بازگشت

تمهيد


يختلف الاسلام - كرسالة سماوية - عن سائر المدارس الاجتماعية الأخري في تحديد الهدف النهائي من حياة الانسان الاجتماعية، فان المدارس الاجتماعية الأخري تري أن ضرورة الحياة الاجتماعية للانسان نابغة من ضرورة سد جميع احتياجاته الحياتية، حيث ان الانسان لن يستطيع في حياة منفردة أن يسد احتياجاته بنفسه بما في ذلك الحاجات المادية و النفسية، فلابد له من حياة اجتماعية ليتمكن من سد تلك الاحتياجات من خلال روابطه الاجتماعية.

فهذا هو الهدف النهائي للحياة الاجتماعية في نظر هذه المدارس - و لا سيما المدارس المادية منها - و الاسلام أيضا لا ينكر هذه الضرورة - أعني: ضرورة سد احتياجات الانسان - و لعل القرآن الكريم يشير الي ذلك في قوله تعالي: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا و رفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا) [1] .

فقوله تعالي: (ليتخذ بعضهم بعضا سخريا) اشارة الي أن أفراد المجتمع كل من موقعه و دوره يقوم بخدمة المجتمع و يشارك في سد احتياجات المجتمع، فهو مسخر لخدمة الكل بطريقة و أخري، الا أن الاسلام لا يعتبر هذه الضرروة هدفا نهائيا لحياة


الانسان الاجتماعية، و يمكن أن نسمي هذا الهدف بالهدف المتوسط، و أما الهدف النهائي لذلك فهو أبعد من هذا الهدف.

و الواقع أن الغاية القصوي للحياة الاجتماعية هي الاستزادة من التكامل الروحي و المعنوي لكل واحد من أفراد البشر، و هو ما يحصل عن طريق معرفة الله و عبادته و نيل رضاه و القرب منه تعالي.

و بعبارة أخري: فان الحياة الاجتماعية و تأمين الحاجات المادية و الدنيوية كلها مقدمة من أجل أن يصبح أكبر عدد من الناس عابدين الله و أن يتقدم عباد الله مهما أمكن في مسيرة العبادة و الخضوع للباري، يقول عز و جل: (وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم و ليمكنن لهم دينهم الذي ارتضي لهم و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا) [2] .

حيث تدل علي أن الحكومة و استقرار الدين و النظام و الأمن و الهدوء كلها مقدمة لتوسيع و تعميق عبادة الله و الايمان به و توحيده كما و كيفا [3] .

و من جهة أخري يختلف الاسلام أيضا عما يراه أغلب المفكرين الاجتماعيين في نظرتهم للدين، فانهم اعتبروا الدين احدي الركائز التي يقوم عليها الحياة الاجتماعية الي جانب سائر الركائز الأخري المتمثلة في:

1- الأسرة.

2- الاقتصاد.

3- التربية و التعليم.


4- الحقوق.

5- الحكومة.

فهم يرون الدين ركيزة كسائر الركائز الأخري المذكورة التي يقوم عليها الكيان الاجتماعي لحياة الانسان، بينما يري الاسلام غير ذلك، اذ لابد من القول بأن الدين لو كان بمعني ارتباط الانسان بالله في اطار العبادات - بالمعني الخاص - لأمكن عده من جملة الركائز الاجتماعية.

الا أن هذا المعني الضيق - المنسجم مع رؤية الثقافة الغربية للدين - ليس مورد قبولنا، فمن وجهة نظرنا يكون الدين هو المنهج الصحيح و المطلوب للحياة الانسانية، بحيث يشمل جميع أبعاد و وجوه الحياة للفرد و المجتمع، و بالاضافة الي العقائد و الأخلاق و العبادات بالمعني الخاص فانه يشتمل علي أنواع الحقوق و أقسامها، و من جملته الحقوق السياسية و الحقوق الفضائية و الحقوق المدنية (مثل حقوق الأسرة)، و بناء علي هذا فهو اذا يضم تحت مظلته جميع الركائز الاجتماعية و يهيمن و يشرف عليها و يسيرها [4] .

و متي ما انحرفت احدي تلك الركائز عن توجيهات الدين و قيمومته لم تعد ركيزة اجتماعية اسلامية بالمعني الصحيح، و هناك أمر ثالث أيضا تختلف فيه وجهة نظر الاسلام عن بقية المدارس الاجتماعية، و هو تحديد أهم الركائز الاجتماعية و أعظمها تأثيرا علي مسيرة الحياة الاجتماعية، حيث يري الاسلام أن أهم الركائز تأثيرا هي ركيزة التربية و التعليم، و ليس ركيزة الاقتصاد - مثلا كما تري المدرسة الماركسية.

قال بعض المفكرين و الباحثين الاسلاميين: (انه بفضل ركيزة التربية و التعليم يمكننا ترسيخ أو تقوية أو اصلاح سائر الركائز بحيث تقرب المجتمع الي أهدافه

المتوسطة، و من ثم الي هدفه النهائي، و لهذا فان ركيزة التربية و التعليم اذا لم تسر سيرة صحيحة فان سائر الركائز سوف تمني - عاجلا أم آجلا - بالاختلال و عدم النظام و تتعرض جميع شؤون الحياة الاجتماعية لخطر الفساد و التدمير.

ان ركيزة التربية و التعليم تيسر أمر توعية الناس بالأحكام و القوانين الاجتماعية و الحقوقية و ترغيبهم في تطبيق القوانين والمقررات، و في التعاون مع المؤسسات الاجتماعية و الحكومية.

و بهذه الصورة يسهل علينا تبني و تبرير هذا الأمر، و هو أن الله تعالي جعل مهمة النبي الأكرم صلي الله عليه و آله مقصورة علي تلاوة آيات الله للناس و تربيتهم و تعليمهم الكتاب و الحكمة، بمعني أنها تتلخص في التربية و التعليم.

فالتربية و التعليم هي التي تعرف الناس الهدف الأعلي للحياة الفردية والاجتماعية و تربيهم و تجعلهم يخطون نحو ذلك الهدف بسهولة و يسر و سرعة، و أما سائر الركائز كالعائلة و الاقتصاد و الحقوق و الحكومة فهي ليست سوي مقدمة و وسيلة لتهيئة الأرضية لسير الناس و سلوكهم المعنوي.

و الفائدة العملية التي يمكن استنتاجها من هذا الحديث هي أن الخطوة الأولي لتحسين الأوضاع و الأحوال المختلفة للمجتمع الفاسد المضطرب و غير المتوازن هي اصلاح نظام التربية و التعليم فيه، كما أن الخطوة الأولي التي تجر المجتمع نحو الفساد هي افساد نظام تربيته و تعليمه) [5] .

اذا فركيزة التربية و التعليم مهمة و خطيرة جدا في المجتمع الاسلامي و هي أخطر و أهم من ركيزة التربية و التعليم في سائر المجتمعات التي هي: اما أن تكون غير مهتمة


بالدين، و اما أن تكون معتبرة اياه ركيزة الي جانب الركائز الأخري بحيث تعد حدوده منفصلة عن حدود الأسرة و الاقتصاد و الحقوق و الحكومة.

ومن الواضح أن المقصود من ركيزة التربية و التعليم ما هو أعم من النشاطات التي تنهض بها منظمات من قبل المدارس الابتدائية و المتوسطة و الثانوية و الجامعات، بحيث يشمل أي جهد يبذل في مضمار تثقيف المجتمع و تعليمه و تربيته، و بناء علي هذا تصبح النشاطات التي تقوم بها الاذاعة و التلفزيون و الصحف و المجلات و الكتب و الرسائل و السينما و المسرح و خطب صلاة الجمعة و المراسيم القومية و الشعائر و المناسك الدينية و المحاضرات و المظاهرات السياسية و النشاطات الفنية و... كلها داخلة ضمن اطار التربية و التعليم [6] .



پاورقي

[1] الزخرف: 32.

[2] النور: 55.

[3] النظرة القرآنية للمجتمع و التاريخ ص 37.

[4] المصدر السابق ص 368.

[5] النظرة القرآنية للمجتمع و التاريخ ص 370، و ص 371.

[6] النظرة القرآنية للمجتمع و التاريخ ص 373.