بازگشت

الحسين في عهد معاوية


في ظروف تلك المحنة التي قاساها الامام الحسن عليه السلام و التي ألجأته الي الي مهادنة خصمه اللدود معاوية، تلك المحنة التي تتكون من جانبين:

الجانب الأول يتمثل في خصم لا يتورع عن استخدام أية وسيلة للوصول الي غاياته مهما كانت تلك الوسيلة هزيلة و دنيئة.

و الجانب الثاني من محنته عليه السلام يتمثل في اختلاف و تعدد عناصر المجتمع الذي كان محسوبا علي الامام و الذي تشكل منه ذلك الجيش الذي خرج معه عليه السلام لمواجهة معاوية، و هو يحمل - أي الجيش - مختلف الاتجاهات و التناقضات مما سبب أزمة معقدة للامام تيقن عندها أنه لو واجه معاوية عسكريا - مع تلك الملابسات و التناقضات - لأدي ذلك الي هدم قاعدة أهل البيت عليهم السلام التي تمثل الخط المعارض لخط الانحراف الأموي، فاضطر الامام الحسن الزكي عليه السلام الي الانسحاب و المهادنة المؤقتة حفاظا علي هذه القاعدة و الانتظار الي الظرف المناسب للمواجهة المسلحة، سواء ذلك تحت قيادته هو أم تحت قيادة أخيه الامام الحسين عليه السلام.

(و قد استغل معاوية حلم الامام الحسن عليه السلام ليتمادي في غيه و يزيد في تجاوزاته و تعدياته، فخطط لذلك خططا تؤدي نتائجها الي هدم كيان الاسلام و ضرب قواعده، بدأ بتحريف الحقائق و نشر البدع و منع الحديث النبوي و ابطال السنة في بلاط الأمراء و الحكام، ثم محاولة نشر ذلك في ساحة البلاد الاسلامية الواسعة، لكن الذي يمنعه وجود الأعداد الكبيرة من أنصار الحق و أعوان الامام علي عليه السلام الذين حافظ علي وجودهم الامام الحسن عليه السلام بمخططه العظيم و مواقفه الصائبة) [1] .


في هذه الظروف الصعبة و المحنة الضيقة كان أبوعبدالله الحسين عليه السلام شريكا لأخيه في مواقفه يشاطره آلام محنته حتي التحق الامام الحسن الزكي عليه السلام بالرفيق الأعلي. بقي أبوعبدالله يواجه ذلك الظرف الصعب و يمهد الأرضية للمواجهة الكبري، يمهد لذلك بالمواقف و المواجهات التي تكشف عورات النظام و جرائمه حتي يأتي اليوم الذي يعلن فيه ثورته المقدسة.

و قد سجل أبوعبدالله مواقف في عهد معاوية كشف فيه مفاسد النظام الأموي و انحرافاته، و من أهم مواقف الامام في هذا الظرف موقفه في مني، و ذلك (قبل موت معاوية بسنتين حج الحسين بن علي عليه السلام و عبدالله بن جعفر و عبدالله بن عباس معه، و قد جمع الحسين بن علي عليه السلام بني هاشم رجالهم و نساءهم و مواليهم و شيعتهم من حج منهم و من لم يحج و من الأنصار ممن يعرفه و أهل بيته، ثم لم يدع أحدا من أصحاب رسول الله صلي الله عليه و آله و من أبنائهم و التابعين و من الأنصار المعروفين بالصلاح و النسك الا جمعهم، فاجتمع عليه بمني أكثر من ألف رجل) [2] .

و تبرز أهميته هذا المؤتمر الذي عقده سيدالشهداء عليه السلام بملاحظة ما يلي:

أولا: نظرا لاشتماله علي مختلف الفئات و العديد من الطبقات ممن يعتبرون نخبة الأمة و أصحاب الرأي فيها و أهل الحل و العقد كشخصيات الهاشميين و من يدينون لهم بالولاء، و فئة من الصحابة من المهاجرين و الأنصار و التابعين الذين لا يمكن اغفال رأيهم و تجاوز و جهات نظرهم فيما يرجع الي قضايا الأمة المصيرية.

ثانيا: نظرا لأهمية الزمان و المكان الذي وقع فيهما هذا المؤتمر الشعبي، فأما الزمان فهو موسم الحج، و أما المكان فهي أرض مني ليكون لهذا التجمع الكبير أثره و صداه


في سائر البلاد الاسلامية بعد رجوع الحجاج الي بلدانهم و تحدثهم عما جري في هذا المؤتمر الذي عقده أبوعبدالله عليه السلام.

و كان خطاب الامام في ذلك اليوم مطولا و شاملا، و قد جاء فيه بعد حمد الله و الثناء عليه بأن قال عليه السلام:

» أما بعد، فان هذا الطاغية قد فعل بنا و بشيعتنا ما رأيتم و علمتم و شهدتم، و اني أريد أن أسألكم عن شي ء، فان صدقت فصدقوني، و ان كذبت فكذبوني. اسمعوا مقالتي و اكتبوا قولي ثم ارجعوا الي أمصاركم و قبائلكم، فمن آمنتم من الناس و وثقتم به فادعوهم الي ما تعلمون من حقنا، فاني أتخوف أن يدرس هذا الأمر و يذهب الحق و يغلب (و الله متم نوره و لو كره الكافرون) [3] . أنشدكم الله، أتعلمون أن علي بن أبي طالب كان أخا رسول الله صلي الله عليه و آله حين آخي بين أصحابه فآخي بينه و بين نفسه، و قال: أنت أخي و أنا أخوك في الدنيا و الآخرة.» قالوا: اللهم نعم. [4] .

و واصل الامام حديثه يعدد فضائل أبيه أميرالمؤمنين عليه السلام و ما نزل فيه من الآيات و ما جاء في حقهم جميعا عليهم السلام عن النبي صلي الله عليه و آله و ما نزل فيهم من آيات القرآن مستشهدا الحضور علي ذلك و هم يجيبونه بقولهم: (اللهم نعم).


و انتقل بعد ذلك الي تشخيص المسؤولية الملقاة علي عاتق الأمة و لا سيما هذه النخبة المجتمعة تجاه ذلك الانحراف الذي يهدد قواعد الاسلام موضحا الكثير من مظاهر ذلك الفساد المستري. فقال عليه السلام:

» اعتبروا أيها الناس بما وعظ الله به أولياءه من سوء ثنائه علي الأحبار اذ يقول: (لو لا ينهاهم الربانيون و الأحبار عن قولهم الاثم) [5] و قال: (لعن الذين كفروا من بني اسرائيل - الي قوله: - لبئس ما كانوا يفعلون.) [6] .

و انما عاب الله ذلك عليهم؛ لأنهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين أظهرهم المنكر و الفساد فلا ينهونهم عن ذلك رغبة فيما كانوا ينالون منهم و رهبة مما يحذرون، و الله يقول: (فلا تخشوا الناس و اخشون) [7] و قال: (و المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر) [8] ، فبدأ الله بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فريضة منعه لعلمه بأنها اذا أديت و أقيمت استقامت الفرائض كلها هنيئا و صعبها، و ذلك أن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر دعاء الي الاسلام مع رد المظالم و مخالفة الظالم و قسمة الفي ء و الغنائم و أخذ


الصدقات من مواضعها و وضعها في حقها.

ثم أنتم أيتها العصابة، عصابة بالعلم مشهورة، و بالخير مذكورة، و بالنصيحة معروفة، و بالله في أنفس الناس مهابة، يهابكم الشريف، و يكرمكم الضعيف، و يؤثركم من لا فضل لكم عليه و لا يد لكم عنده، تشفعون في الحوائج اذا امتنعت من طلابها، و تمشون في الطريق بهيبة الملوك و كرامة الأكابر. أليس كل ذلك انما نلتموه بما يرجي عندكم من القيام بحق الله، و ان كنتم عن أكثر حقه تقصرون، فاستخففتم بحق الأئمة، فأما حق الضعفاء فضيعتم، و أما حقكم بزعمكم فطلبتم، فلا مالا بذلتموه، و لا نفسا خاطرتم بها للذي خلقها، و لا عشيرة عاديتموها في ذات الله، أنتم تتمنون علي الله جنته و مجاورة رسله و أمانا من عذابه، لقد خشيت عليكم - أيها المتمنون علي الله - أن تحل بكم نقمة من نقماته؛ لأنكم بلغتم من كرامة الله منزلة فضلتم بها، و من يعرف بالله لا تكرمون و أنتم بالله في عباده تكرمون.

و قد ترون عهود الله منقوظة فلا تفزعون و أنتم لبعض ذمم أبائكم تفزعون، و ذمة رسول الله صلي الله عليه و آله محقورة و العمي و البكم و الزمن في المدائن مهملة لا ترحمون، و لا في منزلتكم


تعملون، و لا من عمل فيها تعنون و بالادهان و المصانعة عند الظلمة تأمنون، كل ذلك مما أمركم الله به من النهي و التناهي و أنتم عنه غافلون.

و أنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تسعون (تسمعون) ذلك بأن مجاري الأمور و الأحكام علي أيدي العلماء بالله الأمناء علي حلاله و حرامه، فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، و ما سلبتم ذلك الا بتفرقكم عن الحق و اختلافكم في السنة بعد البينة الواضحة، و لو صبرتم علي الأذي و تحملتم المؤونة في ذات الله كانت أمور الله عليكم ترد و عندكم تصدر و اليكم ترجع، و لكنكم مكنتم الظلمة من منزلتكم و أسلمتم أمور الله في أيديهم يعملون بالشبهات، و يسيرون في الشهوات، سلطهم علي ذلك فراركم من الموت و اعجابكم بالحياة التي هي مفارقتكم، فأسلمتم الضعفاء في أيديهم، فمن بين مستعبد مقهور و بين مستضعف علي معيشته مغلوب، يتقلبون في الملك بآرائهم و يستشعرون الخزي بأهوائهم، اقتداء بالأعراب و جرأة علي الجبار، في كل بلد منهم علي منبره خطيب يصقع، فالأرض لهم شاغرة و أيديهم فيها مبسوطة، و الناس لهم خول لا يدفعون يد لامس، فمن بين


جبار عنيد و ذي سطوة علي الضعفة شديد، مطاع لا يعرف المبدي ء المعيد.

فيا عجبا و ما لي لا أعجب و الأرض من غاش غشوم و متسلط ظلوم، و عامل علي المؤمنين بهم غير رحيم، فالله الحاكم فيما فيه تنازعنا و القاضي بحكمه فيما شجر بيننا.

اللهم انك تعلم أنه لم يكن ما كان منا تنافسا في سلطان و لا التماسا من فضول الحطام، و لكن لنري المعالم من دينك، و نظهر الاصلاح في بلادك، و يأمن المظلومون من عبادك. و يعمل بفرائضك و سننك و أحكامك، فانكم الا تنصرونا و تنصفونا قوي الظلمة عليكم و عملوا في اطفاء نور نبيكم، و حسبنا الله و عليه توكلنا و اليه أنبنا و اليه المصير» [9] .

ما أوضح الصورة و أدق التشخيص الذي عرضه أبوعبدالله لأساس المشكلة التي تعانيها الأمة في كل أبعادها وآثارها، حيث تبين أن الأمويين لم يكونوا ليصلوا الي ما وصلوا اليه من التسلط المطلق علي رقاب الناس، فساروا فيهم بالجور و الظلم و الفساد، لم يحدث ذلك لو أن الأمة قامت بمسؤوليتها الشرعية لا سيما النخبة العلمية و المقفة منها، الذين أشار أبوعبدالله عليه السلام الي مكانتهم المتميزة في نفوس المسلمين، حيث كان الناس ينظرون اليهم نظرة التقديس و الاجلال لمكانتهم العلمية و الدينية، الا أنهم لم يكونوا علي مستوي المسؤولية، بل كانوا يؤثرون حياة الدعة و الاستسلام


حتي لو كان ذلك علي حساب كرامتهم و دينهم و امتهم.

فأراد أبوعبدالله من خلال خطابه هذا أن يحذرهم و يحذر سائر الأمة من نتائج هذا الموقف الذي هو في حقيقته دعم و اسناد للظالمين ليتمادوا في جورهم و طغيانهم، حيث كانوا لا يرقبون في أحد الا و لا ذمة، فلا خلاص من هؤلاء الا بقيام الأمة بواجبها الشرعي من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

(ان هذا الموقف يعتبر أقوي معارضة علنية أقدم عليها الحسين عليه السلام في مواجهة معاوية و اجراءاته الخطرة التي دأب - طول حكمه - بعد استيلائه علي أريكة الحكم في سنة 40 للهجرة علي العمل بكل دهاء و تدبير لتأسيس دولته المنحرفة عن سنن الهدي و الصلاح و التقي، فحاول في الردة عن الاسلام الي احياء الجاهلية الأولي من الظلم و العصبية و التجسيم لله و القول بالجبر و الارجاء، و ما الي ذلك من الأفكار التي تؤدي الي تحميق الناس و اخماد جذوة الحركة الثورية الاسلامية و التوحيدية الاصلاحية) [10] .

و لم يكن في حسبان الامام الحسين عليه السلام القيام بثورته في مواجهة النظام في عهد معاوية؛ لأن الامام قد شخص الظروف الموضوعية آنذاك فرآها لا تساعد علي القيام بثورته العلنية لما أحدثه معاوية من التضليل للأمة في ابراز شخصيته و نظامه بالصورة التي ألبسها لباس الدين، و أنه يمثل ظل الله في أرضه، و هو خليفته علي عباده، فلو أن الامام الحسين عليه السلام قام بثورته في مثل تلك الظروف لما آتت نتائجها و آثارها التي تركتها لأجيال الأمة.

فرأي أبوالأحرار أن لابد من الانتظار ريثما تتهيأ الظروف الموضوعية للمواجهة الكبري بالثورة المقدسة، فكان الموقف المناسب في حياة معاوية هو المواجهة


الاعلامية و محاولة تمزيق ذلك الغشاء المموه الخادع الذي ألبسه معاوية نفسه و نظامه، حتي اذا هلك معاوية أصبح الظرف مناسبا للثورة، فأعلنا أبوعبدالله في وجه يزيد بن معاوية من أجل اصلاح الأمة و ارجاعها الي خط الاسلام الصحيح، و هذا ما ضمنه بيانه الأول في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية، فقال عليه السلام:

» اني لم أخرج أشرا و لا بطرا و لا مفسدا و لا ظالما و انما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي رسول الله، أريد أن آمر بالمعروف و أنهي عن المنكر و أسير بسيرة جدي و أبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولي بالحق، و من رد علي هذا أصبر حتي يحكم الله بيني و بين القوم بالحق و هو خير الحاكمين.» [11] .


پاورقي

[1] الالهيات ج 2 ص 516، نقلا عن التمهيد للباقلاني.

[2] الحسين سماته و سيرته ص 103.

[3] الاحتجاج للطبرسي ج 2 ص 18، و قريب منه في کتاب سليم بن قيس ج 2 ص 789 حديث 26.

[4] کتاب سليم بن قيس ج 2 ص 790 حديث 26، و بحارالأنوار ج 33 ص 182.

[5] المائدة: 63.

[6] المائدة: 79 - 78.

[7] المائدة: 44.

[8] التوبة: 71.

[9] تحف العقول ص 172 - 171، طبع الأعلمي، و بحارالأنوار ج 79 ص 80 - 79.

[10] الحسين سماته و سيرته ص 112.

[11] تقدمت مصادره في ص 18 هامش 1، و في ص 36 هامش 1.