بازگشت

المتيقنون بالمعاد


أما الفئة الثالثة فهم الذين يؤمنون بالمعاد ايمانا جازما لا يشوبه شك أو شبهة، فتكون هذه العقيدة احدي الركائز الأساسية للرؤية الكونية التي يحملها هؤلاء.

فهم قد وعوا وجودهم و غاية خلقهم وعيا تاما، فهم علي النقيض من الفئة الأولي الذين يعيشون محدودية المادة، فلا تتجاوز نظرتهم هذه الحياة الضيقة.

بينما المؤمنون يعيشون الأفق الأوسع و النظرة الشاملة للحياة الدنيا و الحياة الآخرة فتشمل رؤيتهم عالمي الغيب و الشهادة، فهم يعتقدون اعتقادا جازما و فاعلا بأن الانسان انما جاء الي هذه الحياة ليقوم بدوره الحضاري الذي كلف به من قبل خالفه تعالي، هذه الدور الذي يطلق عليه القرآن عنوان الخلافة مرة و عنوان الأمانة مرة


أخري، فمرة يقول تعالي: (اني جاعل في الأرض خليفة) [1] و تارة يقول: (انا عرضنا الأمانة علي السماوات و الأرض و الجبال فأبين أن يحملنها و أشفقن منها و حملها الانسان انه كان ظلوما جهولا) [2] .

فهذه المسؤولية الحضارية توصف بكونها خلافة اذا نظر اليها من زاوية المكلف - بالكسر - و هو الله تعالي، فهي خلافة عن الله تعالي، و توصف بكونها أمانة اذا نظر اليها من زاوية المكلف - بالفتح - فالانسان هو المتحمل لهذه الأمانة، فهو ملزم بكل حدود و شروط هذه الخلافة و تحمل هذه الأمانة، و متي تجاوز الانسان تلك الحدود و لم يلتزم بتلك الشروط فانه محكوم عليه بالخيانة التي تؤدي الي الشقاء الأبدي.

هذا مجمل الرؤية الكونية التي يحملها و يعيشها المؤمنون الصادقون بالمبدأ و المعاد، و لا شك أن (هذا اللون من التفكير يبعث في نفس حامله الهدوء و السكينة و يجعله يتحمل أعباء المسؤولية و مشاقها بصدر رحب، و يقف أمام الحوادث كالطود الأشم و يرفض الخضوع للظلم.

و هذا التفكير يملأ الانسان ثقة بأن الأعمال - صالحها و طالحها - لها جزاء و عقاب. و بأنه ينتقل بعد الموت الي عالم أرحب خال من كل ألوان الظلم يتمتع فيه برحمة الله الواسعة و ألطافه الغزيرة.

الايمان بالآخرة يعني اختراق حاجز عالم المادة و الدخول الي عالم أسمي، و يعني أن عالمنا هذا مزرعة لذلك العالم الأسمي، و مدرسة اعدادية له، و ان الحياة في هذا العالم ليست هدفا نهائيا، بل تمهيد و اعداد المعالم الآخر. الحياة في هذا العالم شبيهة بحياة المرحلة الجنينية، فهي ليست هدفا لخلقه الانسان، بل مرحلة تكاملية من أجل حياة


أخري، و ما لم يولد الجنين سالما خاليا من العيوب لا يستطيع أن يعيش سعيدا في الحياة التالية.

الايمان بيوم القيامة له أثر عميق في تربية الانسان يهبه الشجاعة و الشهامة) [3] .

و لما تحدث القرآن الكريم عن ركائز الايمان عند المتقين عد منها اليقين بالآخرة، قال تعالي: (ألذين يؤمنون بالغيب و يقيمون الصلاة و مما رزقناهم ينفقون - و الذين يؤمنون بما أنزل اليك و ما أنزل من قبلك و بالآخرة هم يوقنون) [4] .

و (انما ذكر الايمان بالغيب ابتداء؛ لأنه أصل كل ايمان و أساس كل اعتقاد و عمل... ثم أعقبه تعالي بالصلاة؛ لأنها أهم أركان الدين و أنها الرابطة بين العبد و معبودة ثم ذكر الانفاق؛ لأنه أعظم صلة بين أفراد الانسان، و به يحصل التعاون بينهم و تطهر أموالهم، فالآية باختصارها جمعت بين الأصول الاعتقادية و أهم الأعمال الجوارحية و أعظم الأمور الاجتماعية...

ثم انه تعالي ذكر،: (و بالآخرة هم يوقنون) مع أن الآخرة من أفراد الغيب الذي ذكر في أول الآية؛ و ذلك لأجل التأكيد والأهمية بالنسبة الي الآخرة، فان عماد النشأتين - الدنيا و الآخرة - هو الايمان بالمعاد بعد الايمان بالله تعالي، و به تنتظم حياة الانسان الفردية و الاجتماعية) [5] .

و قد وصف أميرالمؤمنين علي عليه السلام هذا الصنف من الناس بقوله عليه السلام:» اعلموا أن المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا و آجل الآخرة، سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت، و أكلوها بأفضل ما أكلت، ثم انقلبوا عنها بالزاد المبلغ و المتجر الرابح، و تيقنوا أنهم جيران الله في آخرتهم لا ترد لهم دعوة و لا ينقص عليهم نصيب من لذة» [6] .


فهؤلاء انما ربحوا الدارين؛ لأنهم عاشوا و عملوا من أجل الآخرة، و قد أشار أميرالمؤمنين عليه السلام في هذه الخطبة الي مستوي اليقين الذي يعيشه هؤلاء، فقال عليه السلام:» فهم و الجنة كمن قد رأها فهم فيها منعمون، و هم و النار كمن قد رأها فهم فيها معذبون» [7] .

هكذا يؤثر اليقين بالآخرة أثره في حياة الانسان و يصوغها بالصيغة الربانية الخاصة، و يجعل الانسان يعيش حالة من الشوق الي لقاء الله تعالي لا سيما حينما يعيش الانسان الرباني في وسط ملي ء بالانحرافات و بيئة اجتماعية قد سادها الفساد و الظلم و الفسوق مع عدم قدرته علي التغيير، فهو يفضل الموت علي الحياة كما عبر من هذه الحقيقة الامام الحسين عليه السلام عن موقفه من مظاهر الانحراف و الضلال في عصره فقال عليه السلام:

» و ان الدنيا قد تغيرت و تنكرت و أدبر معروفها، و لم يبق منها الا صبابة كصبابة الاناء و خسيس عيش كالمرعي الوبيل، ألا ترون الي الحق لا يعمل به و الي الباطل لا يتناهي عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله، فأني لا أري الموت الا سعادة و الحياة معذ الظالمين الا برما» [8] .

فهذا الداعية الرباني أصبح لا يري لبقاء الانسان المؤمن في هذه الحياة و في ظل تلك الظروف أي قيمة، حيث لا يتمكن من تحقيق الهدف الأسمي من وجوده، فأصبح الانتقال الي عالم الآخرة و الي جوار الله تعالي هو الأولي له و الأحري به، فرفع الامام


علم التمرد و الثورة علي تلك الأوضاع اللااسلامية، فاستجاب له من استجاب من أبدال الأمة الذين اقتبسوا أشعة من تلك الروح المقدسة فتعلقوا به و ربطوا مصيرهم بمصيره، حيث و صلوا الي القناعة التامة بأن الحياة أصبحت أتفه من أن يفكر فيها أو يلتفت اليها، فمثلت لهم الآخرة فرأوها ببصائرهم و قلوبهم فأقبلوا عليها بكل عشق، و قدموا أرواحهم قرابين علي مذبح الشهادة.

فهذا قائدهم يقول معبرا عن شوقه و ولهه الي لقاء الله و الآخرة ذلك البقاء الذي يجمعه بأسلافه السابقين:

»و ما أولهني الي أسلافي اشتياق يعقوب الي يوسف، و خير لي مصرع أنا لاقيه..» [9] .

و قد ذكر المؤرخون عن هذه الصفوة أمورا تجير العقول عن حالة العشق التي كانوا عليها للقاء الله و الانتقال الي الآخرة.

(لقد كان بعضهم يداعب أصحابه و يمازحهم في الليلة العاشرة، فقد هازل برير عبدالرحمن الأنصاري رحمه الله، فقال له عبدالرحمن: (ما هذه ساعة باطل)، فقال برير: (لقد علم قومي ما أحببت الباطل كهلا و لا شابا، و لكني مستبشر بما نحن لاقون، و لله ما بيننا و بين الحور العين الا أن يميل علينا هؤلاء القوم بأسيافهم، و لوددت أنهم مالوا علينا الساعة) [10] .

(و هذا حبيب بن مظاهر خرج الي أصحابه و هو يضحك قد غمرته الأفراح، فأنكر عليه يزيد بن الحصين التميمي قائلا: (ما هذه ساعة ضحك)، فأجابه حبيب عن ايمانه


العميق قائلا: (أي موضع أحق من هذا بالسرور، و الله ما هو الا أن تميل علينا هذه الطغاة بسيوفهم فنعانق الحور العين) [11] .

(و ليس في أسرة شهداء العالم مثل هذا الايمان الذي تفجر عن براكين هائلة من اليقين و المعرفة و صدق النية و عظيم الاخلاص.. لقد استبشروا بالفوز في جنان الخلد مع النبيين و الصديقين و الشهداء، و أيقنوا أنهم يموتون أهنأ موتة و أعظمها في تاريخ البشرية في جميع الأجيال و الأباد.) [12] .



پاورقي

[1] البقرة: 30.

[2] الأحزاب: 72.

[3] التفسير الأمثل ج 1 ص 75.

[4] البقرة 4 - 3.

[5] مواهب الرحمن ج 1 ص 86 - 85.

[6] نهج‏البلاغة خطبة المتقين رقم الخطبة 193 ص 444.

[7] نهج‏البلاغة رقم الخطبة 193 ص 444.

[8] بحارالأنوار ج 44 ص 381 و اللهوف لابن‏طاووس ص 48.

[9] شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي ص 146: مثير الأحزان لابن‏نما ص 29، و بحارالأنوار ج 44 ص 366، و العوالم (الامام الحسين) ص 216، و اللهوف ص 38 طبع العلمي.

[10] في رحاب عاشوراء ص 229.

[11] حياة الامام الحسين ج 3 ص 175.

[12] حياة الامام الحسين ج 3 ص 176.