بازگشت

تجمعت في السماء النذر...


تجمعت في السماء النذر.. وإرهاصات حرب مدمّرة تتراكم، كأكوام من الغيوم المشحونة بآلاف الصواعق.. وليل الصحراء ملي ء بالاسرار.

خرج رجل من بين مضارب الخيام.. عيناه تتألّقان تألّق النجوم.. و خرج رجل يتبعه.. يخاف عليه الغدر.

- من الرجل؟!

- نافع بن هلال الجملي.

- ما الذي أخرجك في جوف الليل؟.

- أفزعني خروجك يا ابن النبي.. والظلام يخفي سيوفاً مسمومة وخناجر.

- خرجت اتفقّد التلاع والروابي، مخافة أن تكون مكمناً لهجوم الخيل يوم تحملون و يحملون.


شد الحسين علي يد صاحبه و قال:

- هذه هي الارض التي وُعدت بها. ونظر الي صاحبه بإشفاق وأردف:

- لا تسلُك بين هذين الجبلين و تنجو بنفسك؟.

كظامئ اكتشف ينابيع الماء، ألقي نافع نفسه علي ينبوع الخلد و حياة لا تفني:

- ثكلتْني أمي يا سيّدي.. و اللَّه الذي منّ بك عليّ! لا فارقْتُك أبدا.

ماذا رأي «نافع» تلك الليلة؟! ماذا اكتشف لكي يفرّ من الدنيا..

لكي يسافر مع الحسين.. لعلّه شاهد في عينيه جنة من أعناب و نخيل تجري من تحتها الأنهار...

وعاد الحسين الي مضارب القافلة، وفي عينيه تصميم وعزم...

الجيوش التي أحدقت بالفرات تسدّ الأفق.. تموج كالسيل.. كلاب مسعورة وذئاب تريد الفتك.. قبائل وحشية، أسكرتها نشوة السلب والنهب.. ما عساها تفعل القافلة في مهبّ إعصار فيه نار؟!. سبعون سنبلة خضراء تحدق بها أسراب الجراد..

نظر الحسين الي آلالف السيوف التي جاءت تتخطفّه، وقال بحزن:

- الناس عبيد الدنيا والدين لعق علي ألسنتهم يحوطونه مادرّت


معايشهم.

و تلفّت خلفه، فلم يجد الّا ثلّة من المؤمنين، سبعون أو يزيدون ومثلهم معهم من الضعفاء صبية ونساء و طريقان لا ثالث لهما: السلّة أو الذلّة.

- هيهات منّا الذلّة.. الموت أولي من ركوب العار.

- لسوف يقودون بنات محمدٍ سبايا!

- العار أولي من دخول النار.

الذئاب الجائعة تعوي.. تتحفّز للفتك، والقبائل تحلم بالغزو وليالي السلب المجنونة.

شمّت النسور من بعيد رائحة معركة وشيكة، فراحت تدور في السماء.. تترقب صيدها بفارغ الصبر.. بدت وكأنها مقبرة هائلة فاغرة الأفواه....

القبائل تشاورت حول الأسلاب.. تفاهمت.

وقف «الأبرص» علي الميسرة، وانفرد «ابن الحجاج» بالميمنة، فيما وقف بينهما رجل قارب السبعين يحلم ب«الري» و «الجرجان».

- ماذا أعددت لهؤلاء يا سيدي الحسين؟

- سيف محمّد.


- وماذا؟

- و رجالاً صدقوا ما عاهدوا اللَّه عليه.

- و ماذا؟

- و الأجيال.

و شوهد الحسين يجول بفرسه.. يرسم خطّة المواجهة.

- قاربوا بين الابنية.

تعانقت الخيام ببعضها.. تلحمت كالبنيان المرصوص.

و شوهد الحسين و أصحابه يحفرون الخنادق خلف الخيام و يملأونها حطباً.

- كيلا تقتحمه الخيل..

- و يكون القتال في جبهة واحدة.

الاطفال ينظرون- بحزن- جهة الفرات. شفاه يابسة تحلم بالندي.. وفتيات بلغتْ قلوبهن الحناجر يصغين- برعب- الي طبول قبائل تحلم بالغزو والسبي، ونسور مجنونة تحوم.. تنتظر لحظة الانقضاض. هي ذي لحظات الغروب تتراكم ملتهبة.. والفرات يتأجّج خلف ذري النخيل المتقدة.. الليل يوشك أن يهبط و الحمرة القانية تتحول الي رماد.. الظلام يجثم فوق الرمال كغراب في مساء


خريفي. الحزن يجوس خلال الخيام.. ينشر ظلّه الثقيل.. و آهات تتصاعد من كل مكان.. وأمنيات خضراء تحلم بالمطر و الخصب و الحياة.

دخل الحسين خيمة أخته زينب.. المرأة التي شهدتْ- من قبل- مصرع أبيها واغتيال أخيها.. فجاءت تحرس آخر أصحاب الكساء تريد أن تشاركه في كل شي ء.. تقتسم معه الموت والخلود.

نسيم هادئ حرّك طرف الخيمة.. ربّما مسح عليها مواسياً قبل هبوب العاصفة. قالت زينب:

- هل استعلمت من أصحابك نياتهم، فإني أخشي أن يسلموك عند الوثبة.

- و اللَّه لقد بلوتهم، فما وجدت فيهم الّا الأشوس.. يستأنسون بالمنية دوني استئناس الطفل الي محالب امّه.

و كان نافع يصغي الي هموم زينب.. الي مخاوف عقيلة بني هاشم.

اسرع نافع الي رجل ذرّف علي الستين بأعوام:

- هلم يا حبيب.. هلّم الي زينب.. انها تخشي الغدر.. و قد اجتمعت النسوة عندها يبكين.

بريق نفّاذ اتّقد في العينين الا سديتين.. توهجات الغضب المخزون اشتعلت كلّها في لحظة واحدة... هتف حبيب:


- يا أصحاب الحمية وليوث الكريهة!

انبعثت من بين الخيام سيوف و رجال. العزم المشتعل في العيون يكاد يضي ء التاريخ، و السواعد المفتولة توشك أن تلوي الاقدار.

وقف الرجال ازاء خيمة يعصف بها القلق والخوف.

هتف حبيب:

- يا معشر حرائر رسول اللَّه! هذه صوارم فتيانكم، آلوا ألّا يغمدوها الّا في رقاب من يريد السوء فيكم، وهذه أسنّة غلمانكم أقسموا ألّا يركزوها الّا في صدور من يفرق ناديكم...

و من قلب الخيمة الحزينة، ينبعث صوت استغاثة.. استغاثة ما تزال حتي اليوم تستفهم التاريخ والانسانية. صوت امرأة خائفة تنشد حقّها في السلام.

- ايّها الطيّبون حاموا عن بنات رسول اللَّه.

لو كانت الغيوم حاضرة لتفجّرت مطراً ساخناً كدموع الأطفال.

و بكي الرجال.. بكت العيون المتأجّجة وهي تتطلّع إلي مذبحة مروّعة ستحدث بعد ساعات.

و في سحر تلك الليلة، رأي الحسين- في عالم الاطياف- كلاباً تنهشه.. تتخطف جسده، وأشدّها كان الأبقع..