بازگشت

المدعون للايمان بالمعاد


و نعني بهم الفئة التي تدعي أنها مؤمنة بالمعاد و الآخرة، الا أن سيرتهم في حياتهم العملية تتناقض مع هذا الاعتقاد، فهم يعيشون الانفصال بين هذه الدعوة و بين أعمالهم و ما يقومون به من اجرام و يعيشونه من انحراف و فساد. فهم و ان حملوا اسم الاسلام


و لكن الذي تمكن من قلوبهم و يعيش في نفوسهم هو حب الدنيا و المصالح الشخصية و الشهوات النفسية من حب السلطان و المال و الجاه و الجنس و التمتع بالملذات بأي وسيلة و من أي طريق، غير آبهين و لا مبالين بالعواقب و النتائج.

و لو رجعنا الي التاريخ لرأيناه مملوءا من هذه النماذج الكثيرة لهذا الصنف من الناس، و كذا في كل عصر سواء كان ذلك علي مستوي الحكام أو علي مستوي المحكومين.

أما علي مستوي الحكام فان من يصل الي كرسي الحكم من هذا الصنف لم يعد يفكر الا في الحفاظ علي كرسيه و بقاء حكمه، فهو مستعد لأن يضحي بكل شي ء في سبيل ذلك. و لسنا في صدد السرد التاريخي لسيرة هذه النوعية من الحكام و انما نشير باشارات خاطفة الي بعض النماذج من تاريخ المسلمين.

أ - لما وقعت الأمة فريسة لأنياب معاوية بن أبي سفيان بعد الهدنة التي كانت بينه و بين الامام الحسن عليه السلام خطب في النخلية خطابا جاء فيه: (و الله اني ما قاتلتكم لتصلوا و لا لتصوموا و لا لتحجوا و لا لتزكوا، انكم لتفعلون ذلك، و انما قاتلتكم لأتأمر عليكم، و قد أعطاني الله ذلك و أنتم كارهون) [1] .

فالهدف المقدس عند معاوية هو الحكم و الحكم فقط، بينما الاسلام يعتبر الحكم وسيلة و طريقا لاقامة العدل في بلاد الله و بين عباده، و ليس الحكم هدفا بذاته. و لكن لما كان الحكم هو الغاية في نظر هؤلاء فانهم لا يتورعون عن اتخاذ أي وسيلة في سبيل الوصول اليه و بقائه في أيديهم، و أي شخص أو جماعة تقف في طريقهم أو تنكر عليهم أعمالهم فسوف تكون حياته أرخص الأشياء و سفك دمائهم أسهل من السهل.


فلا قيمة لحياة الانسان و لا قدسية لدمه و لا وزن لكرامته، فكم من عظيم قتل بسيوفهم، و كم دم مقدس أهرق علي أيديهم، و من العظماء الذين أبادهم سيف معاوية حجر بن عدي الكندي و مجموعة من أصحابه في مرج عذراء و غيرهم من الأبرياء من الذين لا ذنب لهم الا أنهم يعارضون معاوية في ظلمه و جوره.

هذا الي جانب حرب العصابات التي استخدمها معاوية فقد أرسل بسر بن أرطاة علي رأس جيش ليشن الهجمات المباغتة علي المدن و القري التي تخضع لحكم أميرالمؤمنين عليه السلام، و ذلك ليقوم بالقتل و السلب و النهب و نشر الرعب و الارهاب بين المسلمين في تلك البلدان.

فان حكم معاوية لم يقم الا علي قاعدة الغاية تبرر الوسيلة.

ب - قال المؤرخون: ان عبدالملك بن مروان كان قبل أن يتقلد الخلافة يظهر النسك و العبادة، فلما بشر بالملك بعد هلاك أبيه مروان كان بيده المصحف الكريم فأطبقه و قال: هذا آخر العهد بك، أو قال: هذا فراق بيني و بينك. و قد صدق فيما قال، فقد فارق كتاب الله و سنة نبيه منذ اللحظة الأولي التي تقلد فيها الحكم فقد أثرت عنه من الأعمال ما باعدت بينه و بين الاسلام و القرآن. [2] .

و قد قال في خطبته بعد قتله لابن الزبير: (لا يأمرني أحد بتقوي الله بعد مقامي هذا الا ضربت عنقه) [3] .

ج - ذكر المؤرخون أن الحجاج بن يوسف الثقفي - و هو احدي سيئات هذا التاريخ - مات في حبسه خمسون ألف رجل و ثلاثون ألف امرأة منهن ستة عشر ألفا مجردات، و كان يحبس الرجال و النساء في موضح واحد. [4] .


فهل يشم الانسان من هذه السيرة رائحة الايمان بالمعاد و الحساب، و قد عرف التاريخ الكثير من هذه النماذج، بل هي موجودة في كل عصر.

أما في عصر الامام الحسين عليه السلام فنأخذ منه سيرة حكام عصره و واقعهم، قال عليه السلام:

»ألا و ان هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان و تركوا طاعة الرحمن و أظهروا الفساد، و عطلوا الحدود، و استأثروا بالفي ء، و أحلوا حرام الله و حرموا حلاله، و أنا أحق من غير) [5] .

هذا علي مستوي الحكام، أما علي مستوي المحكومين فان الحكام الجائرين لم يستطيعوا أن يفعلوا ما فعلوا الا عندما وجدوا من ينفذ لهم أوامرهم و يقوي شوكتهم، فان الجماعات من هذا الصنف من الناس هم الأداة الطبيعية و القوة الضاربة في أيدي الظالمين، و انما صارت تلك الجماعات علي هذا المستوي لأنهم قد استعبدتهم الدنيا و لم يكونوا يعيشون الاسلام، بل هم يعيشون حالة الانفصال بين دعواهم للاسلام و الايمان بالمبدأ و المعاد و بين واقعهم العملي و الحياتي، كما وصفهم أبوالأحرار الامام الحسين عليه السلام:

» الناس عبيد الدنيا، و الدين لعق علي ألسنتهم يحوطونه ما درت معائشهم، فاذا محصوا بالبلاء قل الديانون.» [6] .

فنجد هذا الخبير العظيم بأمور الناس و أحوالهم كيف يشخص واقعهم، و لا شك أنه انما يعني بالناس هنا من يحمل دعوي التدين بالاسلام، فان هؤلاء الناس يحيطون


الدين مادام في ذلك مكاسب دنيوية و مصالح شخصية، و انما تتكشف حقائقهم عند الاصطدام يواجب شرعي أو موقف يجعلهم بين خيارين و مفترق طريقين، و هو الموقف الذي يتعارض مع دنياهم و مصالحهم المادية، عند ذلك لا تري للدين أي وجود في حياتهم.

و قال سيدالشهداء عليه السلام في خطابه لتلك الجماعة التي باعث نفسها علي الأمويين في سبيل دنيا تافهة زائلة محاولا انقاذهم مما هم فيه من السقوط في بؤرة الشيطان، قال عليه السلام:

» الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء و زوال، متصرفة بأهلها حالا بعد حال، فالمغرور من غرته و الشقي من فتنته، فلا تغرنكم هذه الدنيا فانها تقطع رجاء من ركن اليها، و تخيب طمع من طمع فيها. و أراكم قد أجمعتم علي أمر أسخطتم الله فيه عليكم، و أعرض بوجهه الكريم عنكم، و أحل بكم نقمته، و جنبكم رحمته، فنعم الرب ربنا و بئس العبيد أنتم، أقررتم بالطاعة و آمنتم بالرسول محمد صلي الله عليه و آله ثم انكم زحفتم الي ذريته و عترته تريدون قتلهم، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم، فتبا لكم و لما تريدون، انا لله و انا اليه راجعون، هؤلاء قوم كفروا بعد ايمانهم فبعدا للقوم الظالمين.» [7] .

فقد أعطي أبوالأحرار في هذا البيان صورة واضحة للتناقض الذي يعيشه أولئك


في دعواهم بالايمان بالمبدأ و المعاد و الرسالة و بين موقفهم منه في اقدامهم و تصميمهم علي ارتكاب تلك الجريمة الكبري التي هي من أبشع ما عرفه التاريخ من الجرائم.

و في بيان آخر خاطبهم عليه السلام بقوله:

» فقبحا لكم، فانما أنتم من طواغيت الأمة و شذاذ الأحزاب، و نبذة الكتاب، و نفثة الشيطان و عصبة الآثام، و محرف الكتاب، و مطفي ء السنن، و قتلة أولاد الأنبياء، و مبيري عترة الأوصياء». [8] .

فهذه الأوصاف التي وصفهم الامام الحسين عليه السلام بها صفات تجعلهم أناسا لا عهد لهم بالله و لا صلة لها بالايمان بالمبدأ و المعاد، مع أنهم يدعون أنهم مسلمون و مؤمنون بما نزل علي محمد صلي الله عليه و آله، فما أبعد الشقة بين الدعوي و الموقف.

فهذا عمر بن سعد - و هو قائد ذلك الجيش - يجتمع به الحسين عليه السلام قبل الواقعة ليلا اجتماعا مغلقا لم يحضره الا العباس و علي الأكبر من جانب الحسين و مع ابن سعد ابنه حفص و غلام لابن سعد، فقال الامام:» يابن سعد، أتقاتلني أما تتقي الله الذي اليه معادك، فاني ابن من قد علمت، ألا تكون معي و تدع هؤلاء القوم فانه أقرب الي الله تعالي».

و ألقي ابن سعد معاذيره الواهية قائلا: أخاف أن تهدم داري.

-» أنا أبنيها».

- أخاف أن تأخذ ضيعتي.

-» أنا أخلف عليك خيرا منها في الحجاز.»


- ان لي بالكوفة عيالا و أخاف عليهم من ابن زياد القتل.

و لم يجد منه الامام عليه السلام أي تجاوب، و انما رأي منه اصرارا علي الغي و العدوان فاندفع يدعو عليه:» ما لك ذبحك الله علي فراشك عاجلا و لا غفر الله لك يوم حشرك، فو الله اني لأرجو ألا تأكل من بر العراق الا يسيرا».

و ولي ابن سعد و هو يقول للامام سخرية: ان في الشعير كفاية. [9] .

فنري منطق ابن سعد منطقا دنيويا صرفا لا يشم منه رائحة الايمان، فلا نجد في كلامه ذكرا للدين، فهو لا يتحدث الا عن داره و ضيعته و ما الي ذلك. فلم يعد يفكر الا في الدنيا و مظاهرها و ملذاتها و لم يعد للآخرة و الايمان بها شي ء من تفكير هذا الرجل الخاسر.


پاورقي

[1] حياة الامام الحسين ج 2 ص 254.

[2] حياة الامام الباقر ج 2 ص 17.

[3] تاريخ الخلفاء ص 218.

[4] حياة الامام الحسين ج 2 ص 148 نقلا عن أنساب الاشراف.

[5] تقدمت مصادره في ص 27 هامش 1.

[6] بحارالأنوار ج 44 ص 383 و ج 75 ص 117، و تحف العقول ص 245، و العوالم ص 234، و مقتل الحسين عليه‏السلام للخوارزمي ج 1 صث 237.

[7] بحارالأنوار ج 45 ص 6 - 5، و العوالم ص 249، و مقتل الحسين للخوارزمي ج 1 ص 252.

[8] بحارالأنوار ج 45 ص 8، و العوالم (الامام الحسين) ص 252، و اللهوف لابن طاووس ص 58.

[9] حياة الامام الحسين ج 3 ص 134 - 133.