بازگشت

الوليد السعيد


كان ذلك الفجر آلف وأبهي فجر، من السنة الثالثة للهجرة، حيث استقبل بأصابع من نور، وليداً ما أسعده، وما أعظمه.

في الثالث من شعبان غمر بيت الرسالة نور، سنيٌّ متألقٌ، إذ جاء ذلك الوليد المبارك واصطفاه الله ليكون امتداداً للرسالة، وقدوة للأمة، ومنقذاً للإنسان من أغلال الجهل والعبودية.

ولا ريب أننا سوف ننبهر إذا لاحظنا بيت الرسالة وهو يستقبل الوليد الجديد، فهذا البيت البسيط الذي يستقر علي مرفوعته الأولي الرسول، الجد الرؤوم، والوالد الحنون.

وأتاه الخبر: أنه وُلِدَ لفاطمة (عليها السلام) وليد، فإذا به (صلي الله عليه وآله) يغمره مزيج من السرور والحزن، ويطلب الوليد بكل رغبة ولهفة!.

فماذا دهاك يا رسول الله!. بأبي أنت وأمي، هل تخشي علي الوليد نقصاً أو عيباً؟!

كلا.. إن تفكير صاحب الرسالة يبلغ به مسافات أوسع وأبعد مما يفكّر فيه أي رجل آخر، ومسؤوليته أعظم من مسوؤلية أب أو واجبات جد، أو وظائف قائد.. إنه مكوِّن أمة، وصانع تاريخ، ونذير الخالق تعالي إلي العالمين.

إنه يذهب بعيداً في تفكيره الصائب فيقول: لابد للمنية أن توافيه في يوم من الأيام، ولابد لجهوده أن تفسح أمامها مجالات أوسع مما بلغتها اليوم، فسوف تكون هناك أمة تدعي (بالأمة الإسلامية) تتخذ من شخص الرسول أسوة وقدوة صالحتين.

ولابد لهذه الأمة من هداة طاهرين، وقادة معصومين يهدون الأمة إلي الصراط المستقيم.. إلي الله العزيز الحكيم..

وسوف لا يكونون - كما أخبرته الرسالة مراراً - إلاّ ذريته هؤلاء، علي ابن عمه، وولداه (عليهما السلام)، ثم ذُرِّيتهم الطيبة من بعدهم!.

ولكن هل تجري الأُمور كما يريدها الرسول في المستقبل؟. إن وجود العناصر المنحرفة بين المسلمين نذيرٌ لا يرتاح له الرسول (صلي الله عليه وآله) علي مستقبل الأمة.

وإن الوحي قد نزل عليه غير مرة يخبره بأن المصير الذي رآه الحق المتمثل في شخص الرسول (صلي الله عليه وآله) هو نفس المصير الذي يترقبه الحق المتمثل في آله (عليهم السلام)، وأن العناصر التي قاومت الرسالة في عهده سوف تكون نفس العناصر التي تقاوم - بنفس العنف والإصرار - امتداد الرسالة في عهد أبنائه الطيبين صلوات الله عليه وعليهم.

فقد علم أنه سوف تبلغ الموجة مركزها الجائش، وسوف يقف أنصار الحق والباطل موقفهم الفاصل في عهد الإمام الحسين (عليه السلام)، هذا الوليد الرضيع الذي يُقلِّب وجهه فيظهر مستقبلُه علي ملامح الرسول وهو يضطرب علي ساعديه المباركتين.

والنبي (صلي الله عليه وآله) يلقي نظرةً علي المستقبل البعيد، ويعرج فيه فيلقي نظرة أخري علي هذا الرضيع الميمون فيهزه البُشر حيناً، ويهيج به الحزن أحياناً، ولا يزال كذلك حتي تنهمر من عينيه الوضيئتين دموع، ودموع...

يبكي رسول الله (صلي الله عليه وآله).. وما أشجعه، وهو الذي يلوذ بعريشه أشجع قريش وأبسلها، علي بن أبي طالب (عليه السلام) حينما يشتد به الروع، فيكون أقرب المحاربين إلي العدو، ثم لايفل ذلك من عزمه ومضائه قدر أنملة، لكنه الآن يبكي وحوله نسوة في حفلة ميلاد.. فما أعجبه من حادث!..

تقول أسماء فقلت: فداك أبي وأمي ممَّ بكاؤك؟! قال: علي ابني هذا؟

فقلت: إنه ولد الساعة يا رسول الله؟!

فقال: (تقتله الأمة الباغية من بعدي. لا أنالهم الله شفاعتي) [1] .

إن القضية التي تختلج في صدر رسول الله (صلي الله عليه وآله) ليست عاطفة إنسانية أو شهوة بشرية حتي تغريه عاطفة إعلاء ذكره وبقاء أثره في آله.

كلا.. بل هي قضية رسول. اصطفاه الله واختاره علي علم منه، بعزمه ومضائه، وصدقه وإيمانه.

قضية مَن تَحمَّل مسؤولية أشفقت من حملها السماوات والأرض والجبال الرواسي.. إنها مسؤولية الرسالة العامة إلي العالمين جميعاً.

والحسين (عليه السلام) ليس ابنه فقط، بل هو قدوة وأسوة لمن ينذر من بعده، فنبأ مصرعه - هو بالذات - نبأ مصرع الحق بالباطل، والصدق بالكذب، والعدالة بالظلم... وهكذا.

فيبكي النبيُّ (صلي الله عليه وآله) لذلك، ويحق له البكاء..

أنها ظاهرة ميلادٍ غريبة نجدها الساعة في بيت الرسالة تمتزج المسرة بالدموع، والابتسامة بالكآبة.. فهي حفلة الصالحين تدوم في رحلة مستمرة بين الخوف والرجاء، والضحك والبكاء.

لنصغ قليلاً لنسمع السماء هل تشارك المحتفلين في هذا البيت الهادئ البسيط.

نعم. نسمع حفيفاً يقترب، ونظنه حفيف الملائك، فإذا بهم ملأوا رحاب البيت.

يتقدم جبرائيل (عليه السلام) فيقول:

(يا محمد! العلي الأعلي يقرؤك السلام ويقول: علي منك بمنزلة هارون من موسي، ولا نبي بعدك. سمِّ ابنك هذا باسم ابن هارون؟

فيقول النبي (صلي الله عليه وآله): وما اسم ابن هارون؟

فيجيب: شُبَير.

فيقول النبي (صلي الله عليه وآله): لساني عربي؟!

فيجيب جبرائيل: سَمِّه الحسين. فيسميه الحسين [2] .

ويتقدّم فطرس.

ومن هو هذا الملك المهيضة جناحاه يحمله رفاقه؟. إنه مطرود من باب الله، لم يزل في السجن يعذب، حتي واتته أفواج من الملائكة، فقال لهم: مالي أراكم تعرجون وتهبطون، أقامت الساعة؟. فقال جبرائيل: كلا، وإنما ولد للنبي الخاتم وليد، فنحن ذاهبون إلي تهنئته الساعة. فقال: أفلا يمكن أن تحملوني إليه عله يشفع لي فيُشفّع؟. فجاء به جبرائيل (عليه السلام).

فها هو ذا يتقدم إلي الرسول (صلي الله عليه وآله) يتوسل به إلي الله.. فأومأ (صلي الله عليه وآله) إلي مهد الحسين وهو يهتز في وداعة، فراح الملك يلمس جوانب المهد بجناحيه المكسورتين، فإذا هو وقد ردَّهما الله عليه إكراماً منه لوجه الحسين (عليه السلام) عنده.

وتنتهي الحفلة، ويأخذ النبي (صلي الله عليه وآله) الرضيع الميمون بيديه، ويحتضنه ويؤذن في إحدي أُذنَيه، ويُقيم في الأخري. ثم يجعل لسانه في فم الوليد فيغذيه من رضابه الشريف ما شاء.

ثم يعقُّ عنه بعد أسبوع بكبشين أملحين، ويتصدَّق بزنة شعر رأسه بعد أن حلقه دراهم، ثم يعطِّره ويومئ إلي أسماء فيقول: (الدم من الجاهلية).

وهكذا ينقلب الجد الحنون إلي أسوة حسنة للمسلمين، فلا يكتفي بإجراء الآداب الإسلامية، وهي في روعتها ونضارتها - عملاً - وإنما ينسخ بالقول أيضاً لعنة الجاهلية، حيث كانوا يضمخون رؤوس ولدانهم بالدم إعلاناً لتوحشهم، وإيذاناً لطلب تِراتِهم.

ولم يزل ذلك الوليد المبارك يترعرع في أحضان الرسالة، ويعتني به صاحبها محمد (صلي الله عليه وآله) وربيبها علي (عليه السلام) حتي بلغ من العمر زهاء سنتين، ولكن لم يتفتح لسانه عن أداء الكلام أبداً.

عجباً. إن ملامح الوليد تدل علي ذكاء مفرط، ومضاء جديد، ومع ذلك فَلِم لم يتكلم بعد، أيمكن أن يكون ذلك لثقل في لسانه؟!

وذات يوم إذ اصطف المسلمون لإقامة صلاة الجماعة، يَؤمُّهم الرسول الأعظم، وإلي جانبه حفيده الحبيب الحسين (عليه السلام) ولمَّا تهيأ القوم للتحريم، كان الخشوع مستولياً علي القلوب. والهدوء سائداً علي الجو، والكل ينتظرون أن يُكَبِّر الرسول فَيُكَبِّروا معه، فإذا هم بصوته الخاشع الوديع يكسر سلطان السكوت ويقول: الله أكبر...

وإذا بصوت ناعم خافت يشبه تماماً صوت النبي (صلي الله عليه وآله) بكل نغماته ونبراته وما فيه من خشوع ووداعة يقول: الله أكبر...

إنه صوت الحسين (عليه السلام).

فكرر الرسول: الله أكبر... فأرجع الحسين الله أكبر، والمسلمون يستمعون ويكبِّرون، ويتعجبون!! فردد الرسول (صلي الله عليه وآله) ذلك سبعاً، ورجَّعه الحسين (عليه السلام) سبعاً، ثم استمر النبي (صلي الله عليه وآله) في صلاته والحسين (عليه السلام) يسترجع منه.

فقد كانت أول كلمة لفظها فم الحسين (عليه السلام) كلمة التوحيد: الله أكبر.

وفيما نخطوا مع التاريخ بعض الخطوات الفاصلة ننظر إلي هذا الوليد بالذات - ذلك الذي لم يفتح فمه إلاّ علي كلمة الله أكبر - ننظر إليه بعد خمس وخمسين سنة وهو يمارس آخر خطوات الجهاد المقدس، ويعالج آخر لحظات الألم وقد طرح علي الرمضاء، تلفحه حرارة الشمس، ويمزق كبده الشريف حر العطش، ويلفه حر السلاح المصلصل.

فنستمع إليه وهو يحرّك شفَتَين طالما لمستهما شَفَتا رسول الله (صلي الله عليه وآله) يتضرع إلي بارئه، يقول: (إلهي... رضاً برضاك، لا معبود سواك).

ولا يزال يتمتع حتي يُعرج بروحه الطاهرة المقدَّسة إلي السماء، عليه أفضل الصلاة والسلام.

وإذا ثبت بالتجارب الحديثة أن للوراثة آثارها البالغة، وأن للتربية حظها الكبير في إنماء خُلق الطفل وتكييف صفاته، فلا نشك في أن أبوي الحسين (عليه وعليهما السلام) كانا من أرفع الآباء خُلقاً، وأكرمهم نسباً. وإن تربيتهما كانت أحسن تربية وأشرفها وأقدرها علي إنماء الأخلاق الفاضلة، والسجايا الحميدة في نفس الإنسان.

وهل نشك في ربيب الرسول ذاته، وربيب مَن ربّاهما الرسول فاطمة وعلي عليهم جميعاً صلوات الله وتحياته؟.

أفلا نرضي من الله العزيز كلمته العظيمة في القرآن حيث يقول:

(مرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ فَبِأَيِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ)[سورة الرَّحْمَنِ: الآية 19- 22]

فالبحران هما بحر النبوة ومنبعه فاطمة (عليها السلام) عن الرسول (صلي الله عليه وآله)، وبحر الوصاية من قِبَلِ عليٍّ (عليه السلام). فلابد لهذين البحرين - إذا التقيا - أن يخرج منهما اللؤلؤ الحسن، والمرجان الحسين (عليه السلام).

هذه هي الوراثة.. إنها أقدس وأرفع مما يُتصور.. ولا تسأل عن التربية، فلقد كانت أنصع وأروع من كل تربية، كان شخص الرسول (صلي الله عليه وآله) يهتم بالحسين (عليه السلام) وتربيته بصورة مباشرة.

وبين يديك حديثان تعرف منهما مدي رعاية الرسول (صلي الله عليه وآله) لشأن الحسين (عليه السلام)، مما يؤكد لك أن الحسين لم يكن ربيب علي وفاطمة (عليهما السلام) فقط، بل تربي علي يد جدِّه النبيِّ (صلي الله عليه وآله) ذاته.

عن يعلي العامري أنه خرج من عند رسول الله (صلي الله عليه وآله) إلي طعام دعي له. فإذا هو بالحسين (عليه السلام) يلعب مع الصبيان فاستقبل النبي (صلي الله عليه وآله) أمام القوم...

ثم بسط يديه فطفر الصبيُّ ههنا مرّة وههنا مرّة، وجعل رسول الله يضاحكه حتي أخذه فجعل احدي يديه تحت ذقنه والأخري تحت قفاه، ووضع فاه إلي فيه وقبله [3] .

واستسقي الحسن (عليه السلام) فقام رسول الله (صلي الله عليه وآله) فجدع له في غمر كان لهم [4] ثم أتاه به.

فقام الحسين (عليه السلام) فقال: (اسقنيه يا أبه) فأعطاه الحسن ثم جرَّع للحسين (عليه السلام) فسقاه.

فقالت فاطمة (عليها السلام): (كأن الحسن أَحبَّهما إليك)؟.

قال: (إنه استسقي قبله، وإني وإياك وهما وهذا الراقد - وأومأ إلي علي أمير المؤمنين (عليه السلام) - في مكان من الجنة) [5] .

وظل الوليد النبيه يشبّ في كنف الرسول، وظلَّ الوالدين الطاهرين، والرسول يوليه من العناية والرعاية ما يبهر ألباب الصحابة ويحيِّزهم. ولطالما بعث الرسول بكلماته النيِّرة علي سمع المئات المحتشدة من المسلمين يقول: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة). و (الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا) ويقول: (حسين مني وأنا من حسين).

ويرفعه بين الناس - وهم ينظرون - فينادي: (أيها الناس هذا الحسين بن علي فاعرفوه).

ثم يردف قائلاً: (والذي نفسي بيده إنه في الجنة ومعه أحبَّاؤه).

و قد يتبوأ له مقعداً في حضنه المبارك ويشير إليه فيقول: (اللهم إني أُحبه فأَحبه).

ولطالمـــا يحمله هو وأخاه علي كاهله الكريم وينقلهما من هنا إلي هناك، والملأ من المسلمين يشهـدون.

وهكذا ترعرع الوليد الحبيب في ظل الرسالة وفي كنف الرسول، وأخذ منهما حظاً وافراً من المجد والسناء.


پاورقي

[1] بحار الأنوار: المجلد العاشر.

[2] انظر کتاب قاموس اللغة - في مادة شبر - وکتاب بحار الأنوار: ج 104 ص 111.

[3] مستدرک: ج 2 ص 626.

[4] أي غرف لهم من قدح ماء.

[5] معالم الزلفي: ص 259.