بازگشت

الحسين في رحاب القرآن


في النقطة السابقة استوحينا بعض تصريحات الرسول الأعظم في حق سبطه الحسين و ما هي دلالات ذلك، و أما في هذه النقطة فنستوحي القرآن الكريم في حديثه عن الحسين عليه السلام، فانه ربيب الوحي و قرين القرآن، نستوحي ذلك من خلال وقفات قصيرة أمام نموذجين قرآنيين من الآيات التي تتحدث عن أهل البيت عليهم السلام.

الآية الأولي: قوله تعالي: (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا) [1] .

تمثل هذه الآية الكريمة الوسام الالهي الذي منه الباري تعالي لأهل هذا البيت باذهابه الرجس عنهم، و قد جاءت لفظة (الرجس) هنا محلاة بالألف و اللام لتنفي


مطلق الرجس و هو كل قذر نجس، فان الله تعالي قد أذهب عن أهل البيت القذارة الفكرية و القذارة القلبية و القذارة الأخلاقية و الروحية.

(و ما ورد في بعض الأحيان من تفسير) الرجس (بالذنب أو الاشراك أو البخل أو الحسد أو الاعتقاد الباطل و أمثال ذلك فانه في الحقيقة بيان لمصاديقه، و الا فان مفهوم هذه الكلمة عام و شامل لكل أنواع الحماقات بحكم الألف و اللام التي وردت هنا و التي تسمي بألف و لام الجنس) [2] .

ان (الرجس داء يصيب الروح وينال من سلامتها، فالخمر و الميسر كانا رجسا لأنهما يسلبان العقل و يملآن فراغه في الصدر بغضا و عداوة، فهما يضيقان الخناق علي البعد الملكوتي في النفس الانسانية و يصدانها عن السمو و التكامل.

فالصدور الكدرة المتمثلة بالرذائل مبتلاة بالرجس، و مثل هذه الصدور تفتقد الأرضية لتلقي الفضائل و استقبال المحاسن و تتقاعس عن السعي في طريق الكمال و الأخذ بأسباب النجاة، و تجدها تقضي حياتها أسيرة في حبائل الشهوات متردية في مستنقعات الحقد و الحسد، و هذا التلوث بالرجس هو الذي يقود البشرية الي الدمار و يسوقها نحو مصير مؤسف و مستقبل مظلم.

و علي أية حال فان جميع الأمراض الروحية و الآفات الأخلاقية التي تخفت أوار الحق و بريق اشعاعه في ضمير الأنسان و تكدر صفاء الروح و تنال من عظمة النفس و تقضي علي الخير المودع فيها و الذي يتجلي في صور التسليم للحق و الاذعان للحقيقة بعد السعي لها و للقيم المعنوية العالية) [3] .

كل ذلك رجس و كل ذلك قد أذهبه الله تعالي عن أهل البيت عليهم السلام، و لا شك أن هذا الوسام الذي لا يدانيه و سام لم يعط لأهل البيت اعتباطا و جزافا من دون أن يكون


لديهم الاستعداد الذاتي لتقبل هذا الفيض الالهي؛ لأن الفيوضات الربانية انما تصل الي كل مخلوق بقدر قابليته و استعداده، كما ضرب القرآن الكريم مثالا لذلك بقوله تعالي: (انزل من السماء ماء فسألت أودية بقدرها). [4] .

حيث علم الله تعالي منهم سابقا أنهم سوف يعملون بأمره و يجتهدون في طاعته و يسعون لتحقيق رضاه و يسلمون له بالتسليم المطلق، و ذلك بمحض ارادتهم و اختيارهم، فمنحهم هذا الوسام الرفيع فأذهب عنهم كل ما يحول بينهم و بينه لعلمه بأنهم يريدون ذلك فأراده لهم و هذه العصمة المانعة من كل ذنب.

و السؤال هنا: ماذا يراد من هذا التأكيد القرآني علي تطهير هؤلاء؟ فهل يعني ذلك مجرد البيان فقط أن هؤلاء يتمتعون بهذا المقام من غير أن يكون وراء ذلك البيان أي غرض آخر و هدف عملي؟

و هذا ما لا يجوز أن ننسبه الي كتاب الله العزيز الذي جاء ليفتح باب الهداية الربانية للانسان و يدله علي الطريق السوي و الصراط المستقيم لكي لا يبقي يتخبط في متاهات الطريق.

فالمراد هنا الكشف عن الأشخاص الذين يملكون كل مقومات الهداية ليستطيع كل من أراد السير نحو الله أن يأخذ بحجزتهم و يهتدي بهداهم، و قد (أجمع المفسرون وثقات الرواة أن أهل البيت هم الخمسة أصحاب الكساء، و هم سيد الكائنات الرسول و صنوه الجاري مجري النفس أميرالمؤمنين، و بضعته الطاهرة عديلة مريم بنت عمران سيدة النساء فاطمة الزهراء التي يرضي الله لرضاها و يغضب لغضبها، و ريحانتاه من الدنيا سبطاه الشهيدان الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة، و لم يشاركهم أحد من الصحابة و غيرهم في هذه الآية) [5] .


و أما دعوي شمول الآية النساء النبي صلي الله عليه و آله، فقد ناقشها العلماء في العديد من البحوث في كتب التفسير أو كتب خاصة ألفت في هذا المجال.

و يبقي أبوعبدالله الحسين عليه السلام آخر من بقي من الخمسة، فهو وارث لمقاماتهم و أدوارهم في حياة الأمة و هي القيادة الفكرية و السياسية.

الآية الثانية: قوله تعالي: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناؤكم و نساءنا و نسائكم و أنفسنا و أنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله علي الكاذبين). [6] .

هذه الآية تعرف بآية المباهلة جاءت تحمل منطق التحدي الصارم للطرف المقابل و هو وفد نصاري نجران، و جاء هذا التحدي بعد فشل أسلوب الحوار العلمي فيما يتعلق بشأن النبي عيسي عليه السلام.

في (تفسير القمي) عن الصادق:» ان نصاري نجران لما وفدوا علي رسول الله و كان سيدهم الأهتم و العاقب و السيد، و حضرت صلاتهم فأقبلوا يضربون الناقوس و صلوا، فقال أصحاب رسول الله، يا رسول الله، هذا في مسجدك، فقال: دعوهم، فلما فرغوا دنوا من رسول الله فقالوا: الي ما تدعو، فقال: الي شهادة أن لا اله الا الله و أني رسول الله و أن عيسي عبد مخلوق يأكل و يشرب و يحدث، قالوا: فمن أبوه، فنزل الوحي علي رسول الله، فقال: قل لهم:ما تقولون في آدم أكان مخلوقا يأكل و يشرب و يحدث و ينكح؟ فسألهم النبي، قالوا: نعم. قال فمن أبوه؟ فبهتوا، فأنزل الله: (ان مثل عيسي عند الله كمثل آدم خلقه من تراب...) [7] الآية، و قوله: (فمن


حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله علي الكاذبين.) [8] .

فقال رسول الله: فباهلوني فان كنت صادقا أنزلت اللعنة عليكم، و ان كنت كاذبا أنزلت علي، فقالوا: أنصفت، فتواعدوا للمباهلة، فلما رجعوا الي منازلهم قال رؤساؤهم السيد و العاقب و الأهتم: ان باهلنا بقومه باهلناه فانه ليس نبيا، و ان باهلنا بأهل بيته خاصة لم نباهله فانه لا يقدم الي أهل بيته الا و هو صادق. فلما أصبحوا جاؤوا الي رسول الله و معه أميرالمؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السلام، فقال النصاري: من هؤلاء؟ فقيل لهم: هذا ابن عمه و وصيه و ختنه علي بن أبي طالب، و هذه ابنته فاطمة و هذا ابناه الحسن والحسين، ففرقوا - أي خافوا - فقالوا لرسول الله: نعطيك الرضا فأعفنا من المباهلة، فصالحهم رسول الله علي الجزية و انصرفوا» [9] .

هذه هي قصة المباهلة و السبب في نزول الآية بعد ما رفض النصاري نتيجة الحوار في كون عيسي بن مريم عليه السلام من البشر و أصروا علي مقالتهم فيه و أنه هو ابن الله، تعالي عن ذلك، حول القرآن الموقف الي تحدي بارجاع الأمر الي الغيب، و أن الله تعالي هو الذي يحدد المحق من المبطل عن طريق اهلاك الطرف المبطل و محوه من ساحة الحياة بعد ابتهال الطرفين بالدعاء بأن يهلك الله المبطل منهما.

الا أن وفد النصاري بعد خروج النبي بأهل بيته أعرضوا عن المباهلة و ذلك لقناعتهم بصدق الرسول الأعظم و قبلوا بالخيار الآخر و هو أداء الجزية الي النبي صلي الله عليه و آله.

و قد أجمع المفسرون و المؤرخون علي أن النبي لم يخرج الا بعلي و فاطمة و الحسنين عليهم السلام.


و هنا لابد لنا من أن نتساءل: ما هو السر في أمر الله تعالي لنبيه باخراج هؤلاء معه للمباهلة، ألا يكفي خروج النبي بمفرده للدعاء فاحتاج الموقف الي خروج أهل بيته، لأن الأمر لا يخلوا؛ اما أن دعاء النبي صلي الله عليه و آله يكفي في تحقق نتيجة المباهلة فيكون خروج هؤلاء معه نوعا من العبث الذي لا غرض من ورائه، أو أن خروج هؤلاء أمر لابد منه في هذا المقام؟

و الجواب: أن الوجه الأخير هو الحق، فان خروج النبي بأهل بيته أمر حتمي لا لنقص في ذات الرسول في تحقق الدعاء، فانه صلي الله عليه و آله في اعتقادنا لا يحجب دعاه حاجب عن الله تعالي:

و لكن لما كان هذا الموقف يتعلق بشؤون الرسالة و تحدياتها لسائر الأفكار و الأديان و الأقوام، فلابد من وقوف حملة الرسالة الذين يتمثل فيهم الامتداد الطبيعي لصاحب الرسالة من بعده، فهم شركاؤه في تجسيد و تمثيل رسالة الله، فلابد من وجودهم في هذا المقام، فأمر الله نبيه باخراجهم ليتضح ارتباطهم بالرسالة و مواقفها.

حيث يمكن أن نتصور أن الله تعالي قد جعل - هنا - دعاء الرسول هو المقتضي لتحقق الهلاك و تأمين أهل بيته بمنزلة الشرط لتحقق، ذلك فان الرسول صلي الله عليه و آله قد قال لهم:» اذا دعوت فأمنوا» كما في بعض روايات المقام، اذ من المعلوم أن الشي ء لا يتحقق الا بوجود المقتضي و توفر الشرط و ارتفاع المانع، و لا مانع في البين.

فتبين أن الغاية من أخراجهم ليكونوا جزءا من موقف التحدي هذا من الاسلام للمسيحية، لأنهم لحمة النبي صلي الله عليه و آله.

و الجدير بالملاحظة - هنا - أن الحسنين عليهماالسلام كانا آنذاك في مرحلة الطفولة، حيث لم يمنع كونهم طفلين من أن يأمر الله الرسول باخراجهما، و ذلك لتميزهما علي من سواهما من الأطفال.


من خلال ما تقدم أخذنا صورة واضحة - و ان كانت مختصرة - عن الأجواء التي نشأ فيها سيدالشهداء الامام الحسين عليه السلام، و عن المقومات الذاتية التي توفرت في هذا الامام و التي تجعله نسخة أخري من شخصية جده الرسول الأعظم ليتحمل في عصره أعباء الامامة و تتجسد فيه الرسالة فيكون هو الأولي بقيادة الأمة.


پاورقي

[1] الأحزاب: 32.

[2] آية التطهير رؤية مبتکرة ص 116.

[3] آية التطهير رؤية مبتکرة ص 116.

[4] الرعد: 17.

[5] حياة الامام الحسين ج 1 ص 58.

[6] آل عمران: 61.

[7] آل عمران: 59.

[8] آل عمران: 61.

[9] تفسير القمي ج 1 ص 112.