بازگشت

خطبة الامام بمني


أمّا بعدُ، فإنَّ هذا الطّاغية قد فَعَلَ بنا وبشيعتِنا ما قد رأيتُم وعلِمتُم وشهِدتُم.


وإنّي أُريد أن أسألَكُم عن شيء، فإنْ صدقتُ فصدِّقوني، وإن كذبتُ فكذِّبوني.

اسمعوا مقالتي واكتبوا قولي، ثمّ ارجعوا إلي أمصارِكُم وقبائِلِكُم، فَمَن أمِنْتُم من النّاسِ وَوَثِقْتُم بهِ فاِدعوهم إلي ما تعلمونَ من حقِّنا.

فإنّي أتخوَّفُ أن يُدرسَ هذا الأمرُ، ويذهبَ الحقُّ ويُغلَب (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ).

أنشدكم الله: أتعلمون أنّ عليّ بن أبي طالب كان أخا رسول الله ـ صلّي الله عليه وآله وسلّم ـ حين آخي بين أصحابِهِ فآخي بينه وبين نفسه، وقال: أنت أخي وأنا أخوك في الدّنيا والآخر؟

قالوا: اللّهمّ نعم،

قال: أنشدكم الله: هل تعلمون أنّ رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم اشتري موضعَ مسجدِهِ ومنازِلِهِ فَاْبتناهُ ثُمّ اْبتني فيه عشرةَ منازل، تسعة له، وجعل عاشرها في وسطِها لأبي، ثمّ سَدَّ كُلَّ باب إلي المسجد غيرَ بابِه، فتكلَّمَ في ذلك من تكلَّمَ، فقال: ما أنَا سددتُ أبوابَكُمْ وفتحتُ بابَهُ ولكنّ الله أمرني بسدِّ أبوابِكُم وفتحِ بابِه، ثمّ نهي النّاس أن يناموا في المسجد غيره، وكان يُجنب في المسجد ومنزله في منزل رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم فوُلِدَ لرسولِ الله صلّي الله عليه وآله وسلّم وله فيه أولادٌ

قالوا: الّلهمّ نعم.

قال: أفتعلمون أنّ عمر بن الخطّاب حَرِصَ علي كُوَّة قَدْرَ عينهِ يَدَعُها في منزلهِ إلي المسجد فأبي عليه، ثُمّ خطب فقال: إنّ الله أمرني أن أبني مسجداً «طاهراً» لا يسكُنُهُ غيري وغير أخي وبنيه؟

قالوا: الّلهمّ نعم.

قال: أَنْشُدُكم الله: أتعلمون أنّ رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم نصبه


يوم غدير خمّ فنادي له بالولايةِ وقال: ليبلّغ الشّاهدُ الغائب؟

قالوا: الّلهمّ نعم.

قال: أَنْشُدُكم الله: أتعلمون أنّ رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم قال له في غزوة تبوك: «أنت منّي بمنزلةِ هارونَ مِنْ مُوسي، وأنت وليُّ كُلِّ مُؤمن بعدي»؟

قالوا: اللّهمّ نعم.

قال: أَنْشُدُكم الله: أتعلمون أنّ رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم حين دعا النّصاري من أهل نجرانَ إلي المباهلةِ لم يأتِ إلاّ بهِ وبصاحبَتِهِ وابنيهِ؟

قالوا: الّلهمّ نعم.

قال: أَنْشُدُكم الله: أتعلمون أنَّهُ دفع إليه اللّواء يومَ خيبر ثمّ قال: لأدفعه إلي رجل يحبُّهُ الله ورسولُهُ ويُحِبُّ الله ورسولَهُ كرّارٌ غير فرّار، يفتحُها الله علي يديه؟

قالوا: الّلهمّ نعم.

قال: أتعلمون أنّ رسول الله بعثه ببراءَة وقال: لا يبلّغ عنّي إلاّ أنا أو رجلٌ منّْي؟

قالوا: الّلهمّ نعم.

قال: أتعلمون أنّ رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم لم تنزل به شدّةٌ قطُّ إلاّ قدّمَهُ لها ثقةً بهِ وأنّه لم يدْعُهُ باْسمِهِ قطُّ إلاّ يقول: يا أخي، واْدعُوا لي أخي؟

قالوا: الّلهمّ نعم.

قال: أتعلمونَ أنّ رسولَ الله صلّي الله عليه وآله وسلّم قضي بينَهُ وبينَ جعفر وزيد فقال: يا عليُّ أنتَ منّي وأنا منك، وأنت وليُّ كُلِّ مُؤمن بعدي؟

قالوا: الّلهمّ نعم.

قال: أتعلمون أنَّهُ كانت مِنْ رَسُولِ الله صلّي الله عليه وآله وسلّم كلَّ يوم خلوةٌ وكُلَّ ليلة دخْلَةٌ، إذا سألَهُ أعطاهُ وإذا سكت ابتدأه؟


قالوا: الّلهمّ نعم.

قال: أتعلمونَ أنَّ رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم فضّله علي جعفر وحمزة حين قال: لفاطمة عليها السلام: زوّجْتُكِ خيرَ أهلِ بيتي، أقدمَهُمْ سِلْماً، وأعظَمَهُمْ حِلْماً، وأكثَرَهُم عِلْماً؟

قالوا: الّلهمّ نعم.

قال: أتعلمون أنّ رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم قال: أنا سيّدُ وُلْدِ بني آدَمَ، وأخي عليّ سيّدُ العرَبِ، وفاطمةُ سيّدةُ نساءِ أهلِ الجنّةِ، والحسنُ والحسينُ ابناي سيّدا شبابِ أهلِ الجنةِ؟

قالوا: الّلهمّ نعم.

قال: أتعلمونَ أنّ رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم أمره بغسلِهِ وأخبَرهُ أنّ جبرئيلَ يُعينُهُ عَلَيْهِ؟

قالوا: الّلهمّ نعم.

قال: أتعلمونَ أنّ رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم قال في آخر خطبة خَطَبَها: إنّي تركتُ فيكُمُ الثَقَلَيْن كتابَ الله وأهلَ بيتي، فتمسَّكُوا بِهما لن تَضِلُّوا؟

قالوا: الّلهمّ نعم.

ثمّ ناشَدَهُم أنّهم قد سمعوه يقول: «مَن زَعَم أنَّهُ يُحبُّني ويُبغِضُ عليّاً فقد كَذِبَ، ليسَ يُحبّني ويُبغضُ علّياً»، فقال له قائل: يا رسول الله وكيف ذلك؟ قال: لأنّه منّي وأنا منهُ، من أحبَّهُ فقد أحبَّني، ومَن أحبَّني فقد أحبَّ الله، ومَن أبغضَهُ فقد أبغضَني، ومن أبغضني فقد أبغض الله؟

قالوا: الّلهمّ نعم، قد سمعنا...

اعتبروا أيُّها النَّاسُ بما وَعظَ الله به أولياءَهُ من سُوءِ ثَنائِهِ علي الأحبار إذْ يقول: (لَوْلا ينهاهُمُ الرَّبَّانيّوُنَ وَالأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهُم الإثْمَ) وقال: (لُعِنَ الّذينَ كَفَرُوا مِنْ بَني إسْرَائيلَ ـ إلي قوله ـ لبئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُون).


وإنَّما عابَ الله ذلك عليهم، لأنّهم كانوا يَرَوْنَ من الظَّلَمَةِ الّذين بين أظْهُرِهِم المُنكرَ والفَساد فلا ينهونهم عن ذلك رَغبةً فيما كانوا ينالونَ منهم، ورهبةً ممّا يحذرون، والله يقول: (فلا تَخْشواْ النَّاسَ وَاْخشَوْن) وقال: (المُؤْمِنُونَ واْلمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أولياءُ بَعْض يأمرونَ بِاْلمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ اْلمُنْكَرِ).

فبدأ الله بالأمر بالمعروفِ والنّهي عن المنكر فريضةً منه لعلمِه بأنَّها إذا أُدِّيَتْ وأُقيمت استقامتِ الفرائضُ كلُّها هَيِّنُها وصَعْبُها، وذلك أنّ الأمرَ بالمعروفِ والنّهيَ عَن المُنْكر دعاءٌ إلي الإسلام مع ردِّ المَظَالِم ومخالفةِ الظّالمِ وقسمةِ الفَيء والغنائمِ وأخذِ الصَّدَقاتِ من مواضِعِها ووضعِها في حقّها.

ثمّ أنتم أيّتُها العصابةُ عصابةٌ باْلعِلْمِ مشهورةٌ وبالخيرِ مذكورةٌ وبالنصيحة معروفة وبالله في أنفُسِ النّاسِ مهابةٌ، يهابُكُمُ الشّريفُ وَيُكْرِمُكُمُ الضعيفُ وَيُؤْثُِركُم مَنْ لا فضلَ لكم عليه، ولا يدَ لكم عنده، تشفعون في الحوائج إذا امتنعت مِنْ طُلابِها، وتمشُونَ في الطّريقِ بهيبة الملوك وكرامة الأكابرِ.

أليس كُلّ ذلك إنّما نِلتُموهُ بما يُرجي عندكُم من القيامِ بحقِّ الله وإن كنتم عن أكثر حقّهِ تقصُرُونَ فاسْتَخْفَفْتُمْ بحقّ الأئمّة، فأمّا حقّ الضُّعَفاءِ فَضَيَّعْتُمْ، وأمّا حقّكم بزعْمِكُمْ فَطَلَبْتُم، فَلا مالاً بذلتموه، ولا نفساً خاطَرْتُم بِها للّذي خلَقَها، ولا عشيرةً عاديتموها في ذاتِ الله.

أنتُم تتمنّونَ علي الله جَنَّتَهُ ومجاورةَ رُسُلِهِ وأماناً من عذابهِ!

لقد خشيتُ عليكم ـ أيُّها المُتَمَنّونَ علي الله ـ أن تَحِلَّ بكُم نقمةٌ مِن نقماتِهِ لأنّكم بلغتم من كرامة الله منزلة فُضّلتمْ بها، ومن يُعرَفُ بالله لا تُكْرِمُونَ، وأنتُم بالله في عباده تُكْرَمُونَ.

وقد تَرَوْنَ عهودَ الله منقوضَةً فلا تَفزَعُون، وأنتُم لبعضِ ذِمَمِ آبائِكُمْ تَفْزَعُون! وَذِمّةُ رسولِ الله مخفورةٌ، والعُميُ والبُكُم والزّمني في المدائنِ مهملة! لا تَرحَمُونَ ولا في مَنزِلَتِكُم تعملون، ولا مَنْ عَمِلَ فيها تُعينون. وبالادّهانِ


والمُصَانَعَةِ عند الظَلَمَةِ تأمنون.

كُلّ ذلك ممّا أمركم الله بهِ من النّهي والتّناهي وأنتم عنه غافلونَ.

وأنتُم أعظم النّاس مصيبة لما غلبتم عليه من منازلِ العلماء لو كنتُم تشعرون، ذلك بأنّ مجاريَ الأُمورِ والأحكامِ عَلَي أيدي العُلَماء بالله الاُمناءِ عَلَي حَلاَلِهِ وَحَرَامِهِ، فأنتُم المَسْلُوبونَ تلك المنزلةِ وَما سُلِبْتُم ذلك إلاّ بتفرُّقِكُم عن الحقِّ واْختلافِكُم في السُنّة بعد البيّنة الواضحة، وَلَوْ صَبَرْتُم علَي الأذَي وتحمّلْتُم المؤونة في ذاتِ الله كانت أُمور الله عليكُم تَرِدُ وعنكم تصْدُرُ وَإِلَيْكُمْ تَرْجعُ، ولكنَّكُم مكّنتُم الظَّلَمَة مِنْ منزِلَتِكُمْ، وأسلمتم أُمور الله في أيديهم، يَعملون بالشُّبُهاتِ، ويَسيرونَ في الشَّهَواتِ، سلّطهم علي ذلك فرارُكُم مِنَ الموتِ وإعجابُكُم بالحياة التّي هي مفارقتُكُم، فأسلمتم الضُّعفاءَ في أيديهم فمن بين مُستعبَد مقهور، وبين مستضعَف علي معيشتِهِ مغلوب، يتقلّبون في المُلكِ بآرائِهم، ويستشعِرونَ الخِزْيَ بأهوائهم، اقتدءاً بالأشرار وجرأةً علي الجّبارِ، في كُلّ بَلَد منهم علي مِنْبَرِهِ خطيبٌ مُصْقعٌ.

فالأرضُ لهم شاغرةٌ، وأيديهم فيها مبسوطة، والنّاسُ لهم خَوَل، لا يدفعون يد لامس، فمن بين جبّار عنيد، وذي سطوة علي الضعفةِ شديد، مُطَاع لا يَعْرِفُ المُبْدِئ المعيدَ.

فيا عجباً! وما لي لا أعجبُ والأرض من غاشٍّ غَشُوم، ومتصدِّق ظلوم، وعامِل علي المُؤمنينَ بهم غيرُ رحيم، فالله الحاكمُ فيما فيه تنازعنا، والقاضي بحكمه فيما شجر بيننا.

الّلهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تَنافُساً في سُلْطان، ولا اْلتِماساً من فضول الحطامِ، ولكن لنُرِيَ المعالِمَ من دينك، ونُظْهِرَ الإصلاحَ في بلادِك، ويأمنَ المظلُومونَ مِنْ عبادِك، ويُعْمَلَ بفرائِضِكَ وسُنَنِك وأحكامِك.

فإنَّكُم إن لا تَنْصُرونا وتنصفونا قويت الظّلمة عليكم، وعَمِلَوا في إطفاءِ


نُورِ نَبيِّكُم.

وحسبُنا الله وعليه توكّلنا وإليه أنَبْنَا وإليه المصيرُ.

إنّ هذا الموقف يعتبر، أقوي معارضة علنية أقدم عليها الحسين عليه السلام في مواجهة معاوية وإجراءاته الخطرة التي دأب ـ طول حكمه ـ بعد استيلائه علي أريكة الحكم في سنة (40) للهجرة علي العمل بكلّ دهاء وتدبير، لتأسيس دولته المنحرفة عن سنن الهدي والصلاح والتقي، فحاول في الردّة عن الإسلام إلي إحياء الجاهلية الأُولي بما فيها من الظلم والعصبية والتجسيم لله، والقول بالجبر والإرجاء وما إلي ذلك من الأفكار التي تؤدّي إلي تحميق الناس وإخماد جذوة الحركة الثورية الإسلامية، والتوحيدية الإصلاحية.

فكانت حركة الحسين عليه السلام، وبهذا الأُسلوب المحكم الرصين، وفي الزمان والمكان المنتخبين بدقّة، أوّل معارضة معلنة ضّد كلّ الإجراءات تلك.

وإن كان الإمام الحسين عليه السلام لم يكفّ مدّة إمامته عن مواجهة معاوية بشكل خاصّ في القضايا الجزئيّة، وفي اللقاءات الخاصّة، لكنّ هذا الإجراء العظيم اعتبره رجال الدولة ثورة مُعْلنة، وتحرّكاً سياسياً خَطِراً علي الدولة، ومؤدّياً إلي تبخير كلّ الجهود والآمال والطموحات التي عملوا من أجلها طوال عشرين سنة من حكمهم الفاسد.