بازگشت

موقف من عمر


ومن تلك الفلتات، حديثٌ تضمّن موقفاً للحسين من عمر: لمّا جَلَسَ علي منبر الخلافة والحسينُ دون العاشرة من عمره. وبفرض وجوده في بيت أبيه الإمام عليّ عليه السلام، وقد امتلأ بكلّ ما يراهُ وليدُ البيت، أو يسمعهُ من حديث وأحداث، مهما كان خفيّاً أو كانت صغيرة، ولا يُفارق ذهنه، بل قد يقرأ الصبيُّ ممّا حوله أكثر ممّا يقرأه الكبير من الكلمات المرتسمة علي الوجوه، ويسمعُ من النبرات أوضح المداليل التي لا تعبّر عنها أفصح الكلمات.

كيف، والحسينُ هو الذي أهّله جدّهُ الرسول صلّي الله عليه وآله وسلّم لقبول «البيعة» منه، وأهّلته أُمّه الزهراء للشهادة علي أنّ «فدكاً» نحلتها من أبيها، عندما طلب أبو بكر منها الشهود!

ويكفي الحسينَ أنْ يعرفَ من خُطبة أُمّه الزهراء في مسجد رسول الله، ومن انزواء أبيه في البيت، طيلة أيّام الزهراء، أنّ حقّاً عظيماً قد غُصب منهم.

مضافاً إلي أنّه يجدُ بيتهم الملتصقَ ببيت الرسول، ولا يفصله عنه سوي الحائط، أمّا بابه فقد فتحهُ الله علي المسجد ذاته، لمّا أحلّ لأهله من المسجد مالم يحلّ لأحد، بعد أن كان «بيت فاطمة في جوف المسجد» [182][158].

إنّ الحسينَ يجد هذا البيتَ العظيم: كئيباً، مهجوراً، خِلْواً من الزحام، ومن بعض الاحترام الذي كان يَفيض به، أيام جده الرسول قطب رحي الإسلام، وأبوه عليّ يدور في فلكه.

ويجدُ الحسينُ أنّ القومَ يأتمرونَ في مَراح ناء، حيث الوجوه الجدُد، قد احتلّوا كلّ شيّ: الأمر، والنهي، والمحراب، والمنبر!

وقد أبرزَ ما تكدّس علي قلبه، لمّا حضر يوماً إلي المسجد، ورأي عمر علي منبر الإسلام، فلنسمع الموقف من حديثه:


[178 ـ 180] قال عليه السلام: أتيتُ علي عمر بن الخطّاب، وهو علي المنبر، فصعدتُ إليه، فقلتُ له: انزلْ عن منبر أبي، واذهبْ إلي منبر أبيك!

فقال عمر: لم يكنْ لأبي منبر.

وأخذني، وأجلسني معه، فجعلتُ أُقلّب حصيً بيدي، فلمّا نزل انطلق بي إلي منزله، فقال لي: مَنْ علّمك؟

قلتُ: ما علّمنيه أحدٌ.

(قال: منبر أبيك والله، منبر أبيك والله، وهل أنبت علي رؤوسنا الشعر إلاّ أنتم) [1] .

قال: يا بُنيَّ، لو جعلت تأتينا، وتغشانا [2] .

والحديث إلي هُنا فيه أكثر من مدلول:

فصعودُ الحسين إلي عمر ـ وهو خليفة ـ علي المنبر، مُلْفتٌ للأنظار، ومُذكِّر بعهد الرسول صلّي الله عليه وآله وسلّم حين كان سبطاه الحسنان يتسلّقان هذه الأعواد، ويزيد الرسول في رفعهما علي عاتقه، أو في حجره!

أمّا بالنسبة إلي الخليفة فلعلّها المرّة الأُولي والأخيرة في ذلك التاريخ، أن يصعد طفل إليه، فضلاً عن أن يقول له تلك المقالة، إذ لم يسجّل التاريخ مثيلاً لكل ذلك.

وقوله لعمر: «انزل عن منبر أبي»

فليس النزول، يعني ـ في المنظار السياسيّ ـ مدلوله اللغوي الظاهر، وإنّما هو الانسحاب عن الخلافة التي تَشَطّر هو وصاحبه ضرعيها، في السقيفة، فقدّمها إليه هناك، حتّي يرخّصها له اليوم.

و «منبر أبي» فيها الدلالة الواضحة، إذا أُريد بها الحقيقة الظاهرة، فأبوه عليّ


عليه السلام هو صاحب المنبر، لاعتقاد الحسين بخلافة أبيه بلا ريب.

وإن أُريد بها الحقيقة الأُخري ـ الماضية ـ فأبوه هو النبيّ صلّي الله عليه وآله وسلّم، فلماذا انتقل المنبرُ الذي أسّسهُ وبني بُنيانَه، إلي غير أهله؟!!

وقوله: «اذهَبْ إلي منبر أبيك» فيه الدلالة الفاضحة، فالحسينُ وكلّ الحاضرين يعلمون أنّ «الخطّاب» أبا عمر، لم يكن له منبر، بل ولا خَشَبةٌ يصعدُ عليها!

أمّا عمر فقد أحْرجه الموقفُ واضطرّه ـ وهو علي المنبر ـ أن يعترفَ: «إنّه لم يكن للخطّاب منبرٌ»!

والنتيجة المستلهَمة من هذا الاعتراف، أنّ المنبر له أهلٌ يملكونهُ، وأهلهُ أحقّ بالصعود عليه، وتولّي أُموره، فما الذي ادّي إلي تجاوزهم واستيلاء غيرهم عليه، واستحواذه علي اُموره دونهم؟

ولكنّ عمر، اصطحب الطفلَ، ليجريَ معه عملية «التحقيق» لسوء ظنّه، بأنّ وراء الطفل مؤامرةً دَبَّرتْ هذا الموقفَ، واستغلّتْ طفولة الحسين، فذهب به إلي منزله، وقال له: «مَنْ علَّمك؟».

مع أنّ الحسين لا يحتاج إلي مَنْ يُعلّمه مثل تلك الحقيقة المكشوفة، وهو يعيش في بيت يعرّفه كلّ الحقائق.

وإذا انطلت الأُمور علي العامّة من الناس، فهناكَ الكثير ممّن يأبي أن يتقنّع بقناع الجهل والعناد والعصبيّة المقيتة، أو ينكر النهار المضي!

وبقيّة الحديث مثيرة أيضاً:

فالحسين الذي صارحَ بالحقيقة، وقام يؤدّي دوره في إعلانها للناس، أخذ عمر يُطايبهُ، فيدعوه إليه بقوله: «يا بُني، لو جعلت تأتينا فتغشانا»

فيأتيه الحسينُ يوماً، وقد خلا بمعاوية ـ أميره علي الشام ـ في جلسة خاصّة، ويُمنع الجميعُ من اقتحام الجلسة المغلقة، حتّي ابن عمر.


فيأتي الحسينُ، ويرجعُ، فيطالبُه عمر، وهُنا يعرّفه الحسينُ بأنّه أتاه فوجده خالياً بمعاوية.

لكنّ عمر يُطلق تصريحاً آخر، صارفاً لأنظار العامة، فيقول للحسين:

«أنت أحقّ بالإذن من ابن عمر

وإنّما أنبَتَ ما تري في رؤوسنا الله، ثمّ أنتم» ووضع يده علي رأسه.

وهكذا ينتهي هذا الحديث الذي يدلّ علي نباهة الحسين منذ الطفولة، وأدائه دوره الهامّ بشجاعة هي من شأن أهل البيت، وجرأة ورثها ـ فيما ورث ـ من جدّه الرسول صلّي الله عليه وآله وسلّم.

ولكنّ عمر، كان أحْذَقَ من أن تؤثّر فيه أمثال هذه المواقف، فكان يُطّوقُ المواقف بالتصريحات، والتصرّفات، فبين الحين والآخر يُطلق: «لولا عليٌّ لهلك عمر» ولمّا دوّن الديوان، وفرض العطاء:

[182] ألحق الحسن والحسين بفريضة أبيهما مع أهل بَدْر لقرابتهما برسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم، ففرض لكلّ واحد منهما خمسة آلاف [3] .

وهل يبقي أثر لما يُنتقدُ به أحد إذا كان في هذا المستوي من القول والعمل.

لكنّ الذين اعتقدوا بخلافة عمر، واستنّوا بسُنتّه، وجعلوا منها تشريعاً في عرض الكتاب والسُنّة النبوية، لم يُراعوا في «الحسين» حتي ما راعاه عمر!


پاورقي

[1] ما بين القوسين من مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور.

[2] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:127).

[3] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:127).