بازگشت

الانسان بين حب الله و حب الدنيا


و بما أن الروح هي التي تمثل حقيقة الانسان فان استقامته و انحرافه و ارتفاعه و انحطاطه و كماله و نقصه يدور كل ذلك مدار ما يحمل من ملكات و مقومات روحية و معنوية، و الجدير بالذكر أنه لابد للانسان من جهة يتعلق بها روحيا، فيكون ذلك التعلق هو المحور الأساسي الذي تدور عليه نشاطات الانسان و ممارساته في الحياة، و هذه الجهة مرددة بين محورين بين الله الخالق تعالي و بين عالم المادة المحدود و الحياة الدنيوية الزائلة، و حقيقة هذا التعلق هو الحب و العشق للمتعلق به، أي أن الانسان يعيش بين هذين المحورين، فمتي جذبه أحدهما تلاشت علاقته بالآخر.

فاذا كان الانسان مرتبطا بالله تعالي ارتباطا روحيا صحيحا - و هذا هو الايمان - فقد أصبح يملك محور كماله و استقامته و تعاليه و سعادته، و بقدر ما يكون هذا الارتباط قويا و ثابتا في أعماق وجود الانسان فانه يملك القوة في مواقفه و تسطبغ حياته بالصبغة الالهية الربانية، و متي ما هذا الارتباط بين الانسان و خالقه فان حياته تتسم بالضعف و التذبذب.

و أما اذا تلاشي أو انقطع هذا الارتباط فان حياة الانسان سوف تتخذ منحي آخر بعيدا عن فطرته و انسانيته و كماله؛ لأنه قد جذبه القطب الآخر و هو حب الدنيا، و بذلك سوف تختلف مظاهر حياته و أساليب تعامله مع الحياة و الأشياء من حوله.


و في الحديث عن أبي عبدالله عليه السلام قال:» رأس كل خطيئة حب الدنيا» [1] .

و عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام:» جعل الخير كله في بيت، و جعل مفتاحه الزهد في الدنيا» [2] و عنه عليه السلام» حرام علي قلوبكم أن تعرف حلاوة الايمان حتي تزهد في الدنيا» [3] و عنه عليه السلام:» اذا تخلي المؤمن من الدنيا سما و وجد حلاوة حب الله... فلم يشتغلوا بغيره» [4] .

فالتعلق بالله تعالي و الحب الصادق له لا يجتمع مع التعلق بالدنيا و حبها، فانهما نقيضان لا يجتمعان، فان حقيقة التعلق بالله تعالي هو أن يعيش العبد حالة من الحب و العشق الالهي فيبني علاقه بالأشياء من حوله علي أساس هذا الحب.

و ان من لوازم هذا الحب هو الطاعة و الاستقامة علي صراط الله تعالي في الحياة كما يشير الي ذلك قوله تعالي: (قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) [5] .

و من معطيات هذا الحب و آثاره أن يحب العبد في الله و يبغض في الله كما في الحديث عن الامام الصادق عليه السلام:» ود المؤمن في الله من أعظم شعب الايمان، ألا و من أحب في الله و أبغض في الله و أعطي في الله و منع في الله فهو من أصفياء الله» [6] .

و عن الامام زين العابدين عليه السلام:» اذا جمع الله عز و جل الأولين و الآخرين قام مناد فنادي يسمع الناس، فيقول: أين المتحابون في الله، قال: فيقوم عنق من الناس فيقال لهم: اذهبوا الي الجنة بغير حساب» [7] .


و هذا الحب الذي بين المؤمنين انما ترشح عن حبهم الله تعالي حيث يجمعهم هذا الحب و يربط بين قلوبهم.

أما هذا الحب في قلوب الأولياء و الدعاة الربانين فانه يصل الي درجة يترشح منها حتي علي الأعداء و المبغضين، فيعيش الداعية الرباني التألم و الحسرة علي أعدائه حيث يعيشون الشقاء و البعد عن الله تعالي، فيبذل كل جهده من اجل انقاذهم و اخراجهم من دائرة الشيطان الي دائرة الرحمن.

فهذا سيدالشهداء الامام الحسين عليه السلام يخاطب أعداءه و هو في حالة حرب معهم و قد تألبوا عليه و صمموا علي قتله محذرا لهم من مغبة ما هم فيه من الركون الي الدنيا، فقال عليه السلام:

» الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء و زوال، متصرفة بأهلها حالا بعد حال، فالمغرور من غرته و الشقي من فتنته، فلا تغرنكم هذه الدنيا، فانها تقطع رجاء من ركن اليها، و تخيب طمع من طمع فيها. أراكم قد اجتمعتم علي أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم، و أعرض بوجهه الكريم عنكم، و أحل بكم نقمته و جنبكم رحمته. فنعم الرب ربنا و بئس العبيد أنتم، أقررتم بالطاعة و آمنتم بالرسول محمد صلي الله عليه و آله ثم انكم زحفتم الي ذريته و عترته تريدون قتلهم، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم فتبا لكم و لما تريدون، وانا لله و انا اليه راجعون. هؤلاء قوم كفروا بعد ايمانهم فبعدا للقوم الظالمين.» [8] .


و قال عليه السلام: في خطاب له آخر محذرا من الاغترار بالدنيا الزائلة و كيف جعلها أولئك القوم بديلا عن حب الله تعالي:

» عباد الله اتقوا الله و كونوا من الدنيا علي حذر، فان الدنيا لو بقيت لأحد و بقي عليها أحد لكانت الأنبياء أحق بالبقاء و أولي بالرضا و أرضي بالقضاء، غير أن الله تعالي خلق الدنيا للبلاء و خلق أهلها للفناء، فجديدها بال، و نعيمها مضمحل، و سرورها مكفهر، و المنزل بلغة، و الدار قلعة، فتزودوا فان خير الزاد التقوي، و اتقوا الله لعلكم تفلحون» [9] .

و لا شك في أن هذه التحذيرات من الامام لأولئك القوم انما يريد بها انقاذهم من هذا السقوط الذي وقعوا في بؤرته؛ رحمة بهم و اشفاقا عليهم.

و أما هذا الحب الالهي في حياة الشهداء و المجاهدين فانه يمثل القاعدة التي ينطلق منها المجاهد نحو ميادين التضحية و الجهاد مندفعا بدافع الشوق الي لقاء المحبوب و الانتقال الي جواره، قال الامام الحسين الشهيد عليه السلام:

» و ما أولهني الي أسلافي اشتياق يعقوب الي يوسف، و خير لي مصرع أنا لاقيه». [10] .


فشوق أبي الأحرار الي أسلافه ناشي ء من شوقه الي لقاء الله لينظم الي قافلة الأنبياء و هداة البشرية في مقعد صدق عند مليك مقتدر، و قد ترشح هذا الشوق علي أرواح تلك الصفوة ممن حوله عليه السلام، فلقد قام فيهم خطيبا ليلة العاشر من المحرم فقال:

» اللهم اني لا أعرف أهل بيت أبر و لا أزكي و لا أطهر من أهل بيتي، و لا أصحابا هم خير من أصحابي، و قد نزل بي ما قد ترون و أنتم في حل من بيعتي، ليست في أعناقكم بيعة و لا لي عليكم ذمة، و هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا و تفرقوا في سواده، فان القوم انما يطلبونني، و لو ظفروا بي لذهلوا عن طلب غيري» [11] .

(فقالوا: لا و الله لا يكون هذا أبدا. قال عليه السلام:

» انكم تقتلون غدا كذلك (كلكم خ ل) لا يفلت منكم رجل).

قالوا: الحمد لله الذي شرفنا بالقتل معك، ثم دعا و قال لهم:» ارفعوا رؤوسكم و انظروا»، فجعلوا ينظرون الي مواضعهم و منازلهم من الجنة و هو يقول لهم:» هذا منزلك يا فلان و هذا قصرك يا فلان و هذه درجتك يا فلان».


و كان الرجل يستقبل الرماح و السيوف بصدره و وجهه ليصل الي منزله من الجنة) [12] .

هكذا تفاعلت أرواحهم مع حب الله و الشوق اليه حتي لم يعد أحدهم يري غير عالم الملكوت، و لا غاية يريدها الا الانتقال الي جوار الله تعالي.



پاورقي

[1] أصول الکافي ج 2 ص 315.

[2] أصول الکافي ج 2 ص 128 حديث 2.

[3] أصول الکافي ج 2 ص 128 حديث 2.

[4] الکافي ج 2 ص 30 حديث 10.

[5] آل عمران: 31.

[6] أصول الکافي ج 2 ص 125 حديث 3 في باب الحب في الله.

[7] المصدر السابق ج 2 ص 126 حديث 8.

[8] بحارالأنوار ج 45 ص 6 - 5، و العوالم (الامام الحسين) ص 249، و مقتل الحسين للخوارزمي ج 1 ص 252.

[9] حياة الامام الحسين ج 3 ص 282.

[10] تقدمت مصادره في ص 54 هامش 2.

[11] الأمالي للشيخ الصدوق ص 220، و بحارالأنوار ج 44 ص 316، و العوالم (الامام الحسين) ص 165.

[12] الخرائج و الجرائح للقطب الراوندي ج 2 ص 847 ص 848 حديث 62، و عنه في البحار ج 44 ص 298، و العوالم ص 350.