بازگشت

القافلة تطوي الصحراء في طريقها الي أم القري...


القافلة تطوي الصحراء في طريقها الي أم القري.. قافلة عجيبة. لم تكن قافلة تجارية، و لم تبدُ- كذلك- قافلة للحجاج.. ففيها اطفال كثيرون.. اطفال يشبهون ورود الربيع.. قافلة يتقدمها رجل في عينيه بريق الشمس وفي جبينه يتلألأ القمر، وفي حنايا صدره تنطوي الصحاري، الي جانبه وجه يشبه البدر.. شاب في الثلاثين من عمره أو يزيد.. يدعي «أبوالفضل» أو قمر بني هاشم.. دائم النظر الي اخيه يتأمله بخشوع.. يخاطبه: يا سيّدي.

و يظهر خلفه فتي عجيب يشبه النبي خلْقاً وخُلُقاً و منطقاً.. انه علي.. علي الاكبر. وفي القافلة هوادج كثيرة.. كثيرة جداً.. واطفال....

القافلة تسير، والتاريخ يحبس انفاسه، وكلمات تتردد بخشوع، فتمتزج مع تمتمات النوق.


- و لّما توجّه تلقاء مدين قال عسي ربي أن يهديني سواء السبيل.

- الطريق محفوفة بالاخطار، فلو تنكبت الطريق.

قدر عجيب يسيّر القافلة.. قافلة صغيرة تحاول تصحيح المسار الانساني.

الكلمات التي قالها الحسين ما زالت تدوّي في الآذان. الاهداف العظيمة.. الروح السامية في جلال الملكوت. كلماته تذهب مع نسائم الصحراء بذوراً تنبت في اعماق الارض.. هل يكون الموت هدفاً.. كيف تخرج الحياة من رحم الموت؟. واذا كان الموت هو النهاية لكل كائن، فلم لا نختار الطريقة التي سنموت بها؟ هل يكون الموت جميلاً احيانا، لكي يقول الحسين: خُطّ الموت علي ولد آدم مَخَطّ القلادة علي جيد الفتاة، و ما أولهني الي اسلافي اشتياق يعقوب الي يوسف.

- ولكن اذا كان هدفك الموت، فلم تأخذ معك الاطفال و النساء؟ و اذا كانت الآفاق مظلمة، لماذا تصطحب كل هذا الحَشْد من الضعفاء؟...

- شاء اللَّه ان يراهن سبايا.. شاء اللَّه ان يراني قتيلاً.. سوف اموت عطشاً.. سأسقط قرب نهر يموج بالمياه كأنه بطوت الحيّات.

- ماذا يريد الحسين؟.


- يريد.ن يموت ظامئاً.

- لماذا؟!.

- انها مشيئة اللَّه!

- مشيئة الامّة..

القافلة تقترب من مكّة.. ام القري واد غير ذي زرع.. أول بيت

وضع للناس.. مبهط جبريل فوق جبل النور.. غار حراء، حيث التقت السماء بالارض.. طفولة محمّد.. شبابه.. آخر النبوات في التاريخ...

المساء ينشر ظلاله الخفيفة.. وانوار واهنة تحاول أن تلألأ كالنجوم.. اضواء مدينة حائرة هزّتها انباء قادمة من دمشق. لقد هلك هرقل و جلس مكانه هرقل آخر.

شعبان يطوي ثلاثة من ايامه.. القافلة تدخل مكّة، و تلقي عصا الترحال عند البيت العتيق. الحسين يحنّ الي زيارة قبر جدّته خديجة الكبري.. يذكر تضحياتها من اجل محمّد.. و هو يريد أن يواصل ذات الدرب.. يريد اعادة نهج النبي العظيم.

- ماذا تريد يا سيدي الحسين.. ألا تبقي هنا في حرم اللَّه؟.


- انهم لن يدعوني اعيش بسلام.. انهم يريدون الفتك بي، حتي لو تعلقت بأستار الكعبة.. انهم يطلبون مني شيئاً عظيماً.. هل رأيت النخيل ينحني أو الجبال؟ هيهات.. هيهات.

- و لِمَ العراق؟.. أليس هناك مكان آخر؟ العراق الذي قتل اباك واغتال اخاك، وسلّم المنبر لمعاوية!..

- و لِم الذهاب الآن.. ألا تمكث قليلاً.

- إن لم اذهب اليوم ذهبتُ غداً، وان لم أذهب غداً ذهبت بعد غد، وما من الموت واللَّه بُدّ.. و إني لأعرف اليوم الذي اُقتل فيه.

تنبعث من الارض اسئلة.. تتفجر علامات استفهام سرعان ما تتلاشي أمام كلمات سماوية كأنها تأتي من وراء استار الغيب.

ينظرون فلا يرون سوي بيارق امويّة.. سيوفاً تقطر غدراً وخناجر مسمومة... اما هو فيري ينابيع تتدفق.. انهاراً وسواقي.. انه يري ماوراء الآفاق.. يري المستقبل القادم من رحم الايام.

عجيب أمر هذا الرجل.. يحاول أن يلوي القدر.. أن يقهر كل شياطين الارض.. أن يهزم نظاماً مدجّجا بالسلاح.. كيف؟!

بقافلة صغيرة.. سبعين أو يزيدون.. اطفال و نساء.. وتصغي الصحاري لكلمات متمرّدة ثائرة.. كلمات تختصر النبوّات.. تبدأ


ببسم اللَّه.. مجراها و مرساها...

- هذا ما أوصي به الحسين بن علي الي اخيه محمد بن الحنفية.

ان الحسين يشهد أن لا اله الا اللَّه وحده لا شريك له، وان محمداً عبده و رسوله.. جاء بالحق من عنده.

وان الجنة حق، والنار حق، والساعة آتية لا ريب فيها. و ان اللَّه يبعث من في القبور.

و اني لم اخرج اشراً و لا بطراً و لا مفسداً و لا ظالماً، وانما خرجت لطلب الاصلاح في أمّة جدي.

أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر، و أسير بسيرة جدّي، و أبي علي بن أبي طالب.

فمن قبلني بقبول الحق، فاللَّه أولي بالحق، و من ردّ عليّ هذا اصبر حتي يقضي اللَّه بيني و بين القوم بالحق، و هو خير الحاكمين...

انطلقت الثورة و صدر بيانها الأول. أسلحتها الصبر و المقاومة والموت.

الموت صلاح.. بل حياة.. حياة.. كيف؟

- اجل.. إن من يموت كريماً سيحيا.. سيحيا إلي الابد.. هكذا علّمني أبي قال علي شاطئ الفرات بصفين:

الموت في حياتكم مقهورين، و الحياة في موتكم قاهرين.