بازگشت

ليلة عاشوراء


كانت ليلة عاشوراء أشدّ ليلة مرّت علي أهل بيت الرسالة حُفَّت بالمكاره والمحن وأعقبت الشرّ وآذنت بالخطر وقد قطعت عنهم القلوب القاسية من بني اميّة واتباعهم كل الوسائل الحيويّة وهناك ولولة النساء وصراخ الأطفال من العطش المبرح والهم المدلهم.

إذاً فما حال رجال المجد من الأصحاب وسروات الشرف من بني هاشم بين هذه الكوارث فهل ابقت لهم مهجة ينهضون بها أو انفساً تعالج الحياة والحرب في غد.

نعم كانت ضراغمة آل عبدالمطّلب والصفوة من الأصحاب عندئذ في أبهج حالة واثبت جأش فرحين بما يلاقونه من نعيم وحبور وكلّما اشتدّ المأزق الحرج أعقب فيهم انشراحاً بين ابتسامة ومداعبة الي فرح ونشاط.



ومذ أخذت في نينوي منهم النوي

ولاح بها للغدر بعض العلائم



غدا ضاحكاً هذا وذا متبسّماً

سروراً وما ثغر المنون بباسم



هازل برير عبدالرحمن الأنصاري فقال له عبدالرحمن: ما هذه ساعة باطل؟ فقال برير: لقد علم قومي ما أحببت الباطل كهلا ولا شاباً ولكني مستبشر بما نحن لاقون، والله ما بيننا وبين الحور العين إلا أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم ولوددت أنهم مالوا علينا الساعة [1] .

وخرج حبيب بن مظاهر يضحك فقال له يزيد بن الحصين الهمداني: ما هذه ساعة ضحك؟ قال حبيب: وأي موضع أحقّ بالسرور من هذا؟ ما هو إلا أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم فنعانق الحور [2] .



تجري الطلاقة في بهاء وجوههم

ان قطبت فرقاً وجوه كماتها



وتطلعت بدجي القتام أهلة

لكن ظهور الخيل من هالاتها



فتدافعت مشي النزيف الي الردي

حتي كأنّ الموت من نشواتها



وتعانقت هي والسيوف وبعد ذا

ملكت عناق الحور في جنّاتها [3] .



فكأنّهم نشطوا من عقال بين مباشرة للعبادة وتأهّب للقتال، لهم دويّ كدويّ النحل، بين قائم وقاعد وراكع وساجد، قال الضحّاك بن عبدالله المشرقي مرّت علينا خيل ابن سعد فسمع رجل منهم الحسين عليه السلام يقرأ: (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لاَِنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِيْنٌ - مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِيْنَ عَلَي مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّي يَمِيْزَ الْخَبِيْثَ مِنَ الطَّيِّبِ) .

فقال الرجل نحن وربّ الكعبة الطيّبون ميزنا منكم.

قال له برير: يا فاسق أنت يجعلك الله في الطيّبين هلم الينا وتب من ذنوبك العظام فوالله لنحن الطيّبون وأنتم الخبيثون.

فقال الرجل مستهزءاً: وانا علي ذلك من الشاهدين [4] .

ويقال انه في هذه الليلة انضاف الي أصحاب الحسين من عسكر ابن سعد اثنان وثلاثون رجلا [5] حين رأوهم متبتلين متهجّدين عليهم سيماء الطاعة والخضوع لله تعالي.

مقاتل الطالبيّين [6] عن أبي مخنف، عن الحرث بن كعب، عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) قال: اني لجالس مع أبي الحسين في تلك الليلة التي قتل في صبيحتها وأنا عليل، وهو يصلح سيفه - وفي رواية يعالج سهاماً له - وبين يديه جون مولي أبي ذر الغفاري، إذ ارتجز «الحسين» وقال:



يا دهر افٍّ لك من خليل

كم لك بالإشراق والأصيل



من صاحب وطالب قتيل

والدهر لا يقنع بالبديل



وإنّما الأمر الي الجليل

وكلّ حيٍّ سالك سبيل



فأعادها مرّتين أو ثلاثاً ففهمتها وعرفت ما أراد وخنقتني العبرة ولزمت السكوت وعلمت أن البلاء قد نزل.

وأما عمّتي زينب لما سمعت ذلك وثبت تجرُّ ذيلها حتي انتهت إليه وقالت وا ثكلاه ليت الموت أعدمني الحياة! اليوم مات جدي رسول الله، اليوم ماتت أمي فاطمة وأبي علي وأخي الحسن [7] يا خليفة الماضي وثمال الباقين، فعزاها الحسين وصبَّرها وفيما قال يا أختاه تعزي بعزاء الله واعلمي ان أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون وكلّ شيء هالك إلاّ وجهه، ولي ولكل مسلم برسول الله اسوة حسنة.

فقالت عليها السلام: أفتغصب نفسك اغتصاباً فذاك أقرح لقلبي وأشدّ علي نفسي [8] .

وبكت النسوة معها ولطمن الخدود وصاحت ام كلثوم وا محمّداه وا عليّاه وا أُمّاه وا حسيناه وا ضيعتنا بعدك؟!

ثم انّه عليه السلام أمر أصحابه أن يقاربوا البيوت بعضها من بعض ليستقبلوا القوم من وجه واحد، وأمر بحفر خندق من وراء البيوت يوضع فيه الحطب ويلقي عليه النار إذا قاتلهم العدو كيلا تقتحمه الخيل، فيكون القتال من وجه واحد [9] .

وخرج عليه السلام في جوف الليل الي خارج الخيام يتفقّد التلاع والعقبات فتبعه نافع بن هلال الجملي، فسأله الحسين عما أخرجه قال: يا ابن رسول الله افزعني خروجك الي جهة معسكر هذا الطاغي، فقال الحسين: إني خرجت أتفقد التلاع والروابي مخافة أن تكون مكمناً لهجوم الخيل يوم تحملون ويحملون ثم رجع عليه السلام وهو قابض علي يد نافع ويقول: هي هي والله وعد لا خلف فيه.

ثم قال له: ألا تسلك بين هذين الجبلين في جوف الليل وتنجو بنفسك؟

فوقع نافع علي قدميه يقبّلهما ويقول: ثكلتني أُمّي، إنّ سيفي بألف وفرسي مثله، فوالله الذي منَّ بك عَليَّ لا فارقتك حتي يكلاّ عن فرّي وجرّي.

ثم دخل الحسين خيمة زينب ووقف نافع بإزاء الخيمة ينتظره فسمع زينب تقول له: هل استعلمت من أصحابك نيّاتهم فإنّي أخشي أن يسلموك عند الوثبة.

فقال لها: والله لقد بلوتهم فما وجدت فيهم إلا الأشوس الأقعس يستأنسون بالمنيّة دوني استئناس الطفل الي محالب أُمّه.

قال نافع: فلمّا سمعت هذا منه بكيت وأتيت حبيب بن مظاهر وحكيت ما سمعت منه ومن اخته زينب.

قال حبيب: والله لولا انتظار أمره لعاجلتهم بسيفي هذه الليلة، قلت: إني خلفته عند اخته وأظن النساء أفقن وشاركنها في الحسرة فهل لك أن تجمع أصحابك وتواجهوهن بكلام يطيب قلوبهن، فقام حبيب ونادي: يا أصحاب الحميّة وليوث الكريهة، فتطالعوا من مضاربهم كالاسود الضارية، فقال لبني هاشم: ارجعوا إلي مقرّكم لا سهرت عيونكم.

ثم التفت الي أصحابه وحكي لهم ما شاهده وسمعه نافع، فقالوا بأجمعهم: والله الذي منَّ علينا بهذا الموقف لولا انتظار أمره لعاجلناهم بسيوفنا الساعة! فطبْ نفساً وقرَّ عيناً، فجزّاهم خيراً.

وقال هلمّوا معي لنواجه النسوة ونطيب خاطرهن، فجاء حبيب ومعه أصحابه وصاح: يا معشر حرائر رسول الله هذه صوارم فتيانكم آلوا ألاّ يغمدوها إلاّ في رقاب من يريد السوء فيكم وهذه أسنّة غلمانكم أقسموا ألا يركزوها إلا في صدور من يفرّق ناديكم.

فخرجن النساء اليهم ببكاء وعويل وقلن: أيّها الطيّبون حاموا عن بنات رسول الله وحرائر أمير المؤمنين.

فضجّ القوم بالبكاء حتي كأنّ الأرض تميد بهم [10] .

وفي السحر من هذه الليلة خفق الحسين خفقة ثم استيقظ واخبر أصحابه بأنه رأي في منامه كلاباً شدّت عليه تنهشه واشدها عليه كلب أبقع وانّ الذي يتولي قتله من هؤلاء رجل أبرص.

وانه رأي رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) بعد ذلك ومعه جماعة من أصحابه وهو يقول له: أنت شهيد هذه الأُمّة وقد استبشر بك أهل السموات وأهل الصفيح الأعلي وليكن افطارك عندي الليلة عجّل ولا تؤخّر فهذا ملك قد نزل من السماء ليأخذ دمك في قارورة خضراء [11] .



وانصاع حامية الشريعة ظامئاً

ما بلَّ غلَّته بعذب فراتها



أضحي وقد جعلته آل أُميَّة

شبح السهام رميَّة لرماتها



حتي قضي عطشاًبمعترك الوغي

والسمر تصدر منه في نهلاتها



دخل عبدالله بن سنان علي أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) في يوم عاشوراء فرآه كاشف اللون، ظاهر الحزن، ودموعه تنحدر علي خدّيه كاللؤلؤ فقال له: ممّ بكاؤك يا سيّدي يا ابن رسول الله؟ قال عليه السلام: أو في غفلة أنت أما علمت ان الحسين اُصيب في هذا اليوم؟ ثم أمره أن يكون كهيئة أرباب المصائب.

ثم قال عليه السلام: «لو كان رسول الله حيّاً لكان هو المعزي به» [12] .

وأما الإمام الكاظم فلم يُرَ ضاحكاً أيّام العشرة وكانت الكآبة غالبة عليه ويوم العاشر يوم حزنه ومصيبته.

ويقول الرضا عليه السلام: فعلي مثل الحسين فليبك الباكون انّ يوم الحسين أقرح جفوننا وأذلّ عزيزنا بأرض كرب وبلاء.

وفي زيارة الناحية يقول حجّة آل محمد عجّل الله فرجه:

«فلأندبنّك صباحاً ومساءاً، ولأبكيّن عليك بدل الدموع دماً، حسرة عليك وتلهفاً علي ما دهاك».

وبعد هذا فهلا يجب علينا أن نخرق ثوب الأُنس ونتجلبب بجلباب الحزن والبكاء ونعرف كيف يجب أن نعظّم شعائر الله بإقامة المأتم للشهيد العطشان في العاشر من المحرّم!!؟



اليوم دين الهدي خرّت دعائمه

وملّة الحق جدّت في تداعيها



اليوم ضلّ طريق العرف طالبه

وسدّ باب الرجا في وجه راجيها



اليوم عادت بنو الآمال متربة

اليوم بان العفا في وجه عافيها



اليوم شق عليه المجد حلته

اليوم جزَّت له العليا نواصيها



اليوم عَقد المعالي فض جوهره

اليوم اصبحت عطلا معاليها



اليوم أظلم نادي العز من مضر

اليوم صرف الردي أرسي بواديها




پاورقي

[1] الطبري: 6/241.

[2] رجال الکشي: ص53 طبع الهند.

[3] للعلامة السيد محمد حسين الکيشوان رحمه الله.

[4] تاريخ الطبري: 6/240 ط اول.

[5] اللهوف وتاريخ اليعقوبي: 2/217 طبع النجف وسير أعلام النبلاء للذهبي: 3/210.

[6] مقاتل الطالبيّين ط. بيروت دار المعرفة: ص113.

[7] تاريخ الطبري: 4/240، وکامل ابن الأثير: 4/24، ومقتل الخوارزمي: 1/238 فصل 11، ومقاتل الطالبيّين لأبي الفرج: ص45 طبع ايران.

[8] اللهوف.

[9] الطبري: 6/240.

[10] الدمعة الساکبة: ص325.

[11] نفس المهموم: ص125 عن الصدوق.

[12] مزار ابن المشهدي من أعلام القرن السادس.