بازگشت

مع الشعر والشعراء


الشعر يجري في وجدان الشعوب مجري الدم، ومعه يجري ما يحتويه الشعر من معنيً ومضمون، وللشعراء في المجتمعات ـ وخاصة المجتمع العربي ـ وجود مؤثّر لا يمكن إنكاره.

واختلف الشعراء في أغراضهم وأهدافهم، باختلاف طبائعهم، وأُصولهم، وانتماءاتهم القبلية والطائفية، وأهدافهم وأطماعهم الدينيّة والدنيوية، وما إلي ذلك من وجهات نظر، وغايات، وآمال.

والمال الذي يسيل له لعابُ كثير من الناس، يُغري من الشعراء مَنْ امتهنوا


الشعر، وحمّلوه مؤونة حياتهم المادّية، قبل أن يكون بنفسه غرضاً، يحدوهم إلي نيل مكانة اجتماعية في الأدب واللغة، أو خلود الذكر في الحضارة البشرية، أو علوّ الكعب والشرف بين الأقران والأهل والعشيرة، أو الخُلْد والثواب والأجر في الآخرة.

أمّا المال عند أهل الشرف والكرامة والإنسانية والعزّة النفسية، من أصحاب الأهداف السامية الكُبري، فهو وسيلةٌ وليس هدفاً.

وكما أنّ الله تعالي ذكره استخدمَ المالَ لأغْراض العُبور علي الجسور، والوصول بها إلي الأهداف الربّانيّة، فجعل للمؤلَّفة قلوبهم حقّاً في أموال الله!

فكذلك الحسين عليه السلام، اتّباعاً للقرآن، وتطبيقاً له فإنّه كان يستخدم المالَ لهدف معنويّ إلهيّ سام. فكان يُعطي شعراء عصره، ولمّا عوتبَ، قال:

[199]: إنّ خيرَ المال ما وقَي العِرْضَ [1] .

و «العِرضُ» هُنا ليس هو «النامُوس» إذْ ليس بين المسلمين من يَخالُ أن يَنالَ من عِرض أهْل بَيْت الرسالة!

بل المراد به «العِرْض السياسيّ» الذي اسْتَهدفه من «آل محمّد» الأُمويّون، فكانوا يكيلون سَيْل التهم والافتراء ضدّ عليّ وآل محمّد، علي حساب المدائح لمخالفيهم من آل عثمان ومروان وطواغيت آل أبي سفيان.

فكانت مبادرةُ الإمام الحسين عليه السلام قطعاً لأعذار المتسوّلين بشعرهم والمستغلّين لهذا المنبر الشعبيّ الفاعل، في سبيل جمع الحُطام الزائل، وعلي حساب تحكيم سلطة الظلمة الجائرين.

فكان عطاء الحسين عليه السلام يحدّ من اتجّاه الشعراء إلي أبواب الحكّام، ويقلّل من فرص استغلالهم من قبل الجائرين، كما يُوصِد أمام السفلة أبواب


التعرّض للشرفاء من معارضي السلطة وأنصارِها الطُغاة البغاة [2] .

ويُمكن أنْ تُفسَّر ظاهرة رواية الشعر المنسوب إلي الأئمّة عليهم السلام، علي اساس من هذا المنطلَق، فبالرغم من أنّ قول الشعر لا يليقُ بأُولئك العلماء، القادة، السادة، الّذين كانت لهم اهتمامات كبري، ومع أنّ الشعر المنسوب أكثرهُ ضعيف اللفظ والوزن، ولا وقع له في مجال اللغة والأدب فضلاً عن أن يُقاس بكلماتهم النثريّة التي هي في قمّة البلاغة والفصاحة.

إلاّ أنّ من الممكن أن تصدُرَ ـ لو صحّت النسبة ـ من أجْل مل الفراغ في دنيا الشعر، والذي انهمك فيه الشعراء بأغراض أُخري، وقلّت فيها النخوة الدينية عندهم، فلا يبعد أن يكون للأئمّة عليهم السلام شعرٌ يسدّ بعض هذا الفراغ، ويجذب قلوب الناس إلي المعاني والأغراض الصالحة التي تحتويه.

أو يكون بعضُ الموالين قد حاول ذلك، فأخذ من الأئمّة المعاني ونظمها بشكل سهل، ليتهيّأ لكلّ الناس حفظه وتداوله، فنسب إلي الأئمة باعتبار معانيه.

ومن الشعر المنسوب إلي الإمام:

ومهما يكن، فإنّ ابن عساكر قد روي من الشعر المنسوب إلي الإمام الحسين عليه السلام، الشيّ الكثير، نختار منه ما يلي:

[205] خرجَ سائل يتخطّي أزقّة المدينة، حتّي أتي باب الحسين بن عليّ، فقرع الباب، وأنشأ يقول:



لم يَخَبِ اليَوم مَنْ رجاكَ ومَنْ حرّك من خلف بابك الحَلَقَهْ

فأنْتَ ذو الجودِ أنْتَ معدِنُه [3] أبوكَ قد كان قاتلَ الفَسَقَهْ



وكان الحسينُ بن علي واقفاً يُصلّي، فَخَفَّفَ من صلاته، وخرجَ إلي الأعرابيّ، فرأي عليه أثر ضُرّ وفاقة، فرجع ونادي بقَنْبر فأجابه:


«لبّيك، يابنَ رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم»

قال: ما تبقّي معكَ من نفقتنا؟

قال: مائتا درهم، أمرتني بتفريقها في أهل بيتك.

قال: فهاتها، فقد أتي مَنْ هو أحقُّ بها منهم.

فأخذها، وخرج، فدفعها إلي الأعرابيّ، وأنشأ يقول:



خُذْهــا فإنّي إليـك معتـذِرٌ واعلم بأنّي عليك ذو شَفَقَهْ

لو كان في سيرنا الغداة عصاً [4] كانَتْ سمانا عليك مُنْدَفقهْ



لكنّ ريبَ الزمان ذو نَكَد والكفُّ منّا قليلة النَفَقهْ

فأخذها الأعرابي وولّي وهو يقول:



مُطَهـرونَ نقيّــاتٌ ثيــابُهم تجري الصلاةُ عليهم أينما ذُكروا

فأنتمُ أنتمُ الأعلونَ عندكمُ علم الكتاب وما جاءت به السورُ



من لم يكنْ علويّاً حين تنسبُه فماله في جميع الناس مُفتخرُ [5] .

[208] وأنشدوا، له عليه السلام:



أغْنِ عن المخلوق بالخالقِ تغن عن الكاذب والصادقِ

واسترزق الرحمنَ من فضله فليس غير الله من رازقِ



مَنْ ظنَّ أنّ الناس يُغنونَه فليس بالرحمن بالواثقِ

أو ظنَّ أنَّ المال من كسبهِ زلّتْ به النعلان من حالقِ [6] .



[209] وروي الأعمش، له عليه السلام:




كلّما زِيْدَ صاحبُ المال مالا زِيْدَ في هَمّه وفي الاشتَغالِ

قد عرفناكِ يا منغصّة العيـ... شِ ويادارَ كلّ فان وبالِ



ليس يصفو لزاهد طلب الزهـ... دِ إذا كانَ مثقلاً بالعيالِ

[210] وروي أنّ الحسين عليه السلام أتي المقابر بالبقيع فطاف بها، وقال:



ناديتُ سُكّان القبور فأُسْكتوا وأجابني عن صمتهم ندب الجثي

قالت أتدري ما صنعتُ بساكني مزّقتُ ألْحُمَهم وخرّقتُ الكِسا



وحشوْتُ أعينهم تراباً بعدما كانتْ تؤذي بالقليل من القذي

أمّا العظــام فإننّي فرّقتهــا حتّي تباينتِ المفاصل والشوي



قطّعتُ ذا من ذا ومن ها ذاك ذا فتركتُها رمماً يطول بها البِلي [7] .

[211] وأنشدوا له عليه السلام:



لئــن كانت الدُنيــا تُعدُّ نفيسـةً فدارُ ثوابِ الله أعلي وأنْبلُ

وإن كانت الأبدان للموت أُنشِئتْ فقتل سبيل الله بالسيف أفضلُ



وإن كانتِ الأرزاق شيئاً مقدَّراً فقلّة سعي المرء في الكسب أجملُ

وإن كانتِ الأموال للترك جُمِعَتْ فما بالُ متروك به المرءُ يبخلُ [8] .





پاورقي

[1] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:129).

[2] انظر موقف الحسين عليه السلام من الفرزدق الشاعر هامش (ص207) من تاريخ دمشق، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام.

[3] في مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور: وأنت جود وأنت معدنه.

[4] في مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور: لو کان في سيرنا عصاً تمدّ إذن!.

[5] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:1 ـ 132).

[6] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:132).

[7] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:132) باختلاف يسير.

[8] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:133).