بازگشت

وديعة الرسول


ولم يدّخر الرسولُ صلّي الله عليه وآله وسلّم وُسْعاً في إبلاغ أُمّته ما لأهل بيته من كرامة وفضل وحُرمة، منذُ بداية البعثة الشريفة، من خلال وحي الآيات الكريمة، وما صَدَرَ منه صلّي الله عليه وآله وسلّم من قول، وفعل، وعلي طول الأعوام التي قضاها في المدينة المنوّرة بين أصحابه وزوجاته في المسجد، وفي الدار، وخارجهما علي الطريق، وفي كلّ محفل ومشهد.

لقد وَعَدَ علي حبّهم، وتوعَّدَ علي بُغضهم وحربهم، وأبلغَ، وأنذرَ، ورغّبَ وحذّر، بما لا مزيدَ عليه.

ولمّا احتُضِر، ودَنَتْ وفاتُه، اتّخذ قراراً حاسِماً نهائياً، في مشهد رائع، يخلد علي الأذهان، فلنصغ للحديث من رواية أنس بن مالك خادم النّبي صلّي الله عليه وآله وسلّم:

[167] جاءت فاطمة، ومعها الحسن والحسين، إلي النبيّ صلّي الله عليه وآله وسلّم، في المرض الذي قبض فيه. فانكبّتْ عليه فاطمة، وألصقتْ صدرها بصدره، وجعلت تبكي، فقال النّبي صلّي الله عليه وآله وسلّم: «مَهْ، يا فاطمة» ونهاها عن البكاء.

فانطلقت إلي البيت، فقال النبي صلّي الله عليه وآله وسلّم ـ وهو يستعبر الدموع ـ: «اللّهمّ أهل بيتي، وأنا مستودعهم كلّ مؤمن» ثلاث


مرّات [1] .

فالمشهدُ رهيبٌ!

رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم مسجّيً، ستفقده الأُمّة بعد أيّام، وتفقد معه «الرحمة للعالمين».

وأمّا أهل البيت عليهم السلام، فسيفقدون ـ مع ذلك ـ الأبَ، والجدَّ، والأخَ، تفقد الزهراء أباها، ويفقد الحسنان جدّهما، ويفقد عليٌّ أخاه!

وانكبابُ فاطمة علي أبيها، يعني منتهي القُرْبِ، إذ لا يفصلُ بينهما شي، والصدرُ محلّ القلب، والقلبُ مخزنُ الحبّ، فالتصاق الصدرين بين الأب والبنت، في مرض الموت، يُنبئ عن منظر رهيب ملي بالحزن والعاطفة، بما لا يمكن وصفه.

وليس هناك ما يعبّر عن أحزان فاطمة عليها السلام، إلاّ العَبْرة تجريها، والرسول الذي يؤذيه ما يؤذي ابنته فاطمة، لا يستطيع أن يشاهدَها تبكي، فينهاها.

لكنّه هو الآخر، لا يقلّ حزنهُ علي مفارقة ابنته الوحيدة، وسائر أهل بيته، الذي أعلمه الغيبُ بما سيجري عليهم من بعد، فلم يملك إلاّ استعبار الدموع.

علي ماذا يبكي رسول الله؟!

إنّ كلامه الذي قاله يكشف عن سبب هذا البكاء في مثل هذه الحالة، والميّت إنّما يوصي بأعزّ ما عنده، وفي أواخر لحظات حياته، إنّما يفكّر في أهمّ ما يهتمّ به، فيوصي به، والرسول يُشهد الله علي ما يقولُ، فيقول: «... اللّهمّ، أهل بيتي...».

ويجعلهم «وديعةً» يستودعُها «كلَّ مؤمن» برسالته، وحفظ الوديعة من واجبات المؤمنين (الَّذِينَ هُمْ لاَِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) ويؤكّد علي ذلك، فيقوله ثلاث مرّات.


ولا يُظنّ ـ بعد هذا المشهد، وهذا التصريح ـ أنّ هناك طريقة أوغلَ في التأكيد علي حفظ هذه الوديعة، ممّا عمله الرسول صلّي الله عليه وآله وسلّم، ولكن لنقرأ «السيرة الحسينيّة» لِنجدَ ما فعلته الأُمّة بوديعة الرسول هذه!

وفي خصوص الحسين جاء حديث «الوديعة» في رواية زيد بن أرقم قال:

[322] أما ـ والله ـ لقد سمعت رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم يقول: «اللّهمّ إنّي استودعكه وصالح المؤمنين»

وقد ذكر ابن أرقم هذا الحديث في مشهد آخر، حيث كان منادماً لابن زياد، فجي برأس الحسين، فأخذ ينكث فيه بقضيبه، فتذكّر ابن أرقم هذا الحديث، كما تذكّر أنّه واجب عليه أن يقوله في ذلك المشهد الرهيب الآخر، وراح يتساءل: «فكيف حفظكم لوديعة رسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم».

مع أنّ زيد بن أرقم نفسه هو ممّن يُوَجَّه إليه هذا السؤال؟

وسنقرأ الإجابة في الفصل (31) ضمن «المواقف المتأخّرة»؟



پاورقي

[1] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:124).