بازگشت

دور الأمويين في هدم ركائز المجتمع الاسلامي


لا شك أن الاسلام له مخطط و منهج خاص لبناء المجتمع المثالي الذي يتناسب مع رسالة السماء، و ذلك من خلال اخضاع الركائز الخمس الاجتماعية السالفة الذكر لقيمومة و توجيهات الوحي الالهي (الدين) لتسير الحياة الاجتماعية بخطي ثابتة علي طريق تكامل الانسان في سيره نحو الله تعالي: (يا أيها الانسان انك كادح الي ربك كدحا فملاقيه) [1] ، و لا يمكن للمجتمع الاسلامي أن يتكامل ليصبح مجتمعا مثاليا فاضلا الا باخضاع جميع ركائزه لتوجيهات الرسالة الالهية.

و لكن عندما استولي الأمويون علي مقاليد السلطة سعوا بكل جهدهم الي خلخلة كل الركائز للمجتمع الاسلامي؛ لأن مخطط الاسلام و منهجه لبناء مجتمعه لا يسمح للحكام الأمويين بأن يتلاعبوا في مقدرات الأمة و المجتمع، فهم علي طرفي نقيض مع مخطط الاسلام الصحيح فعمدوا الي نقض القواعد الأساسية لبناء المجتمع الاسلامي، و بما أن أهم الركائز الاجتماعية و أعظمها تأثيرا في حياة المجتمع سلبا و ايجابا هي ركيزة التربية و التعليم - كما سبق - فقد اجتهد الأمويون في تغيير مسار هذه الركيزة.

أولا: عن طريق ايجاد ثقافة مصطنعة مكذوبة كبديل عن الثقافة الاسلامية الأصيلة، و سخروا وسائل التربية و التعليم المتاحة آنذاك لتربية أجيال الأمة علي هذه الثقافة.


قال العلامة الشيخ القرشي: (و وضعت الحكومة لجان الوضع و رصدت لها الأموال الهائلة لتضع الأحاديث علي لسان المنقذ العظيم الرسول صلي الله عليه و آله لتكون من بنود التشريع و تلحق بقافلة السنة التي هي من مدارك الأحكام، و قد راح الوضاعون يلفقون الأكاذيب و ينسبونها للنبي صلي الله عليه و آله، و كثير مما وضعوه يتنافي مع منطق العقل و يتجافي مع سنة الحياة، و من المؤسف أنها دونت في كتب السنة و أدرجت في كتب الأخبار مما اضطر بعض الغياري من علماء المسلمين أن يألفوا بعض الكتب التي تدل علي بعض تلك الموضوعات.

و فيما أحسب أن هذا المخطط الرهيب من أفجع ما رزي ء به المسلمون، فانه لم يكن الابتلاء به آنا من الزمن، و انما ظل مستمرا مع امتداد التاريخ، فقد تفاعلت تلك الموضوعات مع حياة الكثير من المسلمين، و ظلوا متمسكين بها علي أنها جزء من دينهم، و قد وضعت الحواجز في نمو المواهب و انطلاق الفكر، كما بقيت حجر عثرة في طريق التطور و الابداع الذي يريده الاسلام لأبنائه) [2] .

ومن الطبيعي أنه اذا تمت خلخلة هذه الركيزة الأهم من بين الركائز الاجتماعية - أعني: ركيزة التربية و التعليم - تسهل السيطرة علي أفكاره و ثقافته و لم يعد يتوجه الا الي حيث توجهه تلك الأفكار و تلك الثقافات، لذا كانت جهود الأمويين منصبة علي بعث القيم الجاهلية من جديد و ضرب القيم و الثقافة التي جاءت لتربي الانسان المسلم تربية تكاملية علي ضوء تعاليم السماء، و لقد رفض الاسلام العصبية بكل أشكالها من عنصرية و قبلية و طبقية و وضع القرآن الكريم المقياس الالهي لكرامة الانسان و قيمته عند الله تعالي فقال: (يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر و أنثي


و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم) [3] ، و عمل الاسلام علي كسر الحواجز و السدود من بين فئات المجتمع، و قد كان النبي صلي الله عليه و آله يؤكد علي المسلمين في ترك العصبية الجاهلية، الا أن الأمويين قد حاربوا هذه القيم و بكل ما لديهم من امكانيات.

قال العلامة الشيخ القرشي: (و بني معاوية سياسته علي تفريق كلمة المسلمين و تشتيت شملهم و بث روح التفرقة و البغضاء بينهم؛ ايمانا منه بأن الحكم لا يمكن أن يستقر له الا في تفكك وحدة الأمة و اشاعة العداء بين أبنائها، يقول العقاد: (و كانت له - أي معاوية - حيلته التي كررها و أتقنها و برع فيها و استخدمها مع خصومه في الدولة من المسلمين و غير المسلمين، و كأن قوام تلك الحيلة العمل الدائب علي التفرقة و التخذيل بين خصومه لالقاء الشبهات بينهم و اثارة الاحن فيهم، و منهم من كان من أهل بيته و ذوي قرباه كان لا يطيق أن يري رجلين ذوي خطر علي وفاق، و كان التنافس الفطري بين ذوي الأخطار مما يعينه علي الايقاع بهم).

لقد شتت كلمة المسلمين و فصم عري الأخوة الاسلامية التي عقد أواصرها الرسول الكريم و بني عليها مجتمعة) [4] .

و اذا أصفنا الي ذلك المظاهر الأخري لسياسية الأمويين المتعلقة بسائر الركائز الاجتماعية كسياستهم المالية و الاقتصادية، فانهم قد اتبعوا مع الأمة سياسة التجويع و الحرمان من جهة و سياسة شراء الضمائر و الأديان من جهة أخر، فان من الضروري أن تكون نتيجة كل ذلك أن تنحرف الأفكار و تفسد الضمائر و الاخلاق


و تضعف روح التدين في القلوب، و تباع الأديان و القيم بالأموال، و بهذا يفسد المجتمع بفساد جميع فئاته و طبقاته، و بذلك تسهل السيطرة عليه و استعباده.

ذكر المؤرخون أن جماعة من أشراف العرب و فدوا علي معاوية فأعطي كل واحد منهم مائة ألف و أعطي الحتات عم الفرزدق سبعين ألفا، فلما علم الحتات بذلك رجع مغضبا الي معاوية فقال: قضمتني في بني تميم، أما حسبي فصحيح، أو لست ذا سن، ألست مطاعا في عشيرتي، قال: بل، قال: فما بالك خسست بي دون القوم أعطيت من كان عليك أكثر ممن كان لك، فقال معاوية بلا حياء أو خجل: (اني اشتريت من القوم دينهم و وكلتك الي دينك)، (أنا اشتر مني ديني)، فأمر له باتمام الجائزة [5] .

و قد عايش سيدالشهداء الامام الحسين عليه السلام هذه المظاهر و هذه النتائج و شاهدها عن كثب و قلبه يعتصر ألما و هو يري ذلك المجتمع يبتعد عن منابع الاسلام و روافد الرسالة و يسير نحو منحدر خطير.

و قد شخص الامام جوانب من الأوضاع الاجتماعية المتدهورة آنذاك في المؤتمر الشعبي الذي عقده في مني، و قد ذكرنا شطرا منه في القسم الثاني من هذه القراءات، قال عليه السلام مخاطبا تلك النخبة المجتمعة في ذلك المؤتمر مشيرا الي بعض الأمراض الاجتماعية المتفشية في وسط هذه الطبقة التي تعتبر نخبة المجتمع، قال عليه السلام:

» لقد خشيت عليكم أيها المتمنون علي الله أن تحل بكم نقمة من نقماته؛ لأنكم بلغتم من كرامة الله منزلة فضلتم بها و من يعرف بالله لا تكرمون، و أنتم بالله في عباده تكرمون، و قد ترون عهود الله منقوصة فلا تفزعون و أنتم لبعض ذمم آبائكم تفزعون و ذمة


رسول الله محقورة، و العمي و البكم و الزمن في المدائن مهملة لا ترحمون و لا في منزلتكم تعملون و لا من عمل فيها تعنون، و بالادهان و المصانعة عند الظلمة تأمنون، و أنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تسمعون) [6] .

هذا علي مستوي النخبة من فئات المجتمع فكيف يكون الحال علي المستوي العام للساحة الاجتماعية، و قد أشار الامام في أحد بياناته الي الوضع العام الذي يعيشه المجتمع الاسلامي، فقال عليه السلام:

» و ان الدنيا قد تغيرت و تنكرت و أدبر معروفها، و لم يبق منها الا صبابة كصبابة الاناء و خسيس عيش كالمرعي الوبيل، ألا ترون الي الحق لا يعمل به و الي الباطل لا يتناهي عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقا» [7] .

و من الواضح أن الامام عليه السلام لا يريد بالدنيا الحياة بما هي حياة بليلها و نهارها، و انما يريد بذلك الدنيا الاجتماعية حيث تغيرت أوضاع المجتمع و تنكر للاسلام في سلوكه و مظاهر حياته و لم يبق من ظواهر الحق في الوسط الاسلامي الا بقايا كالبقايا من الماء المتخلفة في الاناء بعد شرب ما فيه و هذه هي الصبابة، أو بقايا المرعي حينما تداهمه الأنعام بالرعي فتقضي علي نظارته و حياته فلا تترك الا البقايا المتناثرة هنا و هناك


و هذا هو المرعي الوبيل، و حينما يقول عليه السلام:» ألا ترون الي الحق لا يعمل به و الي الباطل لا يتناهي عنه» لا يريد بذلك فقط علي مستوي الحكام، بل يشير الي أوضاع المجتمع بكل فئاته و طبقاته، حيث أصبح بعيدا عن الحق و العمل به؛ لأن جميع ركائزه الاجتماعية قد أفسدت فانحرف المجتمع عن مساره الذي يريده له الاسلام الحق.



پاورقي

[1] الانشقاق: 16.

[2] حياة الامام الحسين ج 2 ص 12.

[3] سورة الحجرات: 13.

[4] حياة الامام الحسين ج 2 ص 135 - 134.

[5] حياة الامام الحسين ج 2 ص 128.

[6] تحف العقول ص 172، و البحار ج 97 ص 80.

[7] اللهوف ص 48، والبحار ج 44 ص 381، و اللفظ الأول.