بازگشت

فرت الشمس...


فرّت الشمس.. توارت خلف الأفق المضمخ بحمرة قانية، وأشرق القمر دامياً كعين تنتحب.. القبائل ما تزال تعصف بالخيام تضرم فيها النار، والنار تمدّ ألسنتها كأفواه جائعة أصابها مسّ من الجنون، فهي تلتهم كل شي ء.

الذئاب تعوي.. تفتك بحملان صغيرة خائفة...

الشياطين تصارع الملائكة.

وصرخات تدوّي:

- لا تدعوا منهم أحداً صغيراً و لا كبيراً.

الذئاب تفتحم خيمة فيها فتي عليل لا يقوي علي النهوض... جرّد الأبرص سيفه.. مازال متعطشاً للدماء.. استنكر رجل من القبائل:

- اتقتل الصبيان؟! انما هو صبي مريض.


- لقد أمر ابن زياد بقتل أولاد الحسين.

وانبرت زينب بشجاعة ابيها:

- لا يُقتل حتي أُقتل دونه.

و نادي منادٍ باقتسام الغنائم، فتنازعت القبائل الرؤوس، زلفي الي ابن زياد حاكم المدينة الغادرة.

ارتفعت رؤوس مقطوعة فوق رماح. قافلة من العمالقة يتقدمها رأس سبط آخر الانبياء.. يحمله الأبرص. سبعون رأس أو يزيدون لم تنحنِ لغير اللَّه.. فارتفعت فوق ذري الرماح.. و كان في مقدمتها رأس آخر الاسباط.

وكان الفتي المريض يجود بنفسه، فقالت عمته وهي تخترق جدران الزمن:

- ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي و أبي واخوتي، فهواللَّه ان هذا لعهد من اللَّه الي جدك و أبيك، و لقد أخذ اللَّه ميثاق أناس لا تعرفهم فراعنة الارض، وهم معروفون في أهل السماوات، انهم بمجعون هذه الاعضاء المقطعة والاجسام المضرجة فيوارونها، و ينصبون بهذا الطفّ علماً لقبر أبيك لا يُدرس أثره و لا يمحي رسمه علي كرورو الليالي والايام وليجتهدُنّ ائمة الكفر و أشياع الضلال في محوه وطمسه، فلا يزداد اثره الّا علوّاً.


منظر الدماء و الجثث المتناثرة هنا و هناك والسيوف المكسرة والسهام المغروسة في الرمال.. تحكي ملحمة رهيبة سطّرها رجال قهروا الموت، وفجّروا في قلبه نبع الحياة، وأماطوا اللثام عن سرّ الخلود.

تقدمت امرأة تعدّت الخمسين من العمرم الي جسد تعرفه، رعتْه صغيراً وراقبتة كبيراً و شهدته ممزّقاً بحوافر خيل مجنونة.

جثت زينب عند مصرع آخر الاسباط: الجسد الممزق ساكن بلا حراك، لقد غادرت الروح التي دوّخت القبائل. دست زينب يديها تحت جسد أخيها.. رفعت بصرها إلي السماء.. الي اللَّه.. و تمتمت بعينين تفيضان دمعاً:

- تقبّلْ منا هذا القربان... يا الهي.

وألقت «سكينة» بنفسها علي جسد أبيها العظيم واعتنقته، وغمرتها حالة من الاستغراق. كانت تصغي الي صوت ينبعث من اعماق الرمال.. همهمة سماوية عجيبة تشبه صوت والدها الراحل:

- شيعتي ما إن شربتم عذب ماء فاذكروني.

أو سمعتم بغريب أو شهيد فاندبوني.

لملمت القبائل خزيها.. عارها الأبدي تريد العودة الي الكوفة... و «سكينة» ماتزال تتشبت بالجسد المضمخ بالدم.


هجم الأعراب من القبائل و جرّوها بعنف وراحوا يكعونها برؤوس الرماح حتي استوت علي ناقتها.

عشرون امرأه ثلكي، وفتي عليل، واطفال يتامي مذعورون، هو كل ما غنمته القبائل في اطول يوم في التاريخ. اما الرؤوس فقد راحت تتسابق فيها الخيل بشري الي الارقط حاكم المدينة المشهورة بالغدر.

غادرت القبائل شواطي ء الفرات.. تركته وحيداً يتلوي في الصحراء كأفعي حائرة.

و غادر موكب السبايا والعيون الحزينة تتلفت الي اجساد متناثرة فوق الرمال كنجوم منطفئة.. الي أن غابت عن البصر، وساد صمت رهيب ما خلا انين خافت ينبعث من اعماق الارض المصبوغة بلون ارجواني.