بازگشت

الهدف الأساسي للثورة


هناك اشكالية مطروحة و سؤال كثيرا ما يتردد علي الألسن و في الأذهان و هو: ما هو الهدف الذي كان الامام الحسين يريد تحقيقه من ثورته المقدسة؟

و بصيغة أخري: ما هو الباعث الأساسي لأبي الأحرار حتي قام بهذه الثورة؟ فهل كان يخطط من أجل الاطاحة بدولة يزيد بن معاوية و تولي مقاليد الحكم ليصبح علي رأس دولة باسم أهل البيت عليهم السلام الا أنه لم يوفق في ذلك و لم تنجح ثورته و خسر موقفه و صارت النتيجة أن قتل هو و من معه؟ أم أن الامام عليه السلام كان لديه هدف آخر غير الوصول الي كرسي الحكم، و كان التخطيط الذي سلكه أبوعبدالله يتناسب مع ذلك الهدف الذي يريد الوصول اليه، و أنه قد حقق هدفه بالفعل و بنجاح باهر؟


و قبل الخوض في محاولة الاجابة علي هذا التساؤل، نطرح هذا السؤال المفترض، لو فرض أن الامام الحسين انما قام مطالبا بالحكم و يريد أن تكون مقاليد الحكم بيده و بغض النظر عن الظروف الموضوعية التي كانت تحف بالامام، هل كان هذا الهدف مخلا بمكانة الامام و قداسته و أهدافه النبيلة، و هل كان يريد الحكم - علي الفرض - من أجل الحكم أم أنه يريد الحكم وسيلة الي تحقيق الهدف الالهي و هو اقامة حكم الله في الأرض؟

ان الامام الحسين عليه السلام كان يحمل الروح و الأهداف التي كان يحملها أبوه أميرالمؤمنين عليه السلام، فان عليا حينما بويع بالخلافة بعد قتل عثمان و أصبح الحكم بيده نراه خاض في فترة حكمه القصيرة ثلاثة حروب قد فرضت عليه. فهل كان بهذه الحروب يدافع عن الحكم بما هو حكم لا غير، أم أنه يريد بذلك دفع الباطل و تصحيح الانحراف الذي وقعت فيه الأمة بما في ذلك طريقة الحكم، و ذلك عن طريق بقائه في موقع السلطة ليعطي نموذجا للحاكم القرآني؟

قال عبدالله بن عباس عليه السلام دخلت علي أميرالمؤمنين عليه السلام: بذي قار و هو يخصف نعله، فقال لي:» ما قيمة هذا النعل؟» فقلت: لا قيمة لها. فقال عليه السلام:» و الله، لهي أحب الي من أمرتكم الا أن أقيم حقا أو أزهق باطلا» [1] .

و قال عليه السلام موضحا هدفه من صراعه مع معارضيه و غايته من بقائه في الحكم:» اللهم انك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان و لا التماس شي ء من فضول الحطام، و لكن لنرد المعالم من دينك و نظهر الاصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك و تقام المعطلة من حدودك.» [2] .

و هذا مبدأ أهل البيت عليهم السلام لا يشذ عنه منهم أحد، لذا نجد نفس المنطق في العبارات


السابقة عن علي عليه السلام واضحا في تصريحات أبي عبدالله عليه السلام، كما مر في خطابه في مني حينما قال:

» اللهم انك تعلم أنه لم يكن ما كان منا تنافسا في سلطان و لا التماسا من فضول الحطام، و لكن لنري المعالم من دينك و نظهر الاصلاح في بلادك و يأمن المظلومون من عبادك و يعمل بفرائضك و سننك و أحكامك. [3] .

فعلي فرض الوصول الي السلطة كان الهدف الأول للحسين عليه السلام من نهضته لم يكن ذلك مزريا بالامام عليه السلام، فانه يري نفسه و يراه كافة المسلمين المنصفين أنه هو الأولي بعد أبيه و أخيه بخلافة رسول الله و حكم الأمة من أي شخص آخر من المسلمين، و علي كل المقاييس فكيف لا يكون أولي بذلك من يزيد بن معاوية الذي لا يعتمد في حكمه علي قاعدة شرعية، و انما فرض علي رقاب المسلمين بقوة السلاح و المال.

و قد تبني البعض من المؤرخين و الباحثين هذا التفسير لبواعث الثورة الحسينية - أعني هدف الوصول الي الحكم - مستدلين ببعض التصريحات التي صرح بها الامام في مسيرته الثورية كقوله عليه السلام:

» اني لم أخرج أشرا و لا بطرا و لا مفسدا و لا ظالما، و انما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي رسول الله، أريد أن آمر بالمعروف و أنهي عن المنكر و أسير بسيرة جدي و أبي علي بن أبي طالب» [4] .


حيث لا يمكن للامام الحسين عليه السلام أن يقوم بوظيفة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر الذي تعني التغيير الشامل لأوضاع الأمة ما لم يتسلم مقاليد السلطة، و كذلك لا يمكنه أن يقوم باعادة سيرة جده رسول الله و أبيه أميرالمؤمنين الا من خلال استيلائه علي الحكم، فالظاهر من هذا البيان أو هذه الوصية أن هدف الامام هو الوصول الي كرسي الحكم.

كذلك يظهر من استجابته لأهل الكوفة في رسائلهم اليه و ارساله مسلم بن عقيل و تعامل مسلم مع الأحداث في بداية الموقف و ارسال مسلم الي الحسين يخبره بمسيرة الأحداث و يدعوه الي المسير نحو الكوفة، كل ذلك مؤشرات - عند من يري هذا التفسير - الي أن الامام يهدف أولا و بالذات الوصول الي القيادة السياسية للأمة، الا أن انقلاب الأحداث في الكوفة علي أثر وصول ابن زياد اليها أحدث النكسة و لم يستطع سيدالشهداء أن يحقق هدفه الأولي و حدث البديل و هو التضحية و الشهادة.

بهذه القراءة فسرت الثورة الحسينية لدي بعض الباحثين، الا أن القاري ء المتأمل قراءة شاملة لمقدمات الثورة و بياناتها و أحداثها لا يكاد يقنع بهذا القراءة و هذا التفسير؛ و ذلك لما يلي:

أولا: اذا ما لا حظنا النصوص العديدة التي وردت عن النبي صلي الله عليه و آله التي تشير الي شهادة الامام الحسين عليه السلام و تضحيته و التي وردت في مصادر المسلمين و اليك بعضا منها:

أ - روي عن أنس بن الحرث الكاهلي - و هو من صحابة النبي صلي الله عليه و آله و قد شهد معه بدرا و حنينا و قد استشهد مع الحسين عليه السلام - أنه سمع النبي صلي الله عليه و آله يقول:» ان ابني هذا - يعني: الحسين - يقتل بأرض كربلاء، فمن شهد ذلك منكم فلينصره.» [5] .


ب - عن أم سلمة زوج النبي صلي الله عليه و آله قالت: كان عندي النبي صلي الله عليه و آله و معي الحسين فدنا من النبي صلي الله عليه و آله فأخذته فبكي فتركته فدنا منه فأخذته فبكي، فقال له جبرئيل:» أتحبه يا محمد؟» قال:» نعم»، قال:» أما ان أمتك ستقتله و ان شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها» فبسط جناحه فأراه منها فبكي النبي صلي الله عليه و آله [6] .

ج -عن أم سلمة، قال صلي الله عليه و آله:» ان جبرئيل أخبرني أن ابني هذا يقتل و أنه يشتد غضب الله علي من يقتله.» [7] .

د - عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلي الله عليه و آله:» ان جبرئيل أخبرني أن الله عزوجل قتل بدم يحيي بن زكريا سبعين ألفا و هو قاتل بدم ولدك الحسين سبعين ألفا» [8] .

ثانيا: التصريحات التي صدرت من الامام الحسين عليه السلام في أثناء مسيرته الثورية بأنه في طريقه الي الشهادة و التضحية كالنصوص التالية:

أ - خطبته في مكة حينما قال:

» كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس و كربلا، فيملأن مني أكراشا جوفا و أجربة سغبا، لا محيص من يوم خط بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر علي بلائه فيوفينا أجور الصابرين... ألا و من كان باذلا فينا مهجته موطنا علي لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فاني راحل مصبحا ان شاء الله» [9] .

ب - رده علي استفسار أخيه محمد بن الحنفية عن سبب تصميمه علي الخروج، قال محمد: يا أخي ألم تعدني النظر فيما سألتك؟ قال:» بلي»، قال: فما حداك علي الخروج عاجلا؟ فقال:» أتاني رسول الله بعد ما فارقتك فقال: يا حسين، أخرج فان الله قد شاء أن يراك قتيلا.» فقال ابن الحنفية: انا لله و انا اليه راجعون، فما معني حملك هؤلاء و أنت تخرج علي مثل هذا الحال، فقال:» قد قال لي - النبي صلي الله عليه و آله -: ان شاء الله أن يراهن سبايا» [10] .

ج - رسالته الي بني هاشم و التي رواها ابن قولويه و غيره بسند صحيح و هي:

» بسم الله الرحمن الرحيم: من الحسين بن علي الي محمد بن علي و من قبله من بني هاشم، أما بعد: فان من لحق بي استشهد، و من لم يلحق بي لم يدرك الفتح و السلام» [11] .

د - رده علي ابن عباس عند خروجه الي العراق، فأشار عليه ابن عباس بألا يخرج الي العراق، فقال:» يابن عباس، أما علمت أن منعتني من هناك فان مصارع أصحابي هناك». قال له: فأني لك ذلك، فقال: قال:» بسر سر الي و علم أعطيته» [12] .

ه - قوله عليه السلام في احدي خطبه في الطريق:

» ألا ترون الي الحق لا يعمل به و الي الباطل لا يتناهي عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربه حقا حقا، فاني لا أري الموت الا


سعادة، و الحياة مع الظالمين الا برما» [13] .

هذه بعض من التصريحات لأبي الأحرار التي تدل دلالة واضحة علي أن الامام عليه السلام يعلم بأنه في طريقه الي الشهادة، و أن هذا الهدف هدف واضح عنده عليه السلام، فهل من الصحيح اغفال تلك النصوص الواردة عن النبي صلي الله عليه و آله و هذه التصريحات من الامام عليه السلام لأنها لا تجتمع مع التفسير السابق للثورة، أعني: القول ان الامام عليه السلام لم ينهض الا من أجل أن يتسلم السلطة، و لأنها لا تجتمع مع بعض التصريحات و البيانات التي يفهم منها هذا التفسير كما سبق، أم أن الامام كان متناقضا في بياناته و تصريحاته و هوغير وارد في حق سيدالشهداء عليه السلام، أم لكل نوع من هذه التصريحات و البيانات وجهه و هدفه الذي لا يتناقض مع النوع الآخر، و أن كل واحد منها يمثل بعدا من أبعاد الثورة المقدسة... حيث يمكن الجمع بينهما.

و هذا ما نحاول معالجته هنا من خلال ما يلي:

أما الاخبارات النبوية الواردة عن الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله بقتل و شهادة الامام الحسين عليه السلام و التصريحات الصادرة من الامام عليه السلام في هذا المقام، فلابد من تفسيرها بالتفسير الذي يتناسب مع حقيقة الثورة بأنها ثورة تغييرية جرت طبق السنن التاريخية و حركة الانسان الطبيعية في الحياة، بعيدا عن التفسير الغيبي الصرف الذي يجعل دافع الثورة أمرا غيبيا غامضا غير قابل للمناقشة أو للفهم و كما فسرتها بعض القراءات، ف(ان تفسير قضية الحسين بهذا الشكل - أي التفسير الغيبي الصرف - يتنافي مع الطبيعة البشرية لعمل الأنبياء و الأوصياء، نحن و ان كنا نعتقد بأن الأنبياء و الأئمة هم ثقل الله في الأرض و هم ثقل عالم الغيب و هم الحبل الممدود الي عالم


الشهادة و هم أحد الثقلين في الأرض و هم الواسطة بين العباد و بين الله، كل هذه المعاني صحيحة الا أننا في نفس الوقت نعتقد بأن الأنبياء و الأئمة كانوا بشرا في أعمالهم في الحياة و بالأخص الأعمال التي ترتبط بالجانب الاجتماعي من حياة الناس) [14] .

نحن لا ينبغي أن ننظر الي النبي و الامام بنظرة غيبية صرفة معزولة عن حياته الطبيعية، فان الأنبياء و الأئمة عليهم السلام يتعاملون مع الحياة تعاملا طبيعيا كغيرهم من الناس لا سيما في الجوانب التي تتعلق بقضايا الناس في هدايتهم و تعليمهم و توعيتهم و تغيير واقعهم، و اذا ما وجدنا في حياة النبي أو الامام موقفا غيبيا فان ذلك يمثل حالة استثنائية و قليل ما كان يحدث ذلك في حياة الأنبياء و الأئمة عليهم السلام.

فلابد من توجيه هذه النصوص النبوية و التصريحات الحسينية بالتوجيه الذي يتناسب مع القاعدة التي يسير عليها الأنبياء و الأئمة عليهم السلام في حركاتهم التغييرية الاجتماعية.

و التفسير الذي يمكن أن توجه به تلك النصوص و التصريحات الغيبية هو كما يلي:

ان النبي صلي الله عليه و آله أراد بهذه النبوءات أن يبين - بيانا سابقا - أن هذه الثورة و هذه التضحية التي سوف يقوم بها سبطه الحسين عليه السلام هي حركة ربانية من أجل الله و الاسلام و الدليل أن الوحي اهتم بها اهتماما لا فتا للنظر؛ لأنه أخبر عنها قبل حدوثها، اذ لا تفسير لذلك الاهتمام الا هذا. و ان الخصم الذي يرتكب هذه الجريمة بعيد عن الله و الاسلام.

و من ثم يقيم الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله الحجة علي الأمة و يضعها أمام المسؤولية الشرعية تجاه هذه الثورة و هذا الثائر العظيم، فيكون حال هذه الاخبارات كحال سائر النبوءات التي صدرت من قبل الرسول صلي الله عليه و آله كاخباراته عن فتنة بني أمية و تحذير


الأمة منها، فان الرسول لم يخبر بذلك لمجرد الاخبار و انما كان ذلك تنبيها للأمة علي مسؤوليتها الشرعية.

(لقد علم الرسول كما ورد الينا بالروايات الموثقة المسنده أن الانحراف سيبلغ مداه بعد نصف قرن علي يد أبعد الناس عن الاسلام، و علم أن أحد أولاده و هو الحسين عليه السلام سيواجه أكبر زخم لهذا الانحراف، و أن مهمته لن تكون سهلة، اذ لن يتخلي الحاكم المنحرف حينذاك عن سلطته و مملكته لمجرد صيحة أو دعوة يسمعها منه، و لابد أن يبدي شراسته أمام مثل تلك الدعوة.) [15] .

فأدلي رسول الله بذلك العدد من الاخبارات عن الدور المقدس الذي سوف يقوم سبطه الحسين عليه السلام من التضحية و الشهادة، و كذلك حال التصريحات الحسينية في المقام، فقد أراد أبوالأحرار التأكيد علي أن نهضته هذه انما جاءت ضمن مخطط الهي سابق تلقاه من جده رسول الله صلي الله عليه و آله فهو سائر في تنفيذ هذا المخطط (لقد كان الحسين عليه السلام يعلم بأنه مقتول علما تفصيليا بكل ما سيجري عليه و علي آل بيته و حريمه عهدا عهده اليه جده رسول الله و أبوه علي أميرالمؤمنين عليه السلام) [16] ، فأعلن ذلك ليضع الأمة أمام مسؤوليتها تجاه ثورته الاصلاحية.

فاتضح أن هذه الاخبارات النبوية و التصريحات الحسينية لا تنسجم مع التفسير القائل ان الحسين كان هدفه الأول و الأساس هو تسلم السلطة، فلابد أن يكون هدفه هدفا آخر.

و أما الهدف الذي يتناسب مع هذه النصوص و يتفق مع الظروف الموضوعية التي تعيشها الأمة آنذاك فهو أن الامام أراد أن يقوم بهذه التضحية من أجل ارجاع الروح


الجهادية التي فقدتها الأمة تدريجيا من أجل تأصيل خط الشهادة في حياة المسلمين، هذه الروح التي كانت في عهد الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله،في أعلي المستويات، و كانت عاملا أساسيا في تحقيق الانتصارات في عهد الرسالة؛ لأن الأمة كانت تعشق الموت في سبيل دينها و رضا ربها.

و لكن لما حدثت النكسة الحضارية في حياة الأمة و بدأت الأمة تنحدر من سيي ء الي أسوأ حتي بلغت في التدهور مستوي يهدد وجودها كأمة مسلمة يهدد رسالتها السماوية فاحتاجت الي هزة عنيفة تعيد لها تلك الجذوة من روح الجهاد و التضحية، و لا طريق الي ذلك الا الثورة التي تتضمن التضحية بكل ما يملك الانسان من المال و الجاه و الأهل و الولد و الأخوة و النفس في مواجهة الطغيان و الفساد، و بالكيفية التي تهز الضمائر و تثير العواطف الانسانية بقوة لا نظير لها.

و هذا هو الهدف الأساس لأبي الأحرار؛ لذلك أصبحت ثورته المقدسة مستمرة العطاء و دائمة التأثير في أجيال الأمة اللاحقة، فلا نجد موقفا من مواقف التضحية و الجهاد في تاريخ المسلمين من أجل الدفاع عن الرسالة و كرامة الأمة الا و لتضحية الامام الحسين عليه السلام و ثورته أثر عليه، سواء وعت أجيال الأمة ذلك أم لا، فهي صدي لثورة أبي الأحرار و عطاء من عطاءاتها.

و اذا رأينا الأمة الاسلامية برغم الضربات و الهجمات الموجهة اليها المختلفة الأساليب نجدها رغم ذلك مستعصية أمام عدوها علي الذوبان و الانهزام التام، فان لثورة الحسين أكبر الأثر في وجود هذه الروح في مسيرة الأمة.

هذا ما يتعلق بالقسم الأول من البيانات، و هي التي يصرح فيها أبوالأحرار بألا هدف الا التضحية و الشهادة.

و أما القسم الآخر من تلك البيانات و التصريحات و هي التي يتحدث فيها الامام الحسين عليه السلام عن شؤون الحكم و السلطة و من الذي يجب أن يحكم المسلمين فانها - أي


البيانات - لا تدل بالضرورة علي أن الامام عليه السلام كان يخطط للوصول الي الحكم، حيث بالامكان أن يكون لها تفسير و هدف آخر لا يتنافي مع الهدف الأساسي - أعني: هدف التضحية و الشهادة - و هو كما يلي:

أولا: لا تعدو هذه التصريحات كونها بيانات للرؤية السياسية التي يعتمدها الامام و يدعو اليها و هو سائر الأئمة الطاهرين عليهم السلام، اذ لابد للامام أن يؤكد علي هذه الرؤية و يوضحها؛ لأنها هي القاعدة لانطلاقته الثورية مقابل الرؤية السياسية المسيطرة علي الذهنية عند المسلمين آنذاك من جراء الاعلام التضليلي للنظام الأموي.

قال عليه السلام في كتابه الي أهل الكوفة:

» فلعمري، ما الامام الا العامل بالكتاب و الآخذ بالقسط و الدائن بالحق و الحابس نفسه علي ذات الله» [17] .

في هذه التجمل القصيرة جمع الامام عليه السلام مواصفات امام الحق الذي يجب أن تكون قيادة الأمة بيده:

أ - العامل بكتاب الله العزيز و الساعي لتطبيق أحكامه لذا لابد أن يكون مستوعبا لكل مفاهيم القرآن و أحكامه كما نزلت من قبل الله تعالي ليمكنه العمل به.

ب - السائر بالعدل في حكمه البعيد عن الظلم و الجور؛ لأنه يمثل عدل الله التشريعي في الأرض.

ج - الدائن بالحق الجاعل الحق هدفه و غايته من كل ممارساته، فدينه هو الحق و لا تأخذه في الحق لومة لائم.


د - الحابس نفسه علي ذات الله حيث لا يغفل عن الله في حالة من حالاته و لعل هذه اشارة الي اشتراط العصمة في الامام.

فهذه الصفات هي التي تؤكد عليها مدرسة أهل البيت في نظرية الامامة و شروطها

و قال عليه السلام:

» أما بعد، أيها الناس فانكم ان تتقوا الله و تعرفوا الحق لأهله تكن أرضي لله منكم، و نحن أهل بيت محمد و أولي بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم و السائرين فيكم بالجور و العدوان» [18] .

فهنا يؤكد أبوالأحرار علي حقهم في قيادة الأمة و أن الحاكمين للأمة من بني أمية انما هم غاصبون للحق الالهي المجعول لأهل البيت عليهم السلام.

ثانيا: أراد أبوعبدالله بهذه التصريحات أن يشخص للأمة أساس المشكلة و المعاناة التي تعانيها في حياتها، سواء في جانبها الفكري أو الاقتصادي أو الأخلاقي أو الاجتماعي فان علة ذلك و أساسة هو الانحراف و الفساد السياسي، حيث كانت شؤون الأمة بأيدي عناصر لا يحملون هموم الأمة و الاسلام، بل هم يخططون للقضاء علي روح الاسلام و ابعاده عن ساحة الحياة.

قال عليه السلام:

» اني لم أخرج أشرا و لا بطرا و لا مفسدا و لا ظالما و انما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي رسول الله، أريد أن آمر بالمعروف


و أنهي عن المنكر و أسير بسيرة جدي و أبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولي بالحق، و من رد علي هذا أصبر حتي يحكم الله بيني و بين القوم بالحق و هو خير الحاكمين.» [19] .

في هذا البيان أوضح أبوالأحرار خطه الرئيسي في حركته الثورية، و هو اصلاح أمة جده لا يريد بذلك الاستكبار أو الفساد أو الظلم، و لعله أراد بهذا التنبيه أن الأمة أصبحت في حال تحتاج الي اصلاح شامل، و السبب الرئيسي في ذلك هو تعطيل جانب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و انحسار مظاهر السيرة التي تكون امتدادا لسيرة الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله، و أشار عليهم السلام أنهم - أهل البيت - هم الذين تمثل سيرتهم سيرة جدهم الرسول الأكرم صلي الله عليه و آله.

و الجدير بالملاحظة - في هذا البيان - قوله عليه السلام:» فمن قبلني بقبول الحق فالله أولي بالحق، و من رد علي هذا أصبر حتي يحكم الله بيني و بين القوم بالحق و هو خير الحاكمين» حيث يمكن أن تكون هذه اشارة منه عليه السلام الي أنه لن يستطيع أن يغير التغيير الفعلي العاجل، و أنه سوف يريد و يصد عن الوصول الي ذلك و تبقي المسؤولية مسؤولية الأمة في مواصلة الطريق من أجل الأصلاح الشامل، فعلي هذا يكون هذا البيان جزءا من تشخيص اساس المشكلة التي تعانيها الأمة.

و اذا ما أرادت الأمة حل المشكلة من جذورها و رفع معاناتها فان الطريق الي ذلك هو حل المشكلة السياسية، بأن يكون حكم المسلمين بيد قادتهم الحقيقين الذين لا هم لهم الا الحفاظ علي الرسالة و الحفاظ علي وجود الأمة و عزتها؛ لأنهم هم الذين يمثلون الامتداد الطبيعي لصاحب الرسالة و هم أهل بيته عليهم السلام.


فهو عليه السلام انما أراد تشخيص المشكلة و طرح حلها من خلال هذه التصريحات التي يتحدث فيها عن شؤون الحكم و القيادة، من خلال ما تقدم نخلص الي أن الامم الحسين عليه السلام قد حقق كل ما يريد الوصول اليه و أنجز الهدف الذي من أجله قام بهذه الثورة المقدسة، و هو بعث روح الجهاد و التضحية في أمة جده من أجل الحفاظ علي الرسالة و بقائها و عزة الأمة و كرامتها، و من أجل تأصيل الخط الذي يمثل منهج أهل البيت عليهم السلام في تجسيدهم لرسالة الاسلام.



يومان قد شهد الزمان عجائبا

لك فيهما آيات مجدك تشرق



يوم ولدت به و يوم سجلت

فيه الملاحم اذ دماؤك تهرق



قد أنقذت تلك الدماء رسالة

كادت صحائف شرعها تتمزق



و تجددت روح الجهاد لأمة

لولاك عاد الروح فيها يخنق



علمتها أن الممات سعادة

في ظل دائرة الجهاد و أشوق



ساموك أن ترد الهوان فقلتها

هيهات و العضب المصمم يبرق



و الي القيام صليل سيفك لم تزل

أصداؤه و لواء حمدك يخفق



و رفعت صوتا كلما رام العدي

اسكاته في جنب مجدك أخفقوا



أخرست ألسنة الضلال بمنطق

الأحرار مهما في الضلالة أغرقوا [20] .





پاورقي

[1] نهج‏البلاغة ج 1 رقم القطعة 33 ص 76، صبحي الصالح.

[2] نهج‏البلاغة، قطعة رقم 131، صبحي الصالح.

[3] تقدمت مصادره في ص 96 هامش 1.

[4] تقدمت مصادره في ص 18 هامش 1، و في ص 36 هامش 1.

[5] کنز العمال للهندي و السيوطي في اللآلي‏ء المصوغة 203: 1.

[6] العقد الفريد 124: 5.

[7] تاريخ بغداد: 328: 3.

[8] ذخائر العقبي و کنز العمال ص 127.

[9] تقدمت مصادره في ص 54 هامش 2.

[10] موسوعة کلمات الامام الحسين ص 329.

[11] کامل الزيارات ص 157 حديث 195، بصائر الدرجات للصفار ص 501، و البحار ج 42 ص 81 و ج 45 ص 84.

[12] موسوعة کلمات الامام الحسين ص 321.

[13] بحارالأنوار ج 44 ص 381، و اللهوف ص 48.

[14] الثورة الحسينية و أسبابها، السيد محمود الهاشمي.

[15] و تنفس صبح الحسين ج 2 ص 31.

[16] و تنفس صبح الحسين ج 2 ص 31.

[17] موسوعة کلمات الامام الحسين ص 313.

[18] موسوعة کلمات الامام الحسين ص 356.

[19] تقدمت مصادره في ص 18 هامش 1، و في ص 36 هامش 1.

[20] من قصيدة للمؤلف، بمناسبة مولد الحسين عليه‏السلام.