بازگشت

بيعة يزيد بن معاوية


البيعة مأخوذة من البيع، و كما أن البيع لا يتحقق الا بطرفين، البائع و المشتري، كذلك البيعة لها طرفان، و هما البايع - بالكسر - و هم أفراد الأمة أو الشعب، و المبايع - بالفتح - و هو القيادة أو الحاكم الذي يتولي شؤون الأمة و الشعب. فهي علي هذا عقد و ميثاق بين الطرفين، فالمبايع يتعهد بالطاعة التامة للقيادة، و القيادة بدورها تتعهد بالقيام بشئون الأمة و ادارة حياتها طبق القوانين السماوية.

و تعتبر هذه البيعة ميثاقا مقدسا في نظر القرآن الكريم، فان القرآن اعتبر مبايعة


الرسول صلي الله عليه و آله من قبل المسلمين بيعة الله تعالي كما في قوله تعالي: (ان الذين يبايعونك انما يبايعون يد الله فوق أيديهم) [1] .

فعلي هذا لابد أن تعرف الأمة بعد الرسول القائد لمن تعطي بيعتها، فلابد أن تكون يده يدا تمثل الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله لتكون بيعته بيعة لله تعالي، الا أن الأمة الاسلامية منيت بتلك النكسة و ذلك الانحراف الخطير حتي بلغ بها الحال أن تبايع لشخص مثل يزيد بن معاوية.

لقد فرضت عليها تلك البيعة بقوة السلاح و المال، و لكن ذلك لا يخلي الأمة من المسؤولية و لا يبرر لها ذلك الاستسلام و الخنوع و السكوت عن ذلك الانحراف.

و طبق ما يذكره المؤرخون أن أول من تحرك لتحقيق بيعة يزيد هو المغيرة بن شعبة، و كان واليا علي الكوفة من قبل معاوية، فأحس بأن معاوية يريد عزله عن ولايته و يولي سعيد بن العاص مكانه، فتحرك لهذه المهمة - بيعة يزيد - و ليقدم استقالته من هذا المنصب لكي لا تكون عليه حزازة في عزله، و سافر الي الشام و اجتمع بيزيد فأبدي له الاكبار و أظهر له الحب، و قال له: (قد ذهب أعيان صحابة محمد صلي الله عليه و آله و كبراء قريش و ذوو أسنانهم و انما بقي أبناؤهم و أنت من أفضلهم و أحسنهم رأيا و أعلمهم بالسنة و السياسة، و لا أدري ما يمنع أميرالمؤمنين أن يعقد لك البيعة).

و غزت هذه الكلمات قلب يزيد فشكره و أثني علي عواطفه و قال له: (أتري ذلك يتم)، فكان يزيد نفسه لم يكد يصدق أن يتم ذلك و أن يرضي المسلمون به خليفة؛ لما يعرفه من نفسه من الصفات التي تبعده كل البعد عن مظاهر الحاكم الاسلامي فضلا من أن يكون يحمل روح الاسلام و جوهره.


و لكن عندما وجد هذا الدجال خاطبه بخطاب التمجيد و التقديس انطلق الي أبيه و دخل عليه و أخبره بمقالة المغيرة.

و لا شك أن معاوية كان يفكر في الموضوع و لكن كان يضرب أخماسا في أسداس بأي طريقة يطرح هذه البيعة علي الناس فوجد من يدفعه الي التحرك نحو انجاز ما كان يفكر فيه.

فأحضر المغيرة فبادره المغيرة بقوله: (يا أميرالمؤمنين، قد رأيت ما كان من سفك الدماء و الاختلاف بعد عثمان و في يزيد منك خلف، فأعقد له فان حدث بك حدث كان كهفا للناس و خلفا منك و لا تسفك دماء و لا تكون فتنة)، فقال معاوية: (من لي بهذا) فقال المغيرة: (أنا أكفيك أهل الكوفة و يكفيك زياد أهل البصرة و ليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك) فأقره معاوية علي منصبه و أمره بالمبادرة الي الكوفة لتحقيق غايته، و لما خرج من عند معاوية قال لحاشيته: (لقد وضعت رجل معاوية في غرز بعيد علي أمة محمد صلي الله عليه و آله و فتقت عليه فتقا لا يرتق (.

لعمري لقد شخص المغيرة هذه البيعة قبل حدوثها بدقة؛ لأنه يدرك مدي آثار هذه المسألة علي حياة أمة محمد و مستقبلها.

(و سار المغيرة الي الكوفة يحمل الشر و الدمار لأهلها و لعموم المسلمين، وفور وصوله عقد اجتماعا ضم عملاء الأمويين فعرض عليهم بيعة يزيد فأجابوه الي ذلك و أوفد جماعة منهم الي دمشق و جعل عليهم ولده موسي، فلما انتهوا الي معاوية حفزوه علي عقد البيعة ليزيد، فشكرهم علي ذلك و أوصاهم بالكتمان و التفت الي ابن المغيرة فقال له:

- بكم اشتري أبوك من هؤلاء دينهم.

- بثلاثين ألف درهم.


- لقد هان عليهم دينهم، ثم وصلهم ثلاثين ألف درهم) [2] .

و بدأ معاوية يمهد لهذه البيعة بمختلف الأساليب و الطرق، فسخر المال في ذلك ببذله بكل سخاء للوجوه و الأعيان من المتاجرين بالضمائر و الأديان، يقول المؤرخون: (ان معاوية دفع الي عبدالله بن عمر مائة ألف درهم فقبلها منه، و كان ابن عمر من أصلب المدافعين عن بيعة يزيد) [3] .

كما سخر معاوية الشمر في الدعاية لبيعة يزيد، فهذا مسكين الدارمي يقول بعد ما أو عز اليه معاوية أن يحثه علي بيعة يزيد أمام من كان حضر مجلسه من أعيان الأمويين و أهل الشام:



ألا ليت شعري ما يقول ابن

عامر و مروان أم ماذا يقول سعيد



بني خلفاء الله مهلا فانما

يبوءها الرحمن حيث يريد



اذا المنبر الغربي خلاه ربه

فان أميرالمؤمنين يزيد



علي الطائر الميمون و الجد ساعد

لكل أناس طائر و جدود



فلا زلت أعلي الناس كعبا و لم يزل

وفود تساميها اليك وفود



و لا زال بيت الملك فوقك عاليا

تشدك أطناب له و عمود [4] .



اضافة الي ذلك أسلوب التهديد بالقوة حينما يحتمل وجود معارضة من أحد لهذه البيعة، فهذا أحد رجاله في جلسة من جلساته التي دعا فيها الي البيعة لابنه يزيد فعارضه بعض الحضور فقام يزيد بن المقفع فهدد المعارضين باستعمال القوة قائلا: (أميرالمؤمنين هذا - و أشار الي معاوية - فان هلك فهذا - و أشار الي يزيد - و من أبي


فهذا - و أشار الي السيف) فاستحسن معاوية قوله و راح يقول له: (اجلس فأنت سيد الخطباء و أكرمهم) [5] .

و كان مقياس الكفاءة للخلافة عند معاوية الذي يؤهل ابنه لذلك هو حبه لا بنه و لا مقياس لديه غير ذلك، و هذا ما يتضح من كلمته التي ألقاها في مجلس في المدينة المنورة، و قد جمع المجلس عددا من الشخصيات كعبدالله بن عباس و عبدالله بن جعفر و عبدالله بن عمر و عبدالله بن الزبير، و قد عرض عليهم بيعة يزيد فرفضوا له و لم يستجيبوا لذلك، فقال في نهاية الاجتماع: (و انه قد ذهبت الآباء و بقيت الأبناء، فابني أحب الي من أبنائهم) و كان يعرض بأميرالمؤمنين عليه السلام و ولديه الحسنين.

و من يدري لعل معاوية قال ذلك مقابل ما قاله رسول الله صلي الله عليه و آله في حق الحسنين عليهماالسلام في تعبيره عن حبه لهما و ان معاوية ليفسر كلمات النبي صلي الله عليه و آله في سبطيه الحسنين عليهماالسلام بأنها بدافع العاطفة المجردة، فما الذي يمنعه هو أيضا من حب ولده و يجعل له الخلافة ميراثا يخلفه لولده المحبوب.

و علي كل حال فلقد تمت بيعة يزيد تحت أجواء من الارهاب من جهة و الاغراء بالأموال و الاعلام المضلل من جهة أخري.

و لم يتمرد علي هذه البيعة فرفض الاعتراف بها و ثار في وجه يزيد مدللا علي الخطر الذي يمثله حكم يزيد و آل أمية علي الاسلام لم يقم بذلك الا أبوالأحرار الحسين بن علي عليهماالسلام.

أعلن ذلك عند أول محاولة من السلطات الأموية بعد هلاك معاوية لاخضاع الامام للبيعة، فقال في مجلس الوليد بن عتبة بن أبي سفيان:


» أيها الأمير، انا أهل بيت النبوة و معدن الرسالة و مختلف الملائكة و محل الرحمة بنا فتح الله و بنا ختم، و يزيد رجل فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق، و مثلي لا يبايع مثله، و لكن نصبح و تصبحون و ننظر و تنظرون أينا أحق بالخلافة و البيعة» [6] .

و عندما حاصروه و ضيقوا عليه الخناق ليذعن لهم و يعترف بسلطانهم، رفع أبوالأحرار صوته قائلا:

» لا و الله، لا أعطيكم بيدي اعطاء الذليل، و لا أفر فرار العبيد» [7] .



پاورقي

[1] الفتح: 10.

[2] حياة الامام الحسين ج 2 ص 192.

[3] حياة الامام الحسين ج 2 ص 192.

[4] حياة الامام الحسين ج 2 ص 192 عن تاريخ ابن‏الأثير.

[5] حياة الامام الحسين ج 2 ص 203.

[6] اللهوف ص 71، و الفتوح لابن‏أعثم ج 5 ص 14، و اللفظ الأول.

[7] مناقب آل أبي‏طالب ج 3 ص 224، ط الحيدرية، و ج 4 ص 75، ط آخر.