بازگشت

النبوة


«و أشهد أن محمدا عبده و رسوله جاء بالحق من عنده» [1] .

النبوة و الرسالة تمثل عملية الاتصال ما بين الله و الانسان في عملية التوجيه و الهداية التشريعية في حياة الانسان، فالنبي هو واسطة السماء لهداية الأرض، و قد واكبت النبوة حياة الانسانية في مسيرتها الطويلة و لم يغلق هذا الباب،الا عندما وصلت البشرية - في ظل قيادة الأنبياء - درجة من القابلية تؤهلها لتقبل الرسالة الخاتمة التي انزلت علي خاتم الأنبياء و الرسل نبينا الأكرم محمد صلي الله عليه و آله، فختم الله رسالات السماء بهذه الرسالة الكاملة.

و لسنا في صدد البحث عن اثبات نبوته و رسالته صلي الله عليه و آله و ما يتعلق بذلك، و انما جهة البحث هنا تتعلق بقداسة الشخصية النبوية و ما تعرضت له من محاولة لخلخلة تلك القداسة و اضعافها في نفوس المسلمين.

لقد تعرضت شخصية الرسول محمد صلي الله عليه و آله الي محاولة المساس بقداستها و الحط من ذلك المقام الشامخ و ابراز شخصيته بصورة الانسان العادي الذي يجوز عليه ما يجوز علي غيره من سائر الناس.

ف (لو راجعنا الروايات التي يدعي أنها تسجل لنا تاريخ نبي الاسلام لوجدنا هذا النبي الذي اصطفاه الله و اختاره من بين جميع خلقه و وصفه جل و علا في القرآن


الكريم بأنه علي خلق عظيم، و الذي هو أشرف الأنبياء و المرسلين، و أعظم و أكمل رجل وجد علي وجه الأرض، و هو عقل الكل ومدبر الكل و امام الكل، لوجدناه - في هذه السيرة المزعومة - عاجزا و متناقضا يتصرف كطفل و يتكلم كجاهل، و يرضي فيكون رضاه ميوعة و سخفا، و يغضب فيكون غضبه عجزا و اضطرابا، يجتاج دائما الي من يعلمه و يدبر اموره و يأخذ بيده و يشرف علي شؤونه و يحل له مشاكله، الكل أعرف و أعقل منه كما أثبتته الوقائع المختلفة المزعومة تاريخا و سيرة حياته صلي الله عليه و آله.

فبماذا و كيف نفسر حمل هذا النبي صلي الله عليه و آله زوجته علي عاتقه لتنظر لعب السودان و خدها علي خده، أو أنها وضعت ذقنها علي يده و صارت تنظر الي لعب السودان يوم عاشورا.

ثم هو يترك جيشه لينفرد بزوجته عائشة ليسابقها في قلب الصحراء أكثر من مرة و في أكثر من مناسبة فتسبقه مرة و يسبقها أخري ليقول لها: هذه بتلك...

نعم، هكذا تشاء الروايات - و كثير منها مدون في الكتب التي يدعي البعض أنها أصح شي ء بعد القرآن - أن تصور لنا أعظم رجل و أكرم و أفضل نبي علي وجه الأرض.

... ان أعطاه هذه الصورة عن نبي الاسلام الأعظم محمد صلي الله عليه و آله و هو القدوة و الأسوة لهو الخيانة العظمي للتاريخ و للأمة و للانسانية جمعاء و لا زلنا نتجرع غصص هذه الخيانة و نهيم في ظلماتها.

و أما لماذا كل هذا الافتراء علي الرسول الأكرم محمد صلي الله عليه و آله؟فنعتقد أن الأمر لم يكن عفويا، بل كان ثمة خطة مرسومة تهدف الي طمس معالم الشخصية النبوية و التعتيم


علي خصائصها الرسالية الفذة؛ ليكون ذلك مقدمة لهدم الاسلام خصوصا من قبل الحكم الأموي البغيض و أعوانه) [2] .

و متي ضعفت أو تلاشت تلك القداسة من نفوس المسلمين تجاه نبي الاسلام لم يعد لشخصيته ذلك الأثر المطلوب في نفوسهم كقدوة لهم و أسوة بل يكون ذلك الأثر سلبيا، و هذا هو الذي يريدون تحقيقه.

كذلك لتكون هذه السيرة المزعومة مبررا لأعمال الانحراف التي يقوم بها الأمويون و أشباههم. فما دام نبي الأمة تصدر منه هذه الأفعال فما ظنك بغيره من الحكام الأمويين و غيره من الناس الذين يجوز عليهم كل شي ء. هكذا أرادوا أن يزرعوا في ذهنية الأمة لتكون هذه العملية جزءا من تلك الجهود التي بذلوها لتخدير الأمة و اماتة الروح الاسثلامية فيها.

و أما من الذي تصدي لهذه الحملات الشرسة لصدها و ابطالها، و من الذي تبني موقف الدفاع عن قداسة الرسول الأعظم و سيرته و سنته الشريفة صلي الله عليه و آله ليس هناك الا أهل بيته المعصومون عليهم السلام و من سار علي خطاهم و تأثر بهم.

و دور أهل البيت عليهم السلام في هذا المجال يأتي علي مستويين:

المستوي الأول: بذل الوسع في الحفاظ علي شخصية الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله و ما تحتله من مكانة شامخة في نفوس المسلمين ليبقي الرسول صلي الله عليه و آله هو ذلك القدوة و الأسوة لكل مسلم، بل لكل انسان، و ليبقي ذلك الانسان المعصوم و الفرد الأكمل من بين عباد الله تعالي:

المستوي الثاني: هو التمسك بحرفية سيرة الرسول صلي الله عليه و آله و سنته العملية و احيائها في حياة المسلمين و عدم التنازل عن شي ء منها مهما أمكن.


و من الواضح أن المستوي الأول هو الطريق الي المستوي الثاني ف (ان طريق احياء سنة الرسول و الالتزام بما جاءت به من أحكام و توصيات يمر من خلال شخصية الرسول القائد، فما لم ينجذب الناس الي شخصيته المقدسة و ما لم يعشقوها و يعتقدوا بعظمتها و سموها علي سائر الشخصيات في الدنيا لا يمكن أن يأخذوا عنه و يتلقوا منه سنته المطهرة و يعملوا بها، علي أهل البيت في البدء بكل وسعهم علي ارتباط المسلمين بالرسول الأكرم و اتخاذه قدوة قبل كل شي ء.) [3] .

فعلي المستوي الأول: قال أميرالمؤمنين عليه السلام في الخطبة القاصعة مشيرا الي العناية الربانية بهذا الرسول الكريم منذ مجيئه الي هذه الحياة و تربية الله له؛ ليكون هو الشخص الأكمل من بين أفراد البشر:» و لقد قرن الله به - أي النبي - من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم و محاسن أخلاق العالم ليله و نهاره، و كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاق علما و يأمرني بالاقتداء به.» [4] .

هكذا شخصية الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله في فكر أهل البيت عليهم السلام، فهو معصوم منذ طفولته؛ لأن الله تعالي قرن به أعظم ملك، و هو الملك التي تعبر عنه الروايات بروح القدس، و مهمته تسديد الرسول في كل أفعاله و أقواله.

و قال عليه السلام متحدثا عن مشاعل الكمال و مظاهر العظمة في شخصية الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله و عن دوره في حياة البشرية، حيث كان تلك الشمس الساطعة التي تنير للبشرية طريقها:» حتي أفضت كرامة الله سبحانه و تعالي الي محمد فأخرجه من أفضل المعادن منبتا و أعز الأرومات مغرسا، من الشجرة التي صدع منها أنبياءه،


و انتجب منها أمناءه... فهو امم من اتقي و بصيرة من اهتدي، سراج لمع ضوؤه و شهاب سطع نوره، و زند برق لمعه، سيرته القصد، و سنته الرشد، و كلامه الفصل، و حكمه العدل، أرسله حين فترة من الرسل و هفوة عن العمل». [5] .

(و عندما نقرأ الموسوعات الحديثية الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام نجد فيها وصفا دقيقا لشخصية الرسول من حيث خصائص أخلاقه الكريمة التي امتدحها تعالي في كتابه العزيز: (و انك لعلي خلق عظيم) [6] .

فقد تحدثت هذه الموسوعات عن صدقه و أمانته و عدله وشجاعته و رحمته و حلمه و حيائه و تواضعه و كرمه و صبره و زهده و ايثاره، اضافة الي تفانيه و ذوبانه في عبادة ربه تعالي: و رسمت له أجمل صورة أرادها الله أن تكون مثلا أعلي للبشر جميعهم الي يوم الدين) و [7] .

و هذه الصورة تختلف اختلافا كليا عن الصورة التي تصورها تلك الروايات المزورة لشخصية هذا النبي الكريم.

و من هذا المنطلق نجد مدرسة أهل البيت عليهم السلام تؤكد علي عصمة الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله بالعصمة المطلقة التي تشمل عصمته في تلقي الوحي و استيعابه و تبليغه الي الناس و عصمته في كل فعل من أفعاله و قول من أقواله في أي مجال من مجالات الحياة، فهو معصوم في كل ذلك من الخطأ و الاشتباه و السهو و النسيان قبل البعثة و بعدها. و قد مرت كلمات أميرالمؤمنين عليه السلام في حق الرسول و تسديد الله منذ الطفولة و عصمته قبل البعثة ضرورة من ضروريات البعثة و نجاحها؛ و ذلك لما يلي:


أولا: لأن العصمة تمثل الاعداد لذات الرسول لتكون و عاء للرسالة و النبوة، فيكون طرفا للوحي الالهي بما يحمل من طهارة نفسية و فكرية لعدم تلوثه بأي مستو من مستويات المعصية.

ثانيا: أن العصمة للرسول بآثارها الخارجية تكسبه الثقة و المقبولية لقوله لدي الناس، بعكس ما اذا كان ملوثا بالمعصية من قبل أن يبعث، فان النفوس لا تثق به و لا تطمئن له القلوب حتي لو عصم بعد البعثة؛ لأن من طبع الناس أن يقيسوا الحاضر بالماضي و اللاحق بالسابق فلا تتحقق أهداف البعثة.

بينما تري مدرسة الخلفاء عصمة النبي علي نطاق ضيق، فهو معصوم لديهم في دائرة تلقي الوحي و تبليغه للناس فقط، أما في سائر المجالات الأخري كتطبيق الوحي عمليا علي نفسه أو في سائر أفعاله و أقواله التي لا علاقة لها بتبليغ الوحي، فليس بمعصوم لديهم، بينما القول بجواز السهو أو الخطأ أو النسيان علي الرسول الأعظم يفتح باب الاحتمالات في حقه و تزلزل الثقة في شخصيته.

و أني لعامة الأمة أن يميزوا ما يتعلق بالتشريع من فعله صلي الله عليه و آله و بين سائر أفعاله، الأخري، ألا ينسحب عدم الاطمئنان علي أفعاله التشريعية، وبالتالي لا يتحقق الهدف من بعثته.

ف (ان الغاية المتوخاه من بعث الأنبياء هي هداية الناس الي السعادة، و لا تحصل هذه الغاية الا بكسب اعتمادهم و ثقتهم المطلقة بصحة ما يقوله الأنبياء و يحكونه عن الله تعالي، و لكن ما قولك فيما لو شاهد الناس نبيهم يسهو في تطبيق الشريعة التي أمرهم بها أو يغلط في أموره الفردية و الاجتماعية، هل من ريب في أن الشك سيجد طريقا رحبة للتسرب الي أذهان الناس فيما يدخل في مجال الوحي و الرسالة؟! بل لن يبقي شي ء مما جاء به هذا النبي الا و تطرقه علامات الاستفهام، و لسان حال الناس


يقول: (هل ما يحكيه عن الله تعالي من الوظائف هي وظائف الهية حقا؟ أم أنها مزيج من الأخطاء و الاشتباهات؟ و بأي دليل هو لا يخطأ في مجال الوحي ان كان يخطأ في المجالين الآخرين.)

و هذا الحديث النفسي و الشعور الداخلي اذا تعمق في أذهان الناس سوف يسلب اعتمادهم علي النبي، و تنتفي بالتالي النتيجة المطوبة من البعثة.

نعم، ان التفكيك بين صيانة النبي في مجال الوحي و صيانته في سائر المجالات و ان كان أمرا ممكنا عقلا لكنه بالنسبة الي عقول الناضجين في الأبحاث الكلامية، و أما عامة الناس و رعاعهم الذين يشكلون أغلبية المجتمع فانهم غير قادرين علي التفكيك بين تينك المرحلتين، بل يجعلون السهو في احداها دليلا علي امكان تسرب السهو الي المرحلة الأخري، فلابد لسد هذا الباب الذي ينافي الغاية المطلوبة من ارسال الرسل من أن يكون النبي مصونا عن الخطأ في عامة المراحل، سواء في حقل الوحي أم تطبيق الشريعة أم في الأمور الفردية و الاجتماعية.) [8] .

و من الجائز أن يكون القول بعدم عصمة النبي المطلقة هو من تأثير تلك الروايات الموضوعة و المدسوسة في سيرة الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله، و لتكون جزءا من عقيدة المسلمين في حق النبي الأكرم صلي الله عليه و آله، لكن أهل البيت عليهم السلام وقفوا موقف الدفاع عن قداسة الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله.

هذا كله علي المستوي الأول، أما علي المستوي الثاني فان أهل البيت عليهم السلام كانوا يصرون و بقوة علي التمسك بسيرة الرسول صلي الله عليه و آله و سنته عمليا من دون أي تنازل عن شي ء منها مهما كلفهم ذلك من ثمن.


و هذا ما نراه بكل وضوح في سيرتهم و مواقفهم تجاه ذلك الانحراف عن تلك السيرة المطهرة.

فهذا أميرالمؤمنين عليه السلام في اجتماع الشوري - شوري الستة - لما أرادوا أن يفرضوا عليه سيرة اضافية الي جنب سيرة الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله و هي سيرة الشيخين رفض ذلك العرض الذي عرضه عليه عبدالرحمن بن عوف، عرض عليه الخلافة و اشترط عليه بقوله: (عليك عهد الله و ميثاقه لتعلمن بكتاب الله و سنة رسوله و سيرة الشيخين) فأجابه علي عليه السلام بأن يعمل بكتاب الله و سنة رسوله و رفض أن يعاهده علي العمل بسيرة الشيخين قائلا:» بل أجتهد برأيي» و في رواية:» أرجو أن أعمل بعلمي و طاقتي.».

لئلا يسجل عليه اعتراف بمصدر آخر الي جنب سيرة النبي صلي الله عليه و آله و سنته:؛ لتبقي السيرة و السنة المطهرة بعد الكتاب هي المصدر للمسلمين في شؤون دينهم و حياتهم.

و من هذا المنطلق أكد سيدالشهداء علي التمسك بسيرة جده الرسول صلي الله عليه و آله لما قرر القيام بثورته المقدسة قال في أحد بياناته:

» اني لم أخرج أشرا و لا بطرا و لا مفسدا و لا ظالما و انما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي رسول الله صلي الله عليه و آله، أريد أن آمر بالمعروف و أنهي عن المنكر، و أسير بسيرة جدي و أبي علي بن أبي طالب عليه السلام». [9] .


و انما أكد أبوالأحرار علي السير بسيرة جده و أبيه؛ لأن في الساحة سيرة أخري، فهذه اشارة منه عليه السلام الي أن سيرة الرسول صلي الله عليه و آله تكاد أن تنحسر كليا عن الحياة و حرف المسلمين العامة بفعل السياسة الأموية و التخطيط الأموي البعيد المدعي لمحوها كليا من الوجود، و حرف الأمة عن مسيرتها الاسلامية و ابعادها عن سيرة و سنة نبيها صلي الله عليه و آله من الناحية الفكرية و العملية.



پاورقي

[1] تقدمت مصادره في ص 18 هامش 1.

[2] للتوسع يراجع الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلي الله عليه و آله من ص 178 - 17.

[3] مجلة المنهاج العدد 11 ص 76.

[4] نهج‏البلاغة خطبة رقم 192.

[5] نهج‏البلاغة خطبة رقم 94.

[6] القلم: 4.

[7] مجلة المنهاج العدد 11 ص 79.

[8] الالهيات ج 2 ص 180 - 179.

[9] تقدمت مصادره في ص 18 هامش 1. و في الفتوح لابن‏أعثم ج 5 ص 21 بعد هذا: (و سيرة الخلفاء الراشدين المهديين رضي الله عنهم) و کلمة الخلفاء الراشدين: اصطلاح متأخر عن ذلک العصر، فيبدوا أنها أدخلت في کلام الامام الحسين عليه‏السلام و هي أجنبية عنه.