر اليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتي يكون هو المظهر لك، متي غبت حتي تحتاج الي دليل يدل عليك، و متي بعدت حتي تكون الآثار هي التي توصل اليك، عميت عين لا تراك عليها رقيبا، و خسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيبا. الهي أمرت بالرجوع الي الآثار فأرجعني اليك بكسوة الأنوار و هداية الاستبصار، حتي أرجع اليك منها كما دخلت اليك منها، مصون السر عن النظر اليها، و مرفوع الهمة عن الاعتماد عليها، انك علي كل شي ء قدير» [8] .

و لعل الامام عليه السلام يشير هنا الي طريق المعرفة بالله الذي يطلق عليه العلماء عنوان (العلم الحضوري) و هو شعور الانسان بوجود الله و حضوره شعورا باطنيا روحيا من


غير الالتفات الي ما حوله من آيات و آثار، و يعتبر هذا الطريق أشرف الطرق و أصدقها في معرفته سبحانه.

و يقابله الطريق الآخر المسمي ب(العلم الحصولي) و هو معرفته تعالي عن طريق الآيات و الآثار و الاستدلال بها علي وجود صانعها تعالي:

و أما الدعاء في المسيرة الثورية لسيدالشهداء عليه السلام فانه أبرز الظواهر و الممارسات الحسينية يوم الطف، فانه لا زال يتضرع الي الله تعالي في سائر أحواله و مواقفه، بحيث ان القاري ء لملاحم الطف لا يكاد يجد فاصلا بين ملاحم الجهاد و بين مواقف الصلاة و الدعاء، فكلها معارج نحو الله و ملكوته، فهي متداخلة الخطوط، بل هي خط واحد في مسيرة سيدالشهداء و ممارساته عليه السلام، فقبل بداية الحرب من يوم عاشوراء و بعد استعداد الطرفين للقتال خرج الامام من خيمته فرأي البيداء قد ملئت خيلا و رجالا، و قد شهرت السيوف و الرماح و هم يتعطشون الي اراقة دمه و دماء البررة من أهل بيته و أصحابه لينالوا الأجر الزهيد من ابن مرجانة، فدعا عليه السلام بمصحف فنشره علي رأسه و أقبل علي الله يتضرع قائلا:

» اللهم أنت ثقتي في كل كرب و رجائي في كل شدة، و أنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة، كم من هم يضعف فيه الفؤاد و تقل فيه الحيلة و يخذل فيه الصديق و يشمت فيه العدو، أنزلته بك و شكوته اليك رغبة مني اليك عمن سواك، ففرجته و كشفته و كفيته، فأنت ولي كل نعمة و صاحب كل حسنة و منتهي كل رغبة» [9] .


بهذا الدعاء بدأ الامام عليه السلام المواجهة مع أعدائه ليؤكد هدفه المقدس من هذه المعركة، فهو يقف و يقاتل لا لأجل مطامع دنيوية من حكم أو مال أو جاه و ما شاكل ذلك، انما قتاله و جهاده من أجل الله و لله فقط، (و دعاؤه جدير بأن يلتفت اليه و يدرس دراسة واعية متبصرة، و كلماته جديرة بأن تردد في كل موقف عصيب يتسلط فيه الظالمون و يتغلبون و يسيطرون علي الأمة المستضعفة المهانة الذليلة) [10] .

و من أدعية الامام في يوم الملاحم الجهادية - يوم عاشوراء - دعاؤه عندما قدم ضحية من ضحاياه علي مذبح شهادة و هو طفله عبدالله الرضيع حينما ذبح علي يديه بعد ما عرضه علي الأعداء ليسقوه شيئا من الماء، و قد أغمي علي الطفل من شدة العطش كما يقول المؤرخون.

و انبري الباغي اللئيم حرملة بن كاهل فسدد له سهما و جعل يضحك ضحكة الدناءة و هو يقول أمام اللئام من أصحابه: (خذ هذا فاسقه). و اخترق السهم - يالله - رقبة الطفل. و لما أحس بحرارة السهم أخرج يديه من القماط و جعل يرفرف علي صدر أبيه كالطير المذبوح، و انحني الطفل رأسه الي السماء فمات علي ذراع أبيه... و رفع الامام يديه و كانتا مملوءتين من ذلك الدم الطاهر، فرما به نحو السماء فلم تسقط منه قطرة واحدة الي الأرض - حسبما يقول الامام الباقر عليه السلام - و أخذ يناجي ربه قائلا:

» هون ما نزل بي أنه بعين الله تعالي. اللهم لا يكون أهله عليك من فصيل؛ الهي ان كنت حبست عنا النصر فاجعله لما هو خير منه، و انتقم لنا من الظالمين، و اجعل ما حل بنا في العاجل


ذخيرة لنا في الآجل. اللهم أنت الشاهد علي قوم قتلوا أشبه الناس برسولك محمد صلي الله عليه و آله».

و نزل الامام عن جواده و حفر لطفله بجفن سيفه حفرة و دفنه مزملا بدمائه الزكية، و قيل: انه ألقاه مع القتلي من أهل بيته [11] .

و من هذه المناجاة يشعر الانسان بأن هذا الشهيد العظيم كلما قدم قربانا لله تعالي ازداد تعلقا به و انشدادا اليه، فتهون عليه أشد تلك الكوارث وقعا و ايلاما، فهو يقول:» هون ما نزل بي أنه بعين الله».

و كانت آخر مناجاته بعد ما انتهي من ترتيل الجهاد و أدي سيفه دوره و أخذ مأخذه من رقاب أولئك المارقين، و بعد أن أثخن بالجراح أخذ يناجي ربه قائلا:

» اللهم متعالي المكان، عظيم الجبروت:، شديد المحال، غني عن الخلائق، عريض الكبرياء، قادر علي ما تشاء، قريب الرحمة، صادق الوعد، سابغ النعمة، حسن البلاء، قريب اذا دعيت، محيط بما خلقت، قابل التوبة لمن تاب اليك، قادر علي ما أردت، و مدرك ما طلبت، وشكور اذا شكرت، و ذكور اذا ذكرت. أدعوك محتاجا، و أرغب اليك فقيرا، أفزع اليك خائفا، و أبكي اليك مكروبا، و أستعين بك ضعيفا، و أتوكل عليك كافيا، احكم بيننا و بين قومنا فانهم غرونا و خدعونا و خذلونا و غدرو


بنا و قتلونا، و نحن عترة نبيك و ولد حبيبك محمد بن عبدالله الذي اصطفيته بالرسالة و ائتمنته علي وحيك، و اجعل لنا من أمرنا فرجا و مخرجا برحمتك يا أرحم الراحمين» [12] .

هكذا يختم أبوالأحرار لحظات حياته و مواقف جهاده ليبرهن للأجيال أن كل ما أعطاه في هذه الثورة المقدسة من تضحيات و دماء انما هي من أجل الله و الحفاظ علي رسالته، فهو يتضرع الي خالقه تعالي و قد كسته الدماء القانية التي رسم بها للأمة طريق لحياة الحرة الكريمة، و كتب بها صفحات الاباء لتقرأها الأجيال كلما ضعفت في نفوسها روح التضحية و الجهاد لتبعث من جديد.


پاورقي

[1] أضواء علي دعاء کميل ص 48.

[2] البقرة: 186.

[3] الأعراف: 55.

[4] أصول الکافي باب الدعاء سلاح المؤمن ج 2 ص 468.

[5] وسائل الشيعة ج 27 حديث 8615 طبع آل البيت.

[6] أضواء علي دعاء کميل ص 51.

[7] مفاتيح الجنان ص 354.

[8] مفاتيح الجنان ص 355، و الاقبال السيد بن طاووس ص 660 طبع الأعلمي. و فيه بعض الاختلاف في اللفظ.

[9] الارشاد للشيخ المفيد ج 2 ص 96 طبع آل البيت، و البحار ج 45 ص 5، و رواه الشيخ الطوسي في تهذيب الأحکام ج 3 ص 84 في غير المناسبة.

[10] و تنفس صبح الحسين ص 320.

[11] مقتل الحسين للمقرم ص 273 عن عدة مصادر.

[12] مصباح المجتهد للشيخ الطوسي ص 572 طبع الأعلمي، و المزار لمحمد بن المشهدي ص 399، و البحار ج 98 ص 348.