بازگشت

الشمس ما تزال مسمرة في زرقة السماء تصب لهيبا يشوي الوجوه...


الشمس ما تزال مسمّرة في زرقة السماء تصبّ لهيباً يشوي الوجوه... وعجلة الموت تدور مجنونة في الرمال الملتهبة.. تتخطف رجالاً لم تلههم تجارة ولابيع عن ذكر اللَّه....

تقدم «جون».. دفعته الأيام من اصقاع بعيدة، وكان فتي لأبي ذر الغفاري..

قال الحسين:

- يا جون انما تبعتنا طلباً للعافية، فأنت في إذن مني.

اجاب جون بضراعة:

- أنا في الرخاء ألحس قصاعكم، وفي الشدّة أخذلكم.. لا واللَّه لا أفارقكم حتي يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم.

واندفع جون يقاتل القبائل.. والارض تهتزّ تحت قديمه بشدّة.. كطبول افريقية.


وأطبقت السيوف عليه كأنياب وحش اسطوري.

تمتم الحسين، وهو يتأمل جراحه النازفة:

- اللَّهم احشره مع محمد و عرّف بينه و بين آل محمّد.

وتقدم من بعده أنس بن الحارث الكاهلي، وكان شيخاً كبيراً صحابياً، رأي النبي وسمع حديثه، و شهد معه بدراً، و حنيناً، ومعارك دامية أخري.

الشيخ الذي حنت ظهره الايام.. و وقفت عاجزة أمام إرادته.. نزع عمامته، وشدّ ظهره المقوّس بها، ورفع حاجبيه بالعصابة.

كان الحسين يراقبه، وعيناه تنهمران دموعاً.. ثم أجهش بالبكاء..

- شكر اللَّه لك يا شيخ!

تقدم الصحابي بخطي واهنة، وعزم كالحديد أو اشد بأساً.. و تداعت امامه صور مشرقة من جهاده مع النبي يوم كان يقاتل المشركين كافّة.. وها هو اليوم يقاتل ابناءهم و احفادهم.. و دوّت في أذنيه كلمات الرسول في المعارك: يا منصور أمت...

و وجدت القبائل فيه ثأراً قديماً من ثارات بدر و حنين.. فتكالبت عليه من كل حدب وصوب. وعندما هوي الصحابي الكبير الي الارض، ولامس وجهه الرمال، شعر بأنه يقبّل وجه النبي.


الصحراء تئنّ من وقع سنابك الخيل، و الرمال تشرب الدماء وتنشد المزيد، والقبائل تنتشي بثارات قديمة.. قديمة جداً.

الفرات يجري.. تتدافع امواجه، فبدا غير مكترث لما يدور علي شواطئه.. بل لعلّه كان يسرع ممعناً في الفرار.. لا يريد أن يشهد الأهوال.. أو ربّما كان يريد أن يروي للبحر قصة الصحراء والظمأ والحسين.

لم يبق مع الحسين من اصحابه أحد.. و دعّوه و ذهبوا بعيداً...

لم يبق مع الحسين سوي أهل بيته... فتقدم علي الاكبر.. اعصار يختزن غضب الانبياء.. الاب يودّع ابنه بنظرات حزينة كغيوم ممطرة. كانت دموع الحسين تنهمر. وبصوت، يشبه نشيج الميازيب في مواسم المطر، هتف:

- قطع اللَّه رحمك يابن سعد كما قطعت رحمي و لم تحفظ قرابتي من رسول اللَّه.. وسلّط عليك من يذبحك علي فراشك.

الأكبر يخترق غابة السيوف والرماح.. والحسين يرفع وجهه.. يحدّق في السماء:

- اللّهم اشهد علي هؤلاء القوم، فقد برز اليهم اشبه الناس برسولك محمد خلْقاً و خُلُقاً و منطِقا، وكنا اذا اشتقنا الي رؤية نبيك نظرنا اليه، اللَّهم فامنعهم بركات الارض.


العلوي يخترق احراش الرماح.. و بين الفينة والاخري يلوح بريق سيف غاضب كوميض الصواعق بين سحب مشحونة.. مخزونة بالرعود.

هزّ «مرّة بن منقذ» رمحه، و قد عصفت في نفسه الحمية.. حمية الجاهلية:

- عليَّ آثام العرب إن لم أثكل أباه؟

واخترق رمح وحشي طيفاً نبوياً. فاعتنق فرسه. فانطلقت وسط احراش السيوف و غابات الرماح.. و تخطفته القبائل المتوحشة.. وانبثقت كلمات «الاكبر» كنافورة حبّ ازليّة:

- عليك مني السلام أبا عبداللَّه، هذا جدي قد سقاني بكأسه شربة لا أظمأ بعدها، و هو يقول إنّ لك كأساً مذخورة.

و عندما وصل الأب المفجوع، كان الابن قد رحل بعيداً.. بعيداً جداً.. وفي عينيه تلوح قوافل مسافرة.

الجراح النبويّة تنزف. ملأ الحسين كفّه من ينابيع الحياة ثم رمي بها الي السماء... الرذاذ الأحمر يصّعّد الي الفضاء اللانهائي... يتحول الي نجوم تنبض أملًا، فتهتدي في وميضها قوافل قادمة من رحم الأيام.

علي الدنيا بعدك العفا.. ما أجرأهم علي الرحمن و علي انتهاك حرمة الرسول.


الراية ما تزال تخفق بعنف.. تعلن الثورة.. الرفض.. الإباء...

الدماء تنزف.. تروي الرمال.. تنفخ فيها روحاً، و تبثّها اسراراً لا يدركها احد من العالمين.

- هل رأيتم القمر يمشي علي الارض

تمتم التاريخ متعجباً، و هو يري القاسم بن الحسن.. فتيً لم يبلغ الحلم بعد. يمشي الهويني.. عليه قميص وإزار، وفي رجليه نعلان. في يمينه سيف.. يطوّح به يميناً و شمالاً.. يقاتل الذين غدروا.. انهم لا ايمان لهم. انقطع شسع نعله اليسري، فانحني يشدّه.. غير عابئ بالقبائل تدور حوله كدوّامة ما لها من قرار.

شدّ عليه رجل يلهث، فاستنكر آخر:

- ما تريد من هذا الغلام؟! يكفيك هؤلاء الذين احتوشوه.

- لأشدّن عليه.

وارتطم سيف جبّار، فانشقّ القمر:

- يا عماه!

وهبّ الحسين عاصفة مدّمرة.. إعصار فيه نار. وما اسرع ان هوي العلم علي قاتل ابن اخيه بسيف مشحون غضباً. وصرخ القاتل لهول الضربة. وارادت الخيل أن تدفع عنه الموت، فداسته بحوافرها..


وضاع بين سنابك الخيل. و ضاعت معه كل اطماعه و أوهامه.

وقف الحسين عند الفتي الشهيد:

- بعداً لقوم قتلوك. خصمهم يوم القيامة جدّك.. عزَّ- واللَّه- علي عمك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك ثم لا ينفعك.

الموت يتخطف القافلة... والمسافرون يعرجون الي السماء... ارواحاً شفافة خلعت أهابها الارضي و رحلت الي عالم مغمور بالنور.

لم يبق مع الحسين سوي حامل الراية: رجل يدعي أبوالفضل، أبوه أبوالحسن، وأمه امرأة ولدتْها الفحولة من العرب.

الراية تخفق في شماله، و في يمينه بتّار يقصف الأعمار.

ثمة عيون تتطلع من وراء خيام.. تنظر الي الراية.. تخفق كشراع سفينة تعصف بها الريح من كل مكان.

القلوب التي صدّعها الظمأ تنشد الماء، والفرات دونه غابات من الرماح، و أبوالفضل يكاد يتفجّر غضباً كلما سمع أنّة بنت أو صراخ صبي: العطش... العطش... و لا شي ء سوي السراب، سراب يحسبه الظمآن ماء.

تقدم صاحب الراية من اخيه الذي بقي وحيداً... الحسين ينظر الي آخر القرابين السماوية:


- يا أخي انت صاحب لوائي.

قال ابوالفضل و هو يكاد يتميز من الغيظ:

- قد ضاق صدري من هؤلاء المنافقين، وأريد ان آخذ ثاري.

- اذا كان ولابدّ، فاطلب لهؤلاء الاطفال ماء.

انطلق أبوالفضل الي القبائل.. الي قلوب قاسية اقسي من الحجارة.. و ان من الحجارة لما يتفجّر منها الانهار.

- يا عمر بن سعد! هذا الحسين ابن بنت رسول اللَّه.. قد قتلتم اصحابه و أهل بيته، و هؤلاء عياله و أولاده عطاشي فاسقوهم من الماء.. قد أحرق الظمأ قلوبهم. و هو مع ذلك يقول: دعوني اذهب الي الروم أو الهند و أخلي لكم الحجاز والعراق.

صاح الابرص بصورت يشبه رنّة الشيطان:

- يابن أبي تراب! لو كان وجه الارض كلّه ماء، و هو تحت ايدينا، لما سقيناكم منه قطرة.. إلّا ان تدخلوا في بيعة يزيد.

الاطفال يصيحون.. القلوب الظامئة تئنّ.. الشفاه الذابلة تهتف:

العطش.. العطش. والفرات يجري.. تتدافع امواجه.. كبطون الحيّات. اعتلي صاحب اللواء صهوة الجواد...

حمل القربة، و في أذنيه كلمات قالها أبوه علي شاطئ الفرات


بصفين: روّوا السيوف من الدماء ترووا من الماء.

انطلق أبوالفضل باتجاه الفرات وسط وابل من سهام ونبال.. رجال القبائل يفرّون بين يديه مذعورين.. كأنما يفرّون من الموت الزؤام..

الفارس يشقّ طريقه غير مبالٍ بالألوف التي أحدقت به.. يتوغّل في اعماق النخيل المحدق بالشاطئ كأهداب حوريّة.. أبوالفضل يقحم فرسه النهر، فيتطاير رذاذ الماء. اهتزّت سعفات نخلة لكأنما طربت لشجاعة و بأس ستذكر هما الايام.

المياه المتدافعة تجري تحت الأقدام، والفارس الظامئ يغترف من الماء غرفة.. فيتذكّر قلباً يكاد يتفطّر عطشاً، تمتم و هو يطوّح بقبضة الماء بعيداً



يا نفس من بعد الحسين هوني

و بعده لا كنت أو تكوني



ملأ القربة ماءً، ثم قفز فوق جواده، وانطلق نحو مضارب الخيام...

القبائل تقطع عليه طريق العودة، و قد غاظها منظر القربة تموج بمياه الفرات.

الفارس يسط الملاحم وينشد:




لا ارهب الموت إذا الموت زقا

حتي أواري في المصاليت لقي



نفسي لسبط المطفي الطهر وقا

إني أنا العباس اغدو بالسقا



و لا أخاف الشرّ يوم الملتقي

رجل من القبائل يتقن الغدر يختبئ وراء نخلة.. في يده سيف ورثه عن «ابن ملجم».



السيف الغادر يهوي- علي حين غفلة- فيطيح باليمين لتستقر عند جذع نخلة سمراء:



و اللَّه إن قطعتُم يميني

إني أحامي أبداً عن ديني



و عن إمام صادق اليقين

نجل النبي الطاهر اليمين



أبوالفضل يشقّ طريقه. اصبح هدفه ايصال الماء إلي قلوب تتصدّع عطشاً و تحلم بمواسم المطر.

سيف غادر آخر يهوي من وراء نخلة، فيطيح بالشمال. سقطت الراية و من قبلها سيف علوي.. و أبوالفضل يشقّ طريقه في وابل من السهام والنبال. و عندما اخترق القربة سهم وانزالت المياه، فقد


الفارس المقطوع اليدين حماسه في العودة الي المخيم، ودارت به القبائل كدوّامة مجنونة، و هوي رجل- و ما هو برجل- بعمود علي رأسه ففلق هامته. وانطلق صوت يبشر بالسلام القادم.

- عليك مني السلام أبا عبداللَّه.

وانطلقت من بين مضارب الخيام صيحات تنذر بهبوب العاصفة.. صاحت زينب ومعها نسود وبنات:

- واضيعتنا بعدك.

فتمتم الحسين و هو ينشج:

- واضيعتنا بعدك!