بازگشت

الحب والبغض


أنْ يُحبّ الإنسانُ أولاده ونَسْلَه، فهذا أمرٌ طبيعيٌّ جدّاً، أمّا أنْ يربطَ حُبّهم بحبّه، فهذا أمر آخر، فليس حبّهم ملازماً لحبّه، وليس لازماً أو واجباً ـ في كلّ الأحوال ـ أن يحبَّهم كلّ مَنْ أحبّ جدّهم.

لكنّ الرسولَ فرضَ الربْطَ بين الحبَّيْنِ، حبَّ أولاده، وعترته، وحبّه هو صلّي الله عليه وآله وسلّم، فكان يُشير إلي الحسن والحسين، ويقول:

[116] مَنْ أحبَّني فليُحبّ هذينِ.

إنّ عاطفة «الحُبّ» بين الرسول والأُمّة، ليس هو العشق فحسبْ، بل هو


أيضاً حُبّ العَقيدة والتقديس والإجلال والسيادة، لِما تمتّع به الرسولُ من ذاتيّات جمالية وكمالية، وأُبوّة، وشرف، وكرامة، وجلال، وعطف وحنان، وصفات متميّزة.

وإذا كان الحسنان، قد استوفيا هذه الخصالَ، وبلغا إلي هذه المقامات حَسَباً ونَسَباً، فمن البديهيّ أنّ مُحِبّ الرسول، سيحبّهما، بنفس المستوي، لِما يجد فيهما ممّا يجد في جدّهما الرسول صلّي الله عليه وآله وسلّم.

ولأجل هذا المعني بالذات، نجد الرسولَ يعكسُ تلك الملازمة، فيقول: في نصوص أُخري: «من أحبّهما فقد أحبّني» فيجعل حُبَّهُ متفرِّعاً من حبّهما، بعد أن جعل في النصّ الأول حبّهما متفرّعاً من حبّهِ.

فإذا كان سببُ «الحُبّ» ومنشأُه واحداً، فلا فرق بين الجملتين: «مَنْ أحَبّني فليُحِبَّ هذيْنِ» و «مَنْ أحَبَّهما فقد أحبّني»

والنصوص التي أكّد فيها الرسولُ صلّي الله عليه وآله وسلّم علي حُبّ «آل محمّد» ومنهم الحسين عليه السلام، كثيرة جدّاً، روي منها ابن عساكر قسماً كبيراً [1] .

ويتراءي هذا السؤالُ:

لماذا كلّ هذه التصريحات، مع كلّ ذلك التأكيد؟! وإنّ المؤمنين بالرسالة والرسول، لابُدّ وأنّهم يُكرمون «آل الرسول» ويودّونهم، ويحبّونهم حبّ العقيدة والإيمان!

وعلي أقلّ التقادير، مشياً علي أعراف من قبيل «لأجْل عَيْن ألْفُ عَيْن تُكْرَمُ» و «المَرْءُ يُحفظ في وُلدهِ» تلك الأعراف التي كانت سائدةً بين أجهْل البشر في ذلك العصر، فكيف بالّذين ملأتهم تعاليم الإسلام وَعْياً؟!

هذا، مع الغضّ عمّا كان لأهل البيت النبويّ، من الكرامة والشرف والمكانة


العلميّة والعمليّة، ممّا لا يخفي علي أحد من المسلمين.

فإذا نظرنا إلي آثارهم ومآثرهم، فهل نجد أحداً أحقّ بالحبّ والتكريم منهم؟! وأَوْلي بالتفضيل والتقديم؟!

فلماذا كلّ ذلك التأكيد من جدّهم الرسول علي حُبّهم وربط ذلك بحبّه هو؟!

إنّ هذا السؤال تسهل الإجابة عليه، إذا لاحظنا أنّ الرسول صلّي الله عليه وآله وسلّم قد أضاف علي نصوص الملازمة الثانية: «من أحبّهما فقد أحبّني» قوله:

[118 ـ 123] «... ومن أبغضهما فقد أبغضني» [2] .

عجباً، فكيف يُفترضُ وجود من يُبغض الحسن والحسين؟!

ولماذا يُريدُ أحدٌ ممّن ينتمي إلي دين الإسلام، أن يُبغض الحسنَ أو الحسين؟!

وهذه الأسئلة أصعب من السؤال السابق، قطعاً، إذ يلاحَظ فيها: أنّ الرسولَ صلّي الله عليه وآله وسلّم قد فرضَ وجود من يُبغض الحسنين، ورَبَطَ بين بُغضهما، وبُغضه هو!

ثمّ هناك ملاحظة في مسألة البُغض، وهي أنّ الملازمة فيه، من طرف واحد، وقد كان في الحبّ من الطرفين!

فلم يَرِد في البغض: «من أبغضني فقد أبغضهما»!

وقد يكون السببُ في الملاحظة الثانية: أنّ فرض بُغض النبي صلّي الله عليه وآله وسلّم، في المجتمع الإسلاميّ، أمرٌ لا يمكن تصورّه ولا افتراضُه، إذ هو يساوي الكفر بالرسالة ذاتها، وبالمرسِل والمرسَل أيضاً.

لكن «بُغْض آل الرسول» فهو علي فظاعته، قد تحقّق علي أرض الواقع، فقد كان في أُمّة الرسول بالذات! مَن أبغضَ الحسنين، ولعنَهما علي منابر الإسلام، بل وُجِدَ في الأُمّة مَنْ شهر السيفَ في وجهيهما، وقاتلهما.


وهل قُتِلَ الحسينُ عليه السلام علي يدِ اُناس من غير أُمّة جدّه الرسول محمّد؟! ولماذا؟

إنّ الرسول صلّي الله عليه وآله وسلّم أعلنَ بالنّص المذكور ـ الذي هو من دلائل النبوّة ـ أنّ «بُغضه» وإنْ لم يفترضه المسلم مُباشرة، ولا يتمكّن المنافق والكافر من إظهاره علانيةً، إلاّ أنّه يتحقّق من خلال بُغْض الحسن والحسين، لأنّ «مَنْ أبغضهما فقد أبغض النبيّ» لِما في بغضها من انتهاك المُثُل التي يحتذيانها، ونبذ المكارم التي يحتويانها، ورفض الشرائع التي يتّبعانها! وهي نفس المُثُل، والمكارم، والشرائع، التي عند الرسول نفسه صلّي الله عليه وآله وسلّم فبغضهما ليس إلاّ بغضاً له صلّي الله عليه وآله وسلّم ولرسالته.

ولقد رَتَّبَ النتائج الوخيمة علي بُغضهما في قوله صلّي الله عليه وآله وسلّم: [131] من أحبّهما أحببتُه، ومن أحببتُه أحبَّه الله، ومن أحبَّه الله أدخلهُ جنّات النعيم.

ومن أبغضهما، أو بغي عليهما، أبغضتُه، ومَنْ أبغضتُه أبغضَه الله، ومن أبغضَه الله أدخله نار جهنّم، وله عذابٌ مقيم [3] .

لكنّ الذين أسلموا رَغْماً، ولم يتشرّبوا بروح الإسلام، وظلّتْ نعراتُ الجاهلية عالقةً بأذهانهم، ومترسّبةً في قلوبهم، جعلوا كلّ الذي وردَ عن الرسول صلّي الله عليه وآله وسلّم من النصوص في حقّ أهل بيته الكرام، وارداً بدافع العاطفة البشريّة، نابعاً عن هواه في أبناء ابنته!! مُعْرضين عن قدسيّة كلام الرسول الذي حاطه بها الله، فجعل كلامه وحياً، وحديثه سُنّةً وتشريعاً، وطاعته فرضاً، ومخالفته كفراً ونفاقاً، وجعل ما ينطق بعيداً عن الهوي، بل هو وحيٌ يُوحي.

فأعرضوا عن هذه النصوص الآمرة بحبّ الحسنين، والناهية والمتوعّدة علي بغضهما، بأشدّ ما يكون! ونبذوها وراءهم ظِهْرِيّاً، فَعَدَوْا علي آل الرسول


ظلماً، وعَسْفاً، وتشريداً، وسبّاً، ولعناً، وقتلاً.

وخَلَفَ من بعد ذلك السَلَفَ، خَلْفٌ أضاعوا الحقّ، وأعرضوا عن أوامر النبيّ ونواهيه، واتّبعوا آثار سَلَف وجدوه علي أُمّة، وهم علي آثارهم يُهرعُون.

فبعد أنْ ضيّع السَلَفُ علي «آل محمد» فرصة الخلافة عن النبيّ، وتوليّ حكم الأُمّة، وقهروهم علي الانعزال عن مواقع الإدارة، وغصبوا منهم أريكة الإمامة، وفرّغُوا أيديهم عن كلّ إمكانات العمل لصالح الأُمّة، وأودعوا المناصب المهمّة والحسّاسة في الدولة الإسلاميّة بأيدي العابثين من بني أُميّة والعبّاس!

وبعد أنْ أضاعَ الخَلَفُ علي «آل محمد» فُرَصَ إرشاد الأُمّة وهدايتها تشريعيّاً، فلم يفسحوا لفقههم أن يُنشَر بين الأُمّة، ومنعوهم من بيان الأحكام الإلهيّة، وحرفوا وِجْهة الناس عنهم، إلي غرباء دخلاء علي هذا الدين واُصوله، وسننه ومصادر معرفته وفكره.

فأصبحتْ الأُمّةُ لا تعرف أنّ لآل محمد صلوات الله وسلامه عليهم فقهاً يتّصِل ـ بأوضح السُبُل وأصحّ الطرق ـ برسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم مُباشرةً، ويستقي أحكامه من الكتاب والسُنّة، من دون الاتّكال علي الرأي والظنّ، بل بالاعتماد علي اُصول علميّة يقينيّة.

وأمست الأُمّةُ لا تعرفُ أنّ علوم آل محمد، محفوظة في كنوز من التُراث الضخم الفخم، يتداوله أتباعهم حتّي اليوم.

ولكنْ لمّا كُتبتْ السُنّة الشريفة وجُمعت ودُوّنت، وبرزت للناس المجموعة الكبيرة من أحاديث الرسول الداعية إلي «حُبّ آل محمد» وقفَ الخلفُ علي حقيقة مُرّة، وهي: كيف كان موقف السَلَف من «آل محمد»؟! وأين موقع «آل محمد» في الإسلام حكماً وإدارةً، وفقهاً وتشريعاً؟!

فأين الحبُّ الذي أمر به الرسولُ، لأهل بيته؟!

وكيف لا نجد في التاريخ من آل محمد إلاّ من هو مقتول بالسيف، أو بالسمّ،


أو معذّب في قعر السجون وظُلَمِ المطامير، أو مُشَرَّد مطارَدٌ، أو مُهانٌ مبعد؟!

فكيفَ يكونُ البُغضُ، الذي نهي عنه الرسول لأهل بيته، إن لم يكن هكذا؟!

فلّما وقفَ الجيلُ المتأخّر علي هذه الحقيقة المرّة، وخوفاً من انكشاف الحقائق، ولفظاعة أمر البغض المعلن، ولكي لا تحرقهم ناره المتوعّد بها، لجأوا إلي تحريف وتزوير، انطلي علي أجيال متعاقبة من أُمّة الإسلام.

وهو ادّعاء «حُبّ آل الرسول» مجرّد اسم الحُبّ، الفارغ من كلّ ما يؤدي إلي إعطاء حقّ لهم في الحكم والإدارة، أو الفقه والتشريع.

وقد صنّفوا علي ذلك الأحاديث وجمعوا المؤلّفات، مُحاولين إظهار أنّهم المحبّون لآل محمّد، مُتناسين، ومتغافلين: أنّ «الحبّ» الذي يؤكّد عليه الرسولُ لنفسه ولآله، صلّي الله عليه وآله وسلّم، ليس هو لفظ «الحبّ» ولا «الحبّ العشقيّ» الفارغ من كلّ معاني الولاء العمليّ، والاقتداء والاتّباع والتأسّي، ورفض المخالفة، ونبذ المخالفين.

فلو أظهر أحدٌ الحبَّ لرسول الله صلّي الله عليه وآله وسلّم ولم يعمل بشريعته وخالف الأحكام التي جاء بها، ولم يتعبّد بولايته وقيادته وسيادته، ولم يلتزم بنبوّته ورسالته! لم يكن «مُحبّاً» له صلّي الله عليه وآله وسلّم.

فكيف يكون محبّاً لآل محمّد عليهم السلام مَنْ لم يُتابعهم في فقههم، ولم يأخذ الشريعة منهم، ولم يقرّ بإمامتهم، ولم يعترف بولايتهم، ولم يُسند إليهم شيئاً من أُمور دينه ولا دنياه؟!

أنّها إحدي الكُبَر.

فضلاً عمّن واجَهَ آل محمّد بالقتْل واللعن والتشريد، فهل يحقّ لمثلهم أنْ يدّعوا حبّ الرسول؟! واتّباعه؟! وهو الذي يقول: «ومن أبغضهم أبغضني» فكيف بمن قتلهم ولعنهم علي المنابر؟! وسبي نساءهم وأولادهم في البلاد؟!

وإنّ من التغابي أنْ يرتديَ في عصرنا الحاضر بعضُ السلفييّن، تلك العباءة


المتهرّئة، عباءة التحريف للحقائق، فيُنادي «علّمو أولادكم حُبّ الرسول وآل الرسول» ويطبع كتاباً بهذا الإسم!

مُتجاهلاً معني حُبّ الحسين ـ مثلاً ـ وقد مضي علي استشهاده أكثر من ألف وثلاثمائة وخمسين عاماً! وكيف يكون «الحبّ» للأموات؟!

أليس بتعظيم ذكرهم، ونشر مآثرهم، والاستنان بسنتهم، واتّباع طريقتهم، والتمجيد بمواقفهم، ونبذ معارضتهم، ورفض معانديهم، ولعن قاتليهم وظالميهم؟!

فكيف يدّعي حُبَّ الحسين، مَنْ يمنع أن يُجري في مجلس ذكر الحسين، والتألّم لمصابه، وذكر فَضائله، والإعلان عن تأييد مواقفه، وإحياء ذكراه سنويّاً بإقامة المحافل والمجالس؟!

أو من يُحرّم ذكر قاتله بسوء، وذكر ظالميه بحقائقهم؟!

أو من يُحاول أن يبّرر قتله، ويُوجّهَ ما جري عليه، بل يعظّم قاتله ويمجّده، ويصفه بإمرة المؤمنين؟!

ويَقْسو علي محبّيه، وذاكريه، والباكين عليه؟!

ومع ذلك يدّعي «حُبّه» ويدعو إليه!!

إنّ التلاعُب بكلمة «الحُبّ» إلي هذا المدي ليس إلاّ تشويهاً لقاموسَ اللغة العربيّة، ومؤدّي ألفاظها، وتجاوزٌ علي أعراف الأُمّة العربيّة، وهذا تحميقٌ للقرّاء، واستهزاءٌ بالثقافة والفكر والحديث النبوي.

إنّها سُخرية لا تُغتفر!



پاورقي

[1] لاحظها في الصفحات (79 ـ 100) من تاريخ دمشق، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام.

[2] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:120).

[3] مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور (7:121).