بازگشت

الحق الموروث


وهكذا فإن الحزب الأموي شاء أن يجعل الخلافة حقّاً شخصيّاً وموروثاً منذ استبد بالحكم في عهد عثمان. إلاّ أن المسلمين أدركوا ذلك بوعيهم. وبتنبُّه كبار صحابة رسول الله (صلي الله عليه وآله)، أمثال أبي ذر الغفاري، وعمرو بن الحمق الخزاعي فأشعلوها ثورة أطاحت بآمال بني أمية، ونسفت أحلامهم وما بنوا عليها من صروح خيالية.

بيد أنهم دبروا الأمر بشكل آخر كما يعرفه الجميع، حيث طالبوا بدم عثمان. وهذه أول آية تدل علي أنهم اعتبروا أنفسهم وارثين الخلافة بعد عثمان. وإلاّ فما كان يمكنهم أن يطالبوا بذلك بعد أن يضموا صوتهم إلي سائر أصوات المسلمين، ويبايعوا عليّاً (عليه السلام)، لا بل إنهم يريدونها كسروية وقيصرية يرثها الحفيد، وتُبرم باسم الوليد وهو رضيع.

فما أغني معاوية عن هذا الذي لج فيه وتهالك عليه.

لقـد رفع في الشام قميص عثمان حيث حشد تحته خمسين ألف مقاتل خاضبي لحاهم بدموع أعينهم، ورافعيه علي أطراف الرماح، قد عاهدوا الله ألا يُغمدوا سيوفهم حتي يقتلوا قتلة عثمان، أو تلحق أرواحهم بالله.

هل كان نهج معاوية هو النهج الصحيح الأمثل لإنزال القصاص بأولئك القتلة؟

أكان طريق القصاص أن يمتنع من البيعة للخليفة الجديد الذي اختاره المهاجرون والأنصار في المدينة، ثم دخل المسلمون في بيعته أفواجاً من كل الأمصار والأقطار.

أكان طريق الثأر لعثمان ان يمتنع معاوية عن البيعة ويتمرد علي الدولة في تلك الظروف المزلزلة التي لا تتطلب شيئاً كما تتطلب رأب الصدع وجمع الكلمة.

أكانت آية ولائه وحبه لعثمان أن يجعل من (قميصه) المضمخ بدمه رايةً يبعث تحتها كل غرائز الجاهلية، ويدير تحتها أتعس حرب أهلية تزلزل الإسلام وتفني المسلمين [1] .

لم يكن الهدف الثأر لعثمان. وإلاّ فما حداه إلي أن يكتب إلي كلٍّ من طلحة والزبير يدعو كلاًّ منهما بإمرة المؤمنين، ويدَّعي انهما أحق بها من علي (عليه السلام) وأنه من ورائهما ظهير، قد اتخذ لهما البيعة من أهل الشام سلفاً.

وإنما كان هدفه أن يثير استفزازاً في العالم الإسلامي المتوتر، ويخرج من وراء ذلك بما يريد من الظفر بالسلطة المأمولة، والحزب الأموي من وراء القصد.

ولنترك هذا المشهد إلي مشهد آخر. فحينما نجحت مؤامرة معاوية وساعدته الأقدار علي ابتزاز السلطة من يد أهلها، وهيأت له كل أهدافه وحققت له جميع شهواته، فما الذي حداه إذاً إلي استخلاف يزيد هذا السكِّير المقامر من بعده.

لا نستطيع تفسيراً لذلك إلاّ ما قد سبق من أن القضية كانت أعمق مما نخاله. فإنها ليست قضية استخلاف والد ولده فقط، بل هي تحويل الخلافة إلي مُلك أموي عضوض. صرح به مروان بن الحكم في عهد عثمان إذ قال للناس المحتشدين حول البلاط يطالبون بحقوقهم الشرعية: ما تريدون من مُلكنـا.

إذاً هو مُلك لكم تريدون الإبقاء عليه بما أُوتيتم من قوة وسلطان.. وراحت الأحداث تباعاً كلها تؤكد هذا التفسير حتي جاء أحد الموالين لبني أمية فصعد المنبر في حشد يضم زعماء المسلمين ذلك اليوم، ومعاوية متصدر وإلي جنبه يزيد.

فنظر إلي معاوية، ثم إلي يزيد ثم هز سيفه قائلاً:

أمير المؤمنين هذا (معاوية).

فإن مات فهذا (يزيد).

وإلاّ.. فهذا.. وهز السيف!!! فتقبل الناس خوفاً من آخر الثلاثة.

ومات معاوية، وكتب يزيد إلي الولاة بأخذ البيعة له. وجاء كتابه إلي المدينة. وطلب حاكم المدينة من الحسين (عليه السلام) البيعة ليزيد، فأبي. وكان من الطبيعي أن يأبي.

ثم حشد الحسين (عليه السلام) أهله، وأصحابه، وسار إلي مكة لإعلان ثورته، لا علي يزيد فقط بل علي الحزب الأموي، وعلي التوتر الذي يسود العالم الإسلامي أيضاً. ولا شك أنه سوف يربح القضية.

وبقي (عليه السلام) في مكة المكرمة أياماً، يعرف الناس مكانته السامية من الرسول (صلي الله عليه وآله) وسابقته الناصعة للرسالة، وقدمه الأصيل في قضايا المسلمين.

وأرسل يزيد إلي اغتياله مئة مسلح.. فعرف الحسين (عليه السلام) ذلك، فتنكَّب الطريق، وقصد الخروج إلي الكوفة.

لماذا؟ لأسباب نوجزها فيما يلي:

1- لأنه إما أن يعلن الحرب علي بني أمية وأنصارهم في مكة، وهو لا يريد ذلك لأنه يخالف قداسة البيت وحرمته أولاً، ولأنه إن ربحها لم يفد شيئاً، لأن من ورائه دولة مسلحة منتشرة قواها في كل مكان، في حين أن مكة تكفيها سرية تتجه من المدينة، حيث لا تزال حكومة الأمويين متمكنة هناك. فتطحنها طحناً، بينما الكوفة هي الآن أعظم قوة إسلامية علي الإطلاق.

أضف إلي ذلك أن هناك من أُجراء بني أمية كثيرون يلفقون عليه من الروايات ما هو بريء منها، كما فعلوا بالنسبة إلي أمير المؤمنين علي (عليه السلام).

والحسين (عليه السلام) لا يهمه شيء كما يهمه معرفة الناس أنه علي حق، وأن مناوئيه علي باطل، حتي يُتبع نهج الحق الذي يمثله، ويترك نهج الباطل الذي يمثلونه.

ولو أعلنها حرباً عليهم لكانت النتيجة أن يقتل بسيف هؤلاء الوافدين من قبل السلطة وتحت ألبستهم أسلحة الإجرام.

2- وفي مكة ابن الزبير وهو يزعم بأنه أحق بالأمر من الحسين (عليه السلام) ولا يهمه أن يتحد مع يزيد الذي يدعي الآن أنه من مناوئيه في سبيل القضاء علي الحسين، كما صنع ذلك أبوه في معركة البصرة، حيث اصطف بجانب مناوئي علي (عليه السلام) ليحظي بالخلافة دون الإمام.

3- والإمام الحسين (عليه السلام) لم يكن يريد أن يشتغل به، وهناك القضية الكبري حيث تحولت الخلافة في الشام إلي مُلك عضوض. وهذا انحراف يُجري الخلافة من حقٍّ إلي باطل، والأولي أشد وأمر من الثانية قطعاً.

4- إن مجرد سفره إلي العراق في حين يتقاطر الناس إلي مكة من كل حدب وصوب - يوم الثامن من ذي الحجة الحرام - إعلان كافٍ لهم عن هدفه، بل هو وحده كافٍ لتنبيه أهل الأمصار والأقطار النائية بما يحدث في العاصمة من حقيقة أمر الخلافة.

ثم سار بموكبه الحافل يقصد الكوفة، وقد أعلنت متابعة الإمام (عليه السلام) وأعطت البيعة له، وتواعدت علي الحرب معه، كما كانت تحارب مع أبيه أهل الشام.

ومسلم بن عقيل ابن عمه والٍ عليهم، نافذ الكلمة، مطاعٌ أمين.

ثم اختلفت الرياح السود علي الأوساط، وكما يبين الإمام (عليه السلام) نفسُه، خذلته شيعته وأنصاره، ونقضوا بيعته، وتلاشت قواه تحت ترهيب قوة الشام وترغيبها.

وهناك سبب آخر غيّر مجري التاريخ، وهو التزام أنصار الحسين بالحق حتي في أشد الظروف وأعتاها. فهذا في جانب، وفي جانب آخر عدم ارتداع أهل الشام عن أي جريمة، وأي اغتيال وخدعة.

وهنا أنقل لكم قصتين فقط: ثم آتي بنظرتين لهما، حتي نعرف بالمجموع اختلاف السير والاتجاه بين الحسين (عليه السلام) وبين يزيد وأنصارهما.

كان مسلم بن عقيل الحاكم علي الكوفة مطلق اليد. وكان عبيد الله بن زياد قد جاء إليها ليرجعها لبني أمية، ويرضي رجل من زعماء الشيعة يدعي هاني بن عروة. فعاده ابن زياد عله يستطيع أن يربحه.

وكان مسلم حاضراً فأمره هاني أن يختفي في مخدع، فإذا جاء ابن زياد، والي يزيد وزعيم المعارضة الأموية في الكوفة، ضرب عنقه وتخلص من شره وشر يزيد من بعده.

وجاء ابن زياد، وانتظر هاني خروج مسلم ساعة بعد ساعة تستطيل دقائقها ان لا يفوته الوقت.

ومع ذلك فلم يوافِهِ مسلم علي الوعد، فأخذ ينشد أشعاراً يحرضه بتلميح علي قتل ابن زياد، فأحس ابن زياد بالسر وخرج هارباً.

فلما جاء مسلم، وبَّخه هاني علي استمهاله فقال:

قال رسول الله (صلي الله عليه وآله): (المسلم لا يغدر).

فقول رسول الله هو الميزان، وهو المقياس الأول والأخير للحركة في منطق أنصار الحسين (عليه السلام)، لأنهم لا يهدفون إلي غاية سوي بلوغ مرضاة الله تعالي، ولن تُبلغ مرضاته بمعصيته، ولا يطاع الله من حيث يعصي.

وانقلبت الأمور.. وقتل مسلم.. وجيء بخبر شهادته إلي الحسين (عليه السلام) وهو في طريقه إلي الكوفة، في منزل يدعي بـ (زبالة).

وهو إذ ذاك أحوج ما يكون إلي أنصار يؤيِّدونه وينصرونه، لأن أمامه الكوفة المخلوعة المغلوبة علي أمرها، ووراءه مكة المحتشدة فيها قوي مناوئيه من أنصار بني أمية وغيرهم.

ومعه الآن زهاء ألف من الأنصار، أشد ما يكون احتياجاً إلي الإبقاء عليهم بكل وسيلة.

لكنه أبي إلاّ أن يصارحهم بالموضوع، ويبين لهم سقوط حكومته في الكوفة، وحرج موقفه، ويجيز لهم التخلي عنه إن شاؤوا.

استمعوا إلي خطبته حينما سمع بسقوط الكوفة في أيدي بني أمية:

(أيها الناس: إنما جمعتكم علي أن العراق لي، وقد أتاني خبر فظيع عن ابن عمي مسلم يدل علي أن شيعتنــا قد خذلتنا. فمن منكم يصبر علي حر السيوف، وطعن الأسنة فليأت معنا، وإلاّ فلينصرف عنّا) [2] .

إنه لا يبتغي من وراء نهضته سوي الله. وإذاً فليعمل كما يريد الله صريحاً واضحاً فلا يخدع ولا يمكر.

وهنا ندع التاريخ يقص علينا عن أنصار يزيد قصتين أيضاً:

1- طلب ابنُ زياد الزعيمَ الشيعيَّ الآنف الذكر - هاني بن عروة - ليتفاوض معه في بعض الشؤون. واغتر الرجل وذهب إلي قصر الإمارة، فلما دخله أخذوه وعذبوه ثم قتلوه، في حين أنهم أعطوه الأيمان والمواثيق قبل قدومه القصر بأنه لا يمسُّه سوء منهم.

2- وحشدت شيعة علي (عليه السلام) أمرها وجاءت تحاصر قصر الإمارة تريد إنقاذ هانئٍ الذي خدعوه ومكروا به، ولم يكن - إذ ذاك - علي قيد الحياة.

فإذا بأنصار بني أمية من فوق القصر، يطمئنون الناس ويهدئونهم بحياة هانئ، وأنه سوف يخرج إليهم بعد إجراء بعض المفاوضات.

ثم راحوا يهددونهم بجيش الشام، وأنه قد اقترب من حدود الكوفة مالهم به قبل أبداً، ورغَّبوهم بالأموال الطائلة التي سوف تهطل عليهم من الخزينة.. فإذا بالناس يتفرقون قليلاً قليلاً حتي سقطت الكوفة في أيدي هؤلاء.. وأول ما صنعوه قتل مسلم بعد ما قتلوا هانئ بن عروة غدراً ومكراً.

إن المستفاد من تاريخ النهضة الحسينية أن سبب سقوطها إنما كان هذه القصة بالذات، التي استقامت علي وعود فارغة، وتهديد ماكر.

ثم حشد ابن زياد بعد استيلائه التام علي الكوفة جيشاً باسم محاربة الترك والديلم، فلما اقتربت قافلة الإمام (عليه السلام) من الكوفة وجَّهه إليه ليقيِّده إليه أو إلي الموت. وأول سرية لقيت الحسين (عليه السلام) من الجيش، كانت مكونة من ألف مقاتل، وعلي رأسها الحر بن يزيد الرياحي. الذي طلب من الإمام (عليه السلام) إما البيعة وإما قدوم الكوفة أسيراً.. فأبي الإمام(عليه السلام) وأخذ طريقاً وسطاً بين طريق الكوفة والمدينة. وأرسل الحر كتابـاً إلي ابن زياد. فأجابه بلزوم محاربته، وحشد إلي الإمام جيوشاً بلغ عددها أكثر من ثلاثين ألف رجل، فالتقوا علي صعيد كربلاء التي تبعد عن بغداد اليوم مئةً وخمسة كيلو مترات وعن الكوفة خمسة وسبعين كيلو متراً.

وكان ذلك اليوم عصر التاسع من شهر محرم الحرام، حيث جاءت رسالة ابن زياد إلي عمر بن سعد قائد جيش بني أمية يأمره بالحرب بعد منع الماء عن حرم الرسول (صلي الله عليه وآله).

واستمهلهــم الإمام الحسين (عليه السلام) سواد الليل، حتي إذا أفصحت ليلة العاشر من المحرم عن صبح كئيب، زحف الجيش علي مخيم أبي عبد الله (عليه السلام) وقاوم أنصاره - وهم اثنان وسبعون بطلاً من أشجع أبطال العالم الإسلامي - وصُرعوا واحداً بعد الآخر بعد ما أبلوا بلاءً حسناً.

وقُتل أيضاً إخوة الإمام (عليه السلام) وعلي رأسهم بطل العلقمي أبو الفضل العباس(عليه السلام) واستشهد أبناؤه، حتي الرضيع في حضن والده، ولم يبق إلاّ الإمام (عليه السلام) فزحف إلي القوم وجاهد جهاداً عظيماً، وقتل من أهل الكوفة عدداً هائلاً، ولم تمض إلاّ ساعات حتي أصابه القدر سهمه الغدّار علي يد حرملة الكاهلي لعنه الله، وأصابه الكفر برمحه علي يد سنان بن أنس لعنه الله وبسيفه علي يد شمر بن ذي الجوشن لعنه الله وأعد له جحيماً وعذاباً أليماً، فصرع شهيداً رشيداً ظامئاً مظلوماً، فعليه وعلي أنصاره ألف تحية وسلام.

ولما وقعت الواقعة الرهيبة، وانتهت بمصرع السبط وأصحابه الأطهار علي أرض كربلاء بأبشع إجرام عرفه التاريخ، دوّي صداها في العالم الإسلامي، وزلزل عرش بني أمية زلزالاً.

ولم تمض مدة طويلة حتي اندلعت ثورات في كل مكان واستمرت حلقات متصلة، حتي انتهت بسقوط الدولة الأموية.

وإن كان الأمر لم ينته بسقوط بني أمية تماماً، حيث انحرفت القيادة الإسلامية أيضاً عن مجراها الصحيح، إلاّ أن ثورة أبي عبد الله (عليه السلام) ونهضته الجبارة كوَّنت جبهة قوية متماسكة تقف دون أي انحراف يريده المجرمون للحق ومفاهيمه.

والواقع أننا إذا تابعنا أحداث التاريخ بدقة، نري أن كل دعوة صادعة ثارت علي الطغيان في قرون متطاولة، إنما كانت نابعة عن حركة الإمام الحسين (عليه السلام).

وهكذا نستطيع أن نقول: إن نهضة الحسين (عليه السلام) ظلت قاعدة أصيلة للحركات الإصلاحية في التاريخ الإسلامي علي طول الخط، وستظل هكذا إلي الأبد.


پاورقي

[1] خالد محمد خالد عن کتابه في رحاب علي ص 162 - 163.

[2] بلاغة الإمام الحسين (عليه السلام) ص 69.