بازگشت

المجتمع الكوفي و استجابة الامام لرسائلهم


يعد المجتمع الكوفي من أغرب و أعقد المجتمعات في تركيبته الاجتماعية في عهد الثورة الحسينية، حيث كانت الكوفة من أعظم الأمصار الاسلامية و أكثرها كثافة سكانية، و بدأ تاريخها الاسلامي في السنة السابعة عشرة للهجرة بعد فتح العراق مباشرة و مصرها المسلمون في تلك السنة [1] .

(و كان بناؤها الأول بالقصب فأصابها حريق فنبيت باللبن، و كانت شوارعها العامة بعرض عشرين ذراعا بذراع اليد، و أزقتها الفرعية بعرض سبعة أذرع، و ما بين الشوارع أماكن البناء و هي بسعة أربعين ذراعا و القطايع و هي بسعة ستين ذراعا..

و زاد عمران الكوفة زيادة مفاجئة حين هاجر اليها أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فاتخذها مقرا له بعد وقعة الجمل سنة 36 للهجرة، و كان دخوله اليها في الثاني عشر من شهر رجب... و تقاطر علي الكوفة - اذ هي عاصمة الخلافة - كبار المسلمين من مختلف الآفاق و سكنتها القبائل العربية من اليمن و الحجاز و الجاليات الفارسية من المدائن و ايران...

و غلب علي الكوفة تحت ظل الحكم الهاشمي التشيع لعلي و ولده عليه السلام، ثم لم ينزل طابعها الثابت اللون، و وجد معه بحكم اختلاف العناصر التي يممت المصر الجديد


أهواء مناوئة أخري كانت بعد قليل من الزمن أداة الفتن في أكثر ما عصفت بالكوفة من الزعازع التاريخية و الرجات العنيفة لها و عليها) [2] .

فبمقتضي تعدد القوميات و الفئات و القبائل فلابد أن تتعدد النزعات و الأهواء و المصالح، كل قومية لها خصائصها الفكرية و النزعات الخاصة في الحياة، و كل قبيلة تعيش اطارها القبلي الضيق، و كل فئة تحمل همها المصلحي الدنيوي الخاص؛ لأن جميع هذه الأطراف لم تصل في الوعي الاسلامي مستوي تذوب عنده الفوارق و النزعات و الاتجاهات، فتكون النتيجة الطبيعية لهذه التركيبة الاجتماعية أن تبرز التناقضات في الموقف و يكون المجتمع مهيئا للفرقة و التشتت و التقلب.

و نلمس هذا من المعاناة التي عاناها أميرالمؤمنين علي عليه السلام في تربيته لهذا المجتمع، و قد وصف عليه السلام ذلك المجتمع بقوله:» انهم أناس مجتمعة أبدانهم مختلفة أهواؤهم، و ان من فاز بهم فاز بالسهم الأخيب، و أنه أصبح لا يطمع في نصرتهم و لا يصدق قولهم» [3] .

و في خطبة له عليه السلام شخص تلك التناقضات التي يعيشها ذلك المجتمع، و أشار الي المعاناة التي عاشها معهم و المرارة التي تجرعها في سبيل تقويمهم، قال عليه السلام:» لقد أصبحت الأمم تخاف تظلم رعاتها و أصبحت أخاف ظلم رعيتي، استنفرتكم للجهاد فلم تنفروا، و أسمعتكم فلم تسمعوا، و دعوتكم سرا و جهرا فلم تستجيبوا، و نصحت لكم فلم تقبلوا، أشهود كغياب و عبيد كأرباب، أيها الشاهدة أبدانهم الغائبة عقولهم المختلفة أهواؤهم، المبتلي بهم أمراؤهم، صاحبكم يطيع الله و أنتم تعصونه، و صاحب أهل الشام يعصي الله و هم يطيعونه، لوددت و الله أن معاوية صارفني بكم


صرف الدينار بالدرهم فأخذ مني عشرة منكم و أعطاني رجلا منهم.

يا أهل الكوفة، منيت بكم بثلاث و اثنتين: صم ذوو أسماع، و بكم ذوو كلام، و عمي ذوو أبصار، لا أحرار صدق عند اللقاء، و لا اخوان ثقة عند البلا، تربت أيديكم، يا أشباه الابل غاب عنها رعاتها، كلما جمعت من جانب تفرقت من جانب» [4] .

لقد أعطي أميرالمؤمنين علي عليه السلام الصورة الواضحة للظواهر الاجتماعية و الأخلاقية للمجتمع الكوفي، و لقد كانت تجربة أميرالمؤمنين عليه السلام مع هذا المجتمع تجربة مرة و كذلك تجربة ولديه الامامين الحسن و الحسين عليه السلام.

أما التشيع الذي ذكر أنه كان طابعا واضحا علي مجتمع الكوفة فاني لا أعتقد أن ذلك التشيع هو ذلك الايمان الصحيح الواعي لقضية أهل البيت و موقعهم من القرآن و الرسالة، و الذي يعني الفهم الصحيح للامامة و موقعها من العقيدة الاسلامية و أنها صنو الرسالة.

نعم، توجد شريحة في ذلك المجتمع تحمل هذا الايمان و هذا الوعي الا أنها قليلة بالقياس الي كثافة ذلك المجتمع، و هذه الشريحة هي التي كان نصيبها المطاردة و القتل و السجن و التجويع من قبل الحكام الأمويين. أما التشيع الذي كان واضحا علي المجتمع الكوفي في عهد أميرالمؤمنين عليه السلام فانه التشيع العاطفي المجرد من الوعي الرسالي، و هذا المستوي من التشيع ليس له ذلك التأثير الثابت علي مواقف الانسان، فسرعان ما يتغير و يتأثر بالمؤثر الخارجية من ترغيب أو ترهيب، و هذه هي السمة البارزة علي مجتمع الكوفة، و قد شخصها الفرزدق عند لقائه مع سيدالشهداء في أثناء الطريق في منطقة تسمي ب(الصفاح).


(قال الفرزدق للامام عليه السلام: (بأبي أنت و أمي يا بن رسول الله، ما أعجلك عن الحج)، فأجابه بأسلوب الحكيم:» لو لم أعجل لأخذت»، فلم يطل معه ثم سأله الامام عن أوضاع الكوفة، فقال الفرزدق: (قلوب الناس معك و سيوفهم مع بني أمية)، و أضاف قائلا: (و القضاء ينزل من السماء و الله يفعل ما يشاء، و ربنا كل يوم هو في شأن (فصادق الامام علي ما تنزله و تقتضيه ارادة السماء فقال:» صدقت، لله الأمر من قبل و من بعد يفعل الله ما يشاء و كل يوم ربنا في شأن، ان نزل القضاء بما نحب فنحمد الله علي نعمائه و هو المستعان علي أداء الشكر و ان حال القضاء دون الرجاء فلم يتعد من كان الحق نيته و التقوي سريرته».

و أردف عليه السلام قائلا:



لئن تكن الدنيا تعد نفيسة

فدار ثواب الله أعلي و أنبل



و ان كانت الأبدان للموت أنشئت

فقتل امري ء بالسيف في الله أفضل



و ان كانت الأرزاق شيئا مقدرا

فقلة سعي المرء في الرزق أجمل



و ان كانت الأموال للترك جمعها

فما بال متروك به المرء يبخل




ففهم الفرزدق صرامة الامام و عزمه المقدام علي المضي حتي الفتح الأكبر) [5] .

فنلاحظ هنا أن الفرزدق قد شخص حالة مجتمع الكوفة آنذاك و بأنه يعيش حالة من الانشطار ما بين واقعه النفسي و العاطفي و بين المواقف العملية تجاه الامام، فهو يحمل عاطفة تجاه الحسين عليه السلام و لكن لما كانت هذه العاطفة لم يكن منشؤها الوعي الايماني المبني علي الفهم الصحيح لدور أهل البيت و موقعهم القيادي في حياة الأمة، لما لم تكن هذه العاطفة كذلك لم يكن لها أي أثر علي موقف ذلك المجتمع تجاه الامام عليه السلام.

و قد كشف أبوالأحرار في خطبته يوم عاشوراء الواقع السي ء لذلك المجتمع، حينما قال عليه السلام و قد وجه خطابه اليهم قائلا لهم:

» تبا لكم أيتها الجماعة و ترحا، أفحين استصرختمونا و الهين فأصرخناكم موجفين سللتم علينا سيفا لنا في أيمانكم،


و حششتم علينا نارا اقتدحناها علي عدونا و عدوكم، فأصبحتم البا لأعدائكم علي أوليائكم بغير عدل أفشوه فيكم و لا أمل أصبح لكم فيهم، فهلا لكم الويلات، تركتمونا و السيف مشيم و الجأش طامن و الرأي لما يستحصف، و لكن أسرعتم اليها كطيرة الدبا و تداعيتم عليها كتهافت الفراش، ثم نقضتموها، فسحقا لكم يا عبيد الأمة و شذاذ الأحزاب و نبذة الكتاب و محرفي الكلم و عصبة الآثام و نفثة الشيطان و مطفئي السنن. و يحكم، أهؤلاء تعضدون و عنا تخاذلون. أجل و الله، الغدر فيكم قديم و شجت اليه أصواتكم و تآزرت عليه فروعكم، فكنتم أخبث ثمرة شجي للناظر و أكلة للغاصب. [6] .

و أي تصوير أدق من هذا التصوير لما اتصف به ذلك المجتمع من مظاهر اجتماعية منحرفة و ما ساده من النزعات الشيطانية و الرذائل الخلقية من سرعة التلون و الغدر و الانقلاب علي من جاء ملبيا استغاثتهم ليخلصهم من ربقة الذل الذي كانوا يعيشونه تحت وطأة الظلم من أعدائهم و أعداء الأمة، فسرعان ما وقفوا الي جانب جلاديهم في وجه محرريهم فأصبحوا القوة الضاربة و الأداة المنفذة لمآرب الظالمين.

و قد أصبحوا بذلك من أحط شعوب الأرض، فهم عبيد الأمة و شذاذ الأحزاب و نبذة الكتاب و عصبة الاثم و محرفي الكلم و مطفئي السنن... الي آخر القائمة من الصفات الدنيئة و النزعات الشريرة.


و هنا تأتي الاشكالية و يطرح السؤال نفسه: أما كان الامام الحسين عليه السلام مطلعا علي سلبيات هذا المجتمع و تقلباته؟ ألم يعايش الامام هذا المجتمع الي جانب أبيه أميرالمؤمنين و أخيه الامام الحسن عليهم السلام في محنتهما مع المجتمع الكوفي؟ فكيف يثق الامام في هؤلاء فيستجيب لرسائلهم و دعوتهم بالخروج اليهم حتي حدث ما حدث؟

هذا الأشكال أو هذا التساؤل طالما طرح من قبل الكثيرين في القديم و الحديث، و قد أجيب عليه بوجوه مختلفة تتناسب مع القراءات المختلفة و التفسيرات المتعددة للثورة الحسينية المقدسة، و هنا يأتي الجواب مبنيا علي ما سبق من القراءات لنصوص الثورة فنذكر القاري ء الكريم بما أشرنا اليه سابقا من أن الامام الحسين عليه السلام لم يكن الانتصار العسكري علي الدولة الأموية في حساباته، و أن الهدف المقدس الذي وضعه نصب عينيه و لا هدف سواه هو التضحية و الشهادة لايقاظ الأمة من رقدتها المميتة و تجديد روح الجهاد و مقاومة الفساد و الانحراف، و لتبقي هذه الروح سارية المفعول في حياة الأمة بكل أجيالها.

و ان هذا الهدف و ذلك التصميم لدي سيدالشهداء لم تبعثه رسائل أهل الكوفة، و انما الباعث له هو الشعور بالمسؤولية أمام الله و الاسلام و الأمة؛ لأنه تكليف رباني اندفع الامام للقيام به و امتثاله.

و لم يكن أبوالأحرار يجهل حال المجتمع الكوفي و تناقضاته، الا أن الامام وجد المسير نحو العراق هو أفضل الخيارت ان لم يكن الخيار الوحيد المناسب لهدفه المقدس، لا لأنهم كتبوا اليه فقط، بل لأن العراق أنسب أرضية اجتماعية تتنامي فيه جماهير الثورة فيما بعد الشهادة بالرغم أن المجتمع الكوفي قد نفذ أرادة السلطة الحاكمة في قتال و قتل الامام عليه السلام؛ نظرا الي ما أشرنا اليه فيما سبق من وجود شريحة واعية لقضية أهل البيت مع قلتها، الا أنها تمثل النواة لتنامي هذا الخط مع مرور الأيام.


بالاضافة الي ذلك أن الامام عليه السلام اذا لم يخرج الي العراق فما هو البديل المتصور من بين سائر الأقطار الاسلامية لينطلق منه الامام لأداء رسالته الجهادية، و الخيارات التي يمكن تصورها هي كما يلي.

الخيار الأول: السكوت و التراجع عن الثورة و الاستسلام لذلك الواقع المنحرف عن خط الاسلام، و هذا ما لا يرتضيه الامام لنفسه بأن يعقد عن أداء مسؤوليته الرسالية و يترك الاسلام و الأمة يسيران نحو الهاوية التي يريدها لهما الحكم الأموي.

الخيار الثاني: أن يبقي في مكة فيعلن رفضه لبيعة يزيد و عدم اعترافه بحكمه، و عندها يقتل في داخل الحرم فيهتك حرم الله، و هذا ما يتحاشاه الامام؛ لأنه هو أحرص الناس علي حرمة بيت الله تعالي، و هذا ما أجاب به عليه السلام يقول:» و لئن أقتل و بيني و بين الحرم باع أحب الي من أن أقتل و بيني و بينه شبر، و لئن أقتل بالطف أحب الي من أن أقتل بالحرم.» [7] .

الخيار الثالث: أن يبقي في المدينة المنورة مع رفضه لبيعة يزيد و يواصل أداء تكليفه من هناك و تكون النتيجة بأن يستشهد الامام من دون أن يكون لشهادته أي مد ثوري في حياة الأمة؛ لأن النظام الأموي سوف يعمل علي خنق الثورة في مهدها فلا يترتب عليها الأثر المنشود، علي عكس ما كان لها من أثر عندما قام الامام بتلك المسيرة التي قطعها نحو كربلاء، حيث كان علي مدي أربعة أشهر قد قام بعلمية اعلامية خطيرة لثورته المقدسة، فاستطاع من خلالها أن يضع الأمة أمام مسؤليتها الشرعية.

(انه كان سيذهب الي الكوفة حتي اذا لم تكن دعوتهم له بتلك الحرارة و ذلك الالحاح؛ لأن قضيته تعرضه للخطر المؤكد في المدينة أو مكة دون عرض قضيته


بشكل واضح، و رفعها أمام الأمة كقضية يعتمد عليها مصيرها و وجودها أمر محتم، و حينذاك لن يجني هو أو الأمة أي شي ء جراء ذلك الموت، و ستزور القضية برمتها و تعرض بالشكل الذي يريده الاعلام الأموي ثم يضيع كل شي ء) [8] .

و كذلك الحال لو اختار جهة أخري كاليمن مثلا، فانه لا يتمكن أن يعطي ثورته هذه القوة التي أوجدها في مسيرة الأمة و أجيالها، فلو فعل ذلك (لم يكن ذلك سوي هزيمة أراد بها حفظ حياته التي لم تمتد علي الأغلب الا لبضع سنوات، فهو في منتصف العقد السادس من عمره الشريف، و سينتهي بموته كل شي ء بعد أن يقضي تلك السنوات القليلة معزولا و بعيدا عن الأمة، و ستضيع قضيته و ينتهي كل شي ء و كأن لم يحدث شي ء.

ان الأمة ستسجل في تاريخها أن الحسين عليه السلام قد اكتفي برفض بيعة يزيد و حسب، و قد تهيأت له الظروف الموضوعية للثورة بعد أن دعاه أهل العراق و لم يذهب اليهم، و لو كان قد استجاب لدعوتهم لكانوا قد ساروا خلفه و استجابوا له باخلاص و واجه معهم الدولة الأموية، و ربما أطاح بها و أنه قد أخطأ بقعوده في مكة أو بهروبه الي اليمن لو كان ذلك قد تم فعلا) [9] .

و سوف يترك هذا الموقف أثره السي ء علي مسيرة الأمة، حيث سوف تبقي مستسلمة للجور و الظلم و تستمر في انحدارها المميت الي أن تصبح في حالة يصعب ارجاعها معها الي خطها الصحيح ان لم يكن ذلك مستحيلا.

فكان المضي الي الكوفة هو الخيار الأمثل للامام عليه السلام، و كان تعامله مع رسائل أهل الكوفة تعاملا طبيعيا جدا بغض النظر عن النتائج، فأرسل لهم جوابه الأول الذي


جاء فيه:» أما بعد، فان هانئا و سعيدا قدما علي بكتبكم و كان آخر من قدم علي من رسلكم، و قد فهمت كل الذي قصصتم و ذكرتم و مقالة جلكم انه ليس علينا امام فأقبل لعل الله يجمعنا بك علي الهدي و الحق، و قد بعثت اليكم أخي و ابن عمي و ثقتي من أهل بيتي، و أمرته أن يكتب الي بحالكم و أمركم و رأيكم، فان كتب الي أنه قد أجمع رأي ملئكم و ذوي الفضل و الحجي منكم مثل ما قدمت علي به رسلكم و قرأت في كتبكم أقدم عليكم و شيكا ان شاء الله. فلعمري ما الامام الا العامل بالكتاب و الآخذ بالقسط و الدائن بالحق و الحابس نفسه علي ذات الله و السلام» [10] .

و عندما وصل السفير الحسيني (مسلم بن عقيل الي الكوفة قام بمهمته التي أرسله الامام من أجلها و هي استطلاع أحوال أهل الكوفة و الكتابة الي الامام بما يظهر له من مواقفهم و آرائهم، و قد كان اندفاعهم نحو البيعة اندفاعا سريعا، الا أن كذلك الاندفاع لم يكن نابعا عن شعور بالمسؤولية الشرعية تجاه هذه الثورة و تجاه الرسالة الاسلامية، و انما هو اندفاع عاطفي يتناسب مع الظروف في بداية الأحداث في الكوفة حيث كانت الظروف أشبه بالظروف الطبيعية، فلا ارهاب و لا ارغاب. و لعل الأغلبية الساحقة من المندفعين للبيعة أنما كان اندفاعهم رجاء نجاح الثورة الحسينية في القضاء علي النظام الأموي و استيلاء الامام علي أزمة الحكم قيصيبوا شيئا من عطايا و جوائز الحكم الجديد، و لكن عندما انقلبت الأوضاع بعد دخول ابن زياد الي الكوفة تلاشي ذلك الحماس و تراجع ذلك الاندفاع، بل انقلب الموقف بعد ما كانوا أنصارا للثورة أصبحوا أنصار للنظام الحاكم.


و لعل أبا الأحرار انما يعني هذا المعني حيث يقول عليه السلام:

» فهلا لكم الويلات تركتمونا و السيف مشيم و الجأش طامن و الرأي لما يستحصف، و لكن أسرعتم اليها كطيرة الدبا و تداعيتم عليها كتهافت الفراش، ثم نقضتموها فسحقا لكم» [11] .

و شاءت الأقدار للسفير الحسيني العظيم (مسلم) أن يكون افتتاحية ديوان الشهادة في هذه الثورة المقدسة، حيث قام بمهمته علي أكمل وجه، و أبدي هذا البطل العملاق من البطولة و الجهاد ما يعتبر من أروع ما سجله التاريخ لأبطاله و صانعيه، فانه قد واجه النظام الأموي بكل ما يملك في الكوفة من قوة عسكرية من دون أن يعطي مسلم أي تنازل عن شي ء من مبادئه و أهدافه التي أرسل من أجلها حتي كتب بدمائه أول ملحمة من ملاحم الثورة، و عندما وصل خبر استشهاد مسلم الي الحسين و هو في طريقه الي الكوفة حزن عليه حزنا شديدا و أبنه بقوله:

» رحم الله مسلما، فلقد صار الي روح الله و ريحانه و تحيته و رضوانه» ثم أضاف قوله:» انه قد قضي ما عليه و بقي ما علينا» [12] .

و الجدير بالذكر أن الامام عليه السلام الي الآن - أي في هذا الموقف - لم يصطدم بالنظام و لا زال لديه الفرصة للتراجع عن المضي الي الكوفة لو أراد ذلك، و لكن لما كان تصميمه


السابق مواصلة السير نحو الكوفة حتي يصطدم بالنظام في حرب جهادية و تضحية دموية تهز أركان الحكم الأموي و توجد خطا جهاديا مستمرا، لما كان هذا هدفه استمر في السير و لم ينثن عن عزمه، و بهذا أجاب الامام الحر الرياحي عندما التقي به في الطريق و الحر علي رأس ألف فارس، و قد كلف أن يجوب الصحراء من أجل محاصرة الحسين ليدخله الكوفة بالقوة.

و بعد الجدال الذي حصل بينهما و أصر الامام و بقوة علي عدم اذعانه لارادة الحر قال الحر للامام: أني أذكرك الله في نفسك اني لأشهد لئن قاتلت لتقتلن. أي ان قاتلت فيما بعد، لا يقصد مقاتلة جيشه، اذ لم يكن الحر مستعدا لقتال الامام أبدا... و سخر الامام من التهديد بالقتل، فالقتل في سبيل الله ليس بعار يحذره الامام، بل و سام الشرف الذي لا يدانيه و سام قال الامام:

أفبالموت تخوفني؟ و هل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني، و سأقول كما قال أخو الأوس لابن عمه و هو يريد نصرة رسول الله صلي الله عليه و آله فخوفه ابن عمه و قال: أين تذهب فانك مقتول فقال:



سأمضي و ما بالموت عار علي الفتي

اذا ما نوي حقا و جاهد مسلما



و آسي الرجال الصالحين بنفسه

و فارق مثبورا و باعد مجرما



فان عشت لم أندم و ان مت لم ألم

كفي بك ذلا أن تعيش و ترغما [13] .



و لما سمع الحر ذلك تنحي عنه و عرف أنه مصمم علي الموت و عازم علي التضحية في سبيل غايته الهادفة الي الاصلاح الشامل [14] .


و واصل أبوالأحرار مسيرته حتي حط رحاله بين النواويس و كربلاء و هو مقر المصرع الذي اختير له كما قال عليه السلام:

» و خير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس و كربلاء، فيملأن مني أكراشا جوفا و أجربة سغبا، لا محيص من يوم خط بالقلم» [15] .

و قد شبه الامام الفئة التي تقامت بجريمة قتله ب» عسلان الفلوات»، و هي ذئاب الفلوات، فهم كالوحوش المفترسة التي لا ترحم فريستها، و بهذا قد أخرجها الامام من حيز الانسانية.



پاورقي

[1] صلح الامام الحسن ص 64.

[2] صلح الامام الحسن ص 65.

[3] الامامة و السياسة 138 / 1.

[4] نهج‏البلاغة شرح الشيخ محمد عبده ص 188 و ص 186.

[5] التسيير الذاتي لأنصار الحسين ص 159 و ص 160، هذا و قريب منه أن الامام الحسين عليه‏السلام التقي مع الفرزدق في مکان يقال له: (الشقوق) موضع بعد زبالة للذاهب من الکوفة الي مکة و ذکر الأبيات الأربعة مع بعض الاختلافات، کل ذلک ذکره ابن‏أعثم الکوفي المتوفي نحو 314 ه في الفتوح ج 5 ص 71، و کذلک نقل المقرم عن الخوارزمي في مقتله ج 1 ص 233 و قال: (اشتباه): بينما نقل ابن‏شهر آشوب في مناقب آل أبي‏طالب ج 4 ص 103 طبع دار الأضواء: (فلما نزل شقوق أتاه رجل فسأله عن العراق فأخبره بحاله فقال:» ان الأمر لله يفعل ما يشاء و ربنا تبارک کل يوم هو في شأن، فان نزل القضاء فالحمد لله علي نعمائه و هو المستعان علي أداء الشکر، و ان حال القضاء دون الرجاء فلم يبعد من الحق نيته» ثم أنشد»:



فان تکن الدنيا تعد نفيسة

فدار ثواب الله أعلي و أنبل‏



و ان تکن الأموال للترکي جمعها

فما بال متروک به الحر يبخل‏



و ان تکن الأرزاق قسما مقدرا

فقلة حرص المرء في الکسب أجمل‏



و ان تکن الأبدان للموت أنشئت

فقتل امري‏ء بالسيف في الله أفضل‏



عليکم سلام الله يا آل أحمد

فاني أراني عنکم سوف أرحل‏



فيبدو من ابن‏شهر آشوب أن الذي التقي مع الامام عليه‏السلام رجل غير الفرزدق، و أن الأبيات أنشدها الامام و کانت لغيره، خصوصا مع اضافة البيت الخامس، بينما الذي ذکره ابن‏أعثم و الخوارزمي أن الذي التقي مع الامام عليه‏السلام هو الفرزدق و الأبيات للامام أنشأها.

[6] اللهوف ص 58.

[7] موسوعة کلمات الامام الحسين ص 326.

[8] و تنفس الصبح الحسين ص 446.

[9] و تفنس الصبح الحسين ص 449.

[10] موسوعة کلمات الحسين ص 312 و ص 313، و اللهوف ص 58.

[11] حياة الامام الحسين ج 3 ص 193.

[12] التسيير الذاتي لأنصار الحسين ص 169.

[13] الارشاد للشيخ المفيد ج 2 ص 81 و تقدمت بعض مصادره.

[14] حياة الامام الحسين ج 3 ص 81 و ص 82.

[15] موسوعة الامام الحسين ص 328.