بازگشت

النتائج


ان ثورة التوابين - كما رأينا - أخفقت عسكرياً، وتحطمت قوتها الاساسية في (عين الوردة). وسبب هذا الاخفاق يعود بدون شك الي عامل رئيسي، هو الاختلال الظاهر في توازن القوي بين الجيشين الاموي والتوابي. فبينما كان الاول، قوياً، انضباطياً ومتفوقاً بشكل بارز في امكانياته البشرية والمادية، كان الآخر ضعيفاً، اقتصر علي عدد محدود من المتطوعين، الذين توفر لهم من الحماسة والفروسية والايمان، أكثر مما توفر من التنظيم والعدد والعتاد. وهذا الواقع اعترف به سليمان قبيل المعركة عندما لاحظ هزالة جيشه وقلة امكانياته بالمقارنة مع أعدائه الامويين [1] وقد أدي هذا الوضع المتباين لدي كل من الفريقين، الي حسم الموقف بسرعة وانهاء المعركة خلال أيام ثلاثة رغم الجهود البطولية التي بذلها التوابون في ساحة القتال [2] .


وعلي الرغم من أن المنطلقات الاولي للحركة التوابية جاءت منسجمة مع ما آلت اليه من نتائج فان التقويم الموضوعي لها هو أبعد من حدود الارتجال والتهور، كما في أذهان بعض المؤرخين. فقد ولدت حركة التوابين في الظلام تحت واقع التكفير عن الذنب الذي أوجده مصرع الحسين في كربلاء، وعاشت كمنظمة سرية تعمل في الخفاء - طوال خلافة يزيد بن معاوية - لتكوين قاعدتها الشعبية في الكوفة، وتحاول ان تستفيد من الظروف التي تمخضت عن وفاة هذا الاخير بخروجها من الاطار السري واعلانها الثورة علي النظام الاموي المسؤول المباشر عن مقتل الحسين.

ومع اعترافنا بأن حركة التوابين كانت مجرد حركة تكفيرية التزمت بهدف أساسي هو التوبة، وبأنها كحركة سياسية لم تتضمن أي برنامج اصلاحي سياسياً كان أم اجتماعياً، فلابد لنا أن نعترف ايضاً بأنها كانت حركة منظمة ومدروسة، دأبت بصورة جدية علي استقطاب الحزب الشيعي بكل فصائله وتعبئته لخوض معركة الانتقام للحسين. ولكن التمزق الذي أصاب هذا الحزب، بسبب تردد بعض عناصره، واستنكاف البعض الآخر عن المشاركة وانتقاده زعامة الحركة التي لم تضع امامها مخطط الاستيلاء


علي السلطة، فضلاً عن ظهور المختار في الكوفة في وقت شارفت فيه هذه الحركة علي النضج، فكان لظهوره الاثر الكبير في ارتداد الكثيرين عنها واستمالتهم الي دعوته الاكثر واقعية بمضمونها السياسي والاجتماعي.

ان كل هذه الامور أدت في النهاية الي نتيجة حتمية وهي الاخفاق العسكري المدمر للحركة التوابية، وان كان ينبغي أن نكون حذرين عند استعمالنا صيغة الاخفاق أو الفشل، لان الهزيمة العسكرية لم تكن مفاجئة او غير متوقعة بالنسبة للتوابين، وانما كان هؤلاء يعرفون سلفاً النتائج المترتبة علي تحركهم والتي حذرهم منها أكثر من محذر. لذلك توجهوا الي المعركة وهم يشعرون في قرارة أنفسهم انهم متجهين الي نهايتهم المحتومة بكل قناعة وبكل ادراك واقعي للظروف، فحققوا بذلك أهدافهم المرسومة، وكان لهم من النتائج ما أرادوا.

والحقيقة ان أي تقويم موضوعي لحركة التوابين، ينبغي ان لا يبتعد عن المفهوم العام الذي انطلقت منه، وهو الشعور بالذنب ومحاولة التكفير عنه، ذلك الشعور الذي جمع عناصرها القيادية والمتطوعة في تنظيم سري، تحول بعد فترة الي حركة انتحارية، هدفها الاول الانتقام


للحسين او الموت في سبيله [3] ومن خلال هذا المفهوم نستطيع القول أن فشل الحركة العسكري لا يعني بالضرورة انها فشلت علي الصعيد السياسي، ولا يعتبر مبالغة بأية حال اذا اعتبرناها حركة سياسية ناجحة، نفذت خطة موضوعة سلفاً، وقامت بتأدية مهمتها الانتقامية علي أكمل وجه. وأخيراً فان أبرز ما حققته الحركة التوابية من نتائج، انها سجلت بعض الايجابيات علي صعيد حركة النضال الشيعي، وانعكست تأثيراتها بصورة خاصة علي المجتمع الكوفي، فعبأت جماهيره بالثورة، وعمقت في نفوسهم الكراهية والحقد ضد النظام الاموي، الامر الذي جعل من الكوفة فيما بعد مسرح التحرك الدائم للحزب الشيعي وثوراته المتلاحقة، المناهضة للنظام.

والواقع ان الشيعة في الكوفة ظلوا يمارسون النقد الذاتي ازاء موقفهم من الحسين بعد عودة بقايا التوابين من (عين الوردة)، واستمر التعبير عن الندامة والشعور بالاثم يمارس عبر نشاطات وتحركات مختلفة.

ولكن غياب عدد من الشخصيات القيادية في الحزب الشيعي أدي الي فراغ في الزعامة القادرة علي تسجيل مواقف سياسية ذات أهمية. حتي رفاعة بن شداد القائد


التوابي المنسحب، لم يكن بمقدوره، وهو المتقدم في السن والمهزوم عسكرياً، أن يتزعم الحزب الشيعي المفكك حينئذ. فهناك فراغ في الزعامة، واختلاف في آراء القادة حول موقف الحزب من التطورات السياسية الجديدة، وهناك تململ في أوساط القاعدة الجماهيرية التي لا تزال تتفجر بالنقمة وتقوم بضغوط علي القيادة من اجل استئناف التحرك واتخاذ قرارات أكثر جدية.

وكانت هذه الظروف فرصة نادرة امام الزعيم الشيعي المعتقل آنذاك في سجن الكوفة، المختار الثقفي. فراقبها باهتمام كبير، وكتب الي صهره عبد الله بن عمر موسطاً اياه من جديد لدي عبد الله بن يزيد أمير الكوفة [4] من أجل الافراج عنه. وقد تم له ذلك لقاء عهود قطعها لهذا الاخير [5] بعدم اثارة المتاعب وتجميد نشاطاته السياسية. ولكن المختار لم يكن بأية حال ذلك الرجل الذي يلتزم بعهود من هذا النوع وهو المحنك والسياسي الطموح، وانما سخر منها، وعجب لسذاجة الذين اعتقدوا انه سيحافظ عليها حيث قال: «ما أحمقهم حين يرون اني أفي لهم بايمانهم هذه، أما حلفي لهم بالله فانه ينبغي لي


اذا حلفت علي يمين فرأيت ما هو خير منها أن أدع ما حلفت عليه وآتي الذي هو خير وأكفّر يميني، وخروجي عليهم خير من كفي عنهم» [6] .

وتشاء الصدف أن يتحلل المختار تلقائياً من عهوده مع عبد الله بن يزيد، حين غادر هذا الاخير قصر الامارة معزولاً بقرار من سيده ابن الزبير اذ وجد فيه ضعفاً لا يتناسب مع خطورة المرحلة وعيّن مكانه أحد أشد مؤيديه حماسة هو عبد الله بن مطيع القرشي [7] الذي لم يكن بينه وبين المختار شيئاً من المواثيق.

وهكذا خرج المختار من سجنه، ليجد نفسه في مواجهة أحداث مصيرية وخطيرة، فكان عليه أن يتحرك فوراً وأن لا يتردد في اتخاذ الموقف المناسب بكل جرأة، قبل أن تقوم شرطة الوالي الجديد برصد نشاطاته واعادته من جديد الي السجن [8] وبسرعة أعلن برنامجه السياسي باسم محمد بن الحنفية أحد أبناء علي من غير فاطمة، الذي كان يعيش في المدينة، حيث زعم انه اتفق سراً مع هذا الاخير علي الدعوة له في الكوفة. وكان علي


المختار أن يقنع الكوفيين بصحة زعمه، لان فريقاً كبيراً منهم شكك في هذا الامر، وانتدب وفداً ذهب لمقابلة الزعيم العلوي من أجل الوقوف علي حقيقة ما يزعمه المختار. ورغم ان ابن الحنفية لم يعط جواباً حاسماً، وذلك لاعتبارات متعددة أهمها، موقعه في الدعوة العلوية ثم تخوفه من ابن الزبير، سيد الحجاز، الذي وضع ابن الحنفية تحت مراقبة أجهزته المشددة.

ولكن الزعيم العلوي علي ما يبدو لم يمانع في مباركة ما يقوم به المختار واستناده في دعوته علي العلويين اذ قال للوفد الكوفي: «انا لا نكره أن ينصرنا الله بمن شاء من خلقه» [9] .

ومن المرجح أن المختار، قبل خروجه من الحجاز او بعده، كان قد اتصل بعلي بن الحسين وباحثه بأمر الدعوة له في العراق ولكنه لم يلق استجابة، فانصرف عنه الي محمد بن الحنفية [10] وسواء قابل المختار الزعيمين العلويين، أم أنه زعم ذلك ليعطي تسويغاً أقوي لدعوته وبعداً أكثر من مجرد الثأر للحسين والتكفير عن الذنب،


فان موقف ابن الحنفية من المختار - رغم عدم وضوحه - انعكس علي الوضع العام في الكوفة حيث شهد الحزب الشيعي تحولاً نحو ابن الحنفية الذي لم يكن مطروحاً حتي ذلك الحين كامام للدعوة العلوية، وأدي الي نجاح المختار في فرض نفسه علي الحزب وتسلم زعامته.

ولقد التف حول المختار بعد خروجه من السجن، نفر من الزعماء الشيعيين الذين وجدوا فيه الشخصية القيادية الصالحة لمتابعة التحرك. وكان من أبرز هؤلاء: رفاعة بن شداد، ويزيد بن انس، وأحمد بن شميط، وعبد الله بن شداد الجشمي، والسائب بن مالك الاشعري. وقد نشط هؤلاء وقاموا بحملات دعائية في أسواق الكوفة وأحيائها لحمل الناس علي تأييد المختار والبيعة له [11] ولكن عقبات عدة جابهت المختار، وأخرت قليلاً سيطرته علي الوضع في الكوفة فكان لا بد له من معالجتها بالسرعة الممكنة. ومن هذه العقبات مثلاً، موقف حزب الاشراف منه الذي لم يقل عدائية عن موقفه السابق من التوابين [12] ، ومنها ايضاً تردد ابراهيم بن الاشتر النخعي أحد كبار الشيعة في الكوفة، في الانضمام الي جانب


المختار. وكان ابراهيم - كأبيه الاشتر - شديد الاخلاص في ولائه لعلي وأبنائه، ومتطرفاً الي أبعد حدود التطرف في عدائه للامويين، ولكن مع نظرة خاصة للامور ورؤية مختلفة تماماً عن غيره من زعماء الحزب الشيعي، فهو لم يشترك مثلاً في ثورة التوابين، ووقف موقف الحذر من المختار، لان التحرك الشيعي كان برأيه حينئذ، تحركاً انفعالياً يفتقر الي خطط منظمة واستعدادات طويلة وأهداف واضحة.

ولعل ابراهيم كان يطمح الي أن يقود بنفسه الحزب الشيعي في العراق، خاصة وانه كان علي اتصال دائم مع زعماء البيت العلوي ومنهم محمد بن الحنفية نفسه [13] ، وهذا ما دعاه الي التشكيك بمزاعم المختار. غير أن هذا الاخير تمكن بعد الحاح من اقناع ابراهيم بالاعتراف بدعوته والبيعة له. ويبدو ان الموافقة علي ذلك كانت بايحاء من زعيم الدعوة محمد بن الحنفية الذي كتب الي ابراهيم بهذا الشأن [14] .

والواقع ان المختار كسب حليفاً قوياً بانضمام ابن الاشتر اليه، الذي ما لبث ان صار من ألمع رجالات الثورة


وقائدها العسكري الاول، وأصبح يحضر بانتظام الاجتماعات السرية في بيت المختار لتحضير الانقلاب ضد الحكم الزبيري في الكوفة [15] ، واتخاذ قرار بتحديد ساعة الخروج حيث اتفق علي أن تكون ليلة الخميس في الرابع عشر من ربيع الاول سنة ست وستين هجري [16] .

وفي تلك الاثناء كانت التقارير ترد علي عبد الله بن مطيع - والي الكوفة - من قائد شرطته [17] ، محذرة من انقلاب قريب يعده المختار [18] فبعث حينذاك ابن مطيع رجاله في أحياء مختلفة من الكوفة في محاولة لافشال خطط المختار، ولكن ذلك لم يؤد الي أي نتيجة سوي المساهمة بتعجيل انفجار الثورة وتقديم موعدها يومين (الثلاثاء 12 ربيع الاول 66 هجري). فقد حدث ان كان ابن الاشتر - ومعه مائة من المسلحين - في طريقه ذلك اليوم الي منزل المختار أن اصطدم بصاحب الشرطة اياس بن مضارب الذي اعترض طريقه، فطعنه ابراهيم برمحه طعنة


أودت بحياته [19] وكانت هذه الحادثة اشارة البدء بالتحرك. وبسرعة مذهلة تم استيلاء المختار وقائده ابن الاشتر علي الموقف، وهُزم القائد [20] الذي أعده الوالي وحزب الاشراف [21] ، وما لبث ان هرب الوالي نفسه، وغادر قصر الامارة متخفياً ولجأ الي منزل ابي موسي الاشعري [22] .

وهكذا نجحت ثورة المختار الثقفي، وتحققت معها تطلعات الحزب الشيعي لاستلام الحكم، لاول مرة منذ قيام الخلافة الاموية وتنازل الحسن لمعاوية. وهناك عدة عوامل أسهمت بدون ريب في انجاح هذه الثورة ومهدت لها الطريق لتصل الي السلطة دون أدني صعوبة. ومن أبرز هذه العوامل:

1 - الاعتماد بشكل أساسي علي الفئات الشعبية من العرب وغيرهم الذين ضاقوا بالاضطهاد الاموي ثم الزبيري، ووجدوا في ثورة المختار متنفساً لتحقيق مطالبهم الاصلاحية.


2 - احتواء الحركة لقيادات الحزب الشيعي التي وجدت في المختار سياسياً بارعاً ومناضلاً شديد المراس، واقتنعت به كزعيم للحزب، مفوض من قبل أحد كبار العلويين، محمد بن الحنفية.

3 - ان الحكم الزبيري لم يقم بأي تغيير سياسي في الكوفة ولم يكن لديه أي برنامج اصلاحي، بل كاد يكون بمناهجه استمراراً للحكم الاموي. وقد جاءت خطبة ممثله في الكوفة حول الخراج تفجر الغضب وتشعل النقمة [23] .

4 - ان اشراك العامل الزبيري بعض قتلة الحسين في الحكم وفي حرب المختار [24] ، ترك انطباعاً سيئاً في صفوف المقاتلين معه، وأخذت مجموعات منهم تنصرف الي معسكر المختار.

5 - ان انضمام ابن الاشتر الي المختار، أدي الي ترجيح كفته وساعده علي تحقيق النصر، ذلك ان تأثير ابن الاشتر كان نابعاً من قوته القبلية ومكانته البارزة في الحزب الشيعي، فضلاً عن امكانياته الشخصية كقائد عسكري موهوب ومغامر.

هذه أهم العوامل التي أوصلت المختار الي السلطة


في الكوفة، عبر انقلاب أبرز ما فيه انه تم دونما اسراف في اراقة الدماء أو جنوح نحو العنف في ملاحقة الذين تم الانقلاب عليهم. فالاشراف طلبوا الامان، فأجيبوا اليه [25] ، والعامل الزبيري المهزوم أخرج من مخبأه، مبعداً الي البصرة ومعه مائة ألف درهم [26] وبذلك خضعت الكوفة بكل فئاتها - رسمياً علي الاقل - للمختار الذي اعتلي المنبر في المسجد ليعلن برنامجه السياسي والاصلاحي، وكان محوره اقامة حكم علوي يشيع العدل بين الناس ويبعث الطمأنينة في النفوس ويتعايش مع مختلف الاحزاب. ومما جاء فيه: «تبايعوني علي كتاب الله وسنة نبيه والطلب بدماء أهل البيت وجهاد المحلين والدفاع عن الضعفاء، وقتال من قاتلنا، وسلم من سالمنا والوفاء ببيعتنا لا نقيلكم ولا نستقيلكم» [27] .

علي أن المختار اذا كان قد استولي علي السلطة بمثل هذه السهولة، فان الاحتفاظ بها وسط تلك الدائرة من الصراعات الخطيرة التي اتخذت من الارض العراقية


مسرحاً لها كان أمراً في منتهي الصعوبة. فهناك أخطار مباشرة تتهدد نظامه الحديث، وتستهدفه مباشرة كلما اقترب الجيش الاموي - الذي فتك بالتوابين - من الكوفة. وهناك في الطرف الآخر ابن الزبير الذي لا زال يحتفظ بسيطرته علي جنوب العراق، وكان علي المختار أن يتحاشي الاصطدام به، واقناعه بأن حركته ليست ضده، مع ما في هذا الاقناع من استحالة، خاصة بعد أن مُنع الوالي الزبيري الجديد من دخول المدينة [28] .

بالاضافة الي ذلك فان الجبهة الداخلية، لم تكن خالية من المتاعب. فالمختار وصل الي الحكم - كما هو معروف - بواسطة الحزب الشيعي وهو ليس كل الكوفة. فكان من الطبيعي أن يواجه معارضة قوية - لا سيما من الاشراف الذين بايعوا مكرهين - سببت له الكثير من المشاكل وكادت تطيح بسلطانه الحديث العهد.

والواقع ان الاحداث كانت تتلاحق بصورة مثيرة ولا بد من مواجهة الموقف بجرأة وحزم. وكان وصول عبيد الله بن زياد بجيشه الاموي الي الموصل [29] من أثقل الامور علي المختار الذي بدا وكأنه يسابق الزمن في


استعداداته العسكرية لمواجهة أشد أعدائه خصومة وأكثرهم الحاحاً. ولكي يؤخر زحف هؤلاء نحو الكوفة، أرسل المختار جيشاً من ثلاثة آلاف مقاتل بقيادة يزيد بن انس، المريض والمسن حينئذ [30] فاشتبك مع طلائع الجيش الاموي وتمكن بعد يومين من تحقيق انتصار غير متوقع. ولكن ذلك اقترن بوفاة القائد المنتصر في نفس الليلة، فكان لموته تأثيراً سيئاً علي معنويات الجنود الذين تهيبوا ضخامة الجيش الاموي وأخذوا في التراجع الي الكوفة [31] .

بلغت أخبار الانسحاب، ومعها اشاعات عن هزيمة جيش المختار [32] فأسقط في يده، وأمر قائده ابن الاشتر بالتوجه مع سبعة آلاف مقاتل [33] للحؤول دون توغل ابن زياد في العراق.

غير أن خروج ابن الاشتر من الكوفة ترك مضاعفات خطيرة في المدينة وزاد الموقف حراجة، حين انتفض الاشراف - وكأنهم كانوا ينتظرون خلو الكوفة من ابن الاشتر - وقد كان الحافز وراء ذلك، تضارب مصالحهم


الاقتصادية والسياسية مع وجود حكومة شيعية في الكوفة برئاسة المختار، أبرز اهتماماتها معاقبة المسؤولين عن مقتل الحسين، وبعضهم كان من الاشراف، وانصاف الطبقات المحرومة والفئات المضطهدة لا سيما الموالي، وغير ذلك مما أثار حفيظة هؤلاء ودفعهم الي التآمر علي الحكم الشيعي الذي هدد ما تمتعوا به من امتيازات خاصة في ظل الحكومات السابقة [34] .

انطلق الاشراف في زمر مسلحة في الكوفة وحاصروا قصر الامارة، وقد أدي ذلك الي قتال عنيف في الشوارع خاضته الشيعة ببسالة، وصمد المختار، فلم تفقده خطورة الموقف توازنه، وقدرته الفائقة علي المناورة، حين لجأ الي المماطلة بالتفاوض مع المتمردين [35] كسباً للوقت ريثما يصل قائده ابن الاشتر، وكان قد كتب اليه بشأن المؤامرة [36] .

عاد ابراهيم بسرعة الي الكوفة، وبعودته أتيح للحزب الشيعي - وكانت الحماسة قد بلغت به أقصي درجاتها، يزيدها اشتعالاً صرخات التوابين بقيادة رفاعة ابن شداد مرددة شعارها المعروف «يالثارات


الحسين» [37] - أن يقضي علي تمرد الاشراف ويصفي مقاومتهم. وقد أتاح ذلك بدون شك أمام المختار فرصة الاسراع بتنفيذ قراره الانتقامي من قتلة الحسين وتتبعهم في أنحاء العراق، فأوقع بالكثيرين منهم [38] قتلاً ونفياً وتعذيباً، كان بينهم عمر بن سعد وشمّر بن ذي الجوش [39] .

وبعد يومين من اخماد تمرد الاشراف، غادر ابراهيم ابن الاشتر الكوفة من جديد في طريقه الي الموصل حيث كان يرابط بجوارها عبيد الله بن زياد مع جيشه الاموي. وعند نهر الخازر [40] اشتبك الجيشان في ملحمة عظيمة [41] بذل فيها الشيعة جهوداً عظيمة للسيطرة علي زمام الموقف، وقامت فرقة انتحارية منهم باختراق صفوف العدو، مستهدفة عبيد الله بن زياد فتمكنت من الوصول اليه وقتله. ثم قتل غيره من القواد الكبار،


الامر الذي أحدث بلبلة وفوضي وأدي الي هزيمة ساحقة للجيش الاموي [42] .

وهكذا اكتملت الصورة الانتقامية، وغمر الارتياح والفرح نفوس الشيعة بمقتل عبيد الله بن زياد الذي اجتز رأسه وحمل الي الكوفة ليوضع في نفس المكان الذي وضع فيه رأس الحسين يوم كان ابن زياد والياً علي المدينة. وحينذاك بلغ المختار قمة مجده السياسي، ولكنه وجد نفسه أيضاً أمام المنحدر، يتهاوي فيه بمثل السرعة التي صعد بها الي القمة. ذلك ان الانتصار الذي حققه سيد الكوفة الجديد علي الامويين - أعداء ابن الزبير - لم يخفف من حفيظة هذا الاخير نحو المختار الذي أضر كثيراً بقضيته [43] فبعد قليل من الوقت، والمختار لم يفق بعد من سكرة الانتصار، فوجئ بمصعب ابن الزبير يزحف بجيشه نحو الكوفة، وكان قد أرسل من قبل أخيه أميراً علي البصرة سنة 67 للهجرة [44] وقد شغل الاشراف المنفيون في البصرة دورهم البارز في تحريض مصعب وتعجيل الحملة التي أعدها للقضاء علي المختار.

وفي الكوفة، بدا كأن المختار لم يفاجأ بأخبار هذه


الحملة بقدر ما فاجأه التوقيت. فاستعد للامر ودخل المعركة بامكانيات محدودة، خاصة وأن قائده الشجاع ابراهيم بن الاشتر كان لا يزال في الموصل [45] لاسباب غير واضحة تماماً، وربما كانت لابراهيم مسوغاته في الابتعاد عن الكوفة والانشغال عنها بأمور غير أساسية، وأن التزامه في التحالف مع المختار كان مرحلياً ليس أكثر، وكان هذا الاخير يدرك ذلك ويري في قائده منافساً خطيراً أكثر من مجرد حليف مخلص.

وفي اثناء القتال الذي احتدم في (حروراء) [46] بين كل من الجيشين، برز تفوق الزبيريين بشكل ملحوظ وازداد ضغطهم علي رجال المختار الذين تراجعوا مهزومين، تتبعهم جنود ابن الزبير. وما لبثت أخبار الكارثة ان وصلت الي المختار الذي اعتصم في قصر الامارة بعض الوقت، غير أنه خرج يطلب الموت [47] - علي حد تعبيره - بعد أن اشتدت عليه وطأة المحاصرين، فقتل بعد مقاومة بطولية نادرة، وانطوت فكرة الحكومة الشيعية في الكوفة التي غابت معه وكان غيابها طويلاً جداً.


ان سقوط حكومة المختار في الكوفة لم يؤد الي استسلام حركة المعارضة العراقية، وانما استمرت تتصاعد ولكن بقيادات مختلفة وبأهداف ومناهج متباينة. فبعد المختار تسلم الحزب الزبيري السلطة في العراق بزعامة مصعب، مستفيداً من الظروف التي كانت خير حليف في انهاك قوي العدو وتعبئة القوي الشعبية بالكراهية ضد الامويين.

ولكن الي أي مدي سيحتفظ هذا الحزب بالسلطة ذلك هو السؤال؟ فقد أصبح النظام الاموي أكثر مناعة واجتاز أزماته العائلية والقبلية بعد وصول عبد الملك بن مروان الي الحكم وتطلع الانظار اليه حينئذ لانقاذ الدولة الاموية من انقساماتها واعادة بنائها من جديد قوية، موحدة.

وبعد أن قضي هذا الخليفة بعض الوقت في تصفية مشاكله الداخلية ومعالجة الوضع العسكري علي جبهة البيزنطيين تحول نحو معركته المصيرية مع منافسه في الخلافة وشريكه في اللقب عبد الله بن الزبير. فلما شعر باستقرار الاحوال في عاصمة الخلافة قاد بنفسه حملة عسكرية الي العراق صيف 72 هجري [48] لتوجيه ضربته الاولي


الي مصعب، فاشتبك معه في معركة طاحنة عند (دير الجاثليق) في الجزيرة [49] انتهت بهزيمة الجيش الزبيري وحلفائه من العراقيين ومقتل مصعب وقائده الشهير الذي انضم اليه ابراهيم بن الاشتر. وكان ذلك ايذاناً برجوع العراق مرة اخري الي السيادة الاموية ليستكين فترة ثم ينقض من جديد معبراً بمختلف الوسائل السلبية عن رفضه للحكم الاموي وتوقه الي التحرر والاستقلال.

وتجدر الاشارة الي أن نضال الحزب الشيعي وهو احدي فصائل المعارضة الاكثر أهمية في العراق مر بفترة من الركود النسبي وذلك لافتقاده الي المغامرين والقادة العظام في صفوفه، وفله في اغتنام الاحداث التي كان من الممكن أن تقوده الي تحقيق طموحاته السياسية لو أحسن استغلالها جيداً. وعلي ذلك ستشهد الفترة المتبقية من الخلافة الاموية تطوراً ملموساً في نظم الحزب الشيعي وعقائده، وتحولاً بارزاً في مسيرته النضالية الدائمة. ولكن هذا لم يؤد بأية حال الي تخلي هذا الحزب عن دوره الريادي في كل الثورات الرافضة التي شهدتها الارض العراقية منذ مصرع الحسين حتي سقوط الدولة الاموية نهائياً علي يد احدي الدعوات التي فرزتها الحركة النضالية الشيعية.


پاورقي

[1] الطبري: 7/66.

[2] المسعودي: مروج الذهب 3/94.

[3] «رأوا انهم لا يغسل عنهم ذلک الجرم، الا قتل من قتله او القتل فيه» مروج الذهب 3/93.

[4] ابن الاثير: 4/89.

[5] الطبري: 7/94.

[6] الطبري: 7/94.

[7] الطبري: 7/90 - 91.

[8] فلهوزن: الخوارج والشيعة 203 - 204.

[9] ابن کثير: 8/265.

[10] المسعودي: مروج الذهب 3/74.

[11] ابن کثير: 8/264.

[12] ابن الاثير: 4/89.

[13] ابن کثير: 8/268.

[14] الطبري: 7/98 - 99.

[15] ابن کثير: 8/266.

[16] ابن کثير 4/91.

[17] «اياس بن مضارب»، ابن الاثير 4/89.

[18] الطبري: 7/100.

[19] الطبري: 7/100.

[20] شبث بن ربعي.

[21] الطبري 7/103.

[22] ابن کثير: 8/267.

[23] ابن الاثير: 4/94.

[24] دائرة المعارف الاسلامية الشيعية: 2 / 59.

[25] ابن الاثير: 4/95.

[26] ابن کثير: 8/268.

[27] الطبري: 7/108 - 110.

[28] فلهوزن: الخوارج والشيعة: 215.

[29] ابن کثير: 8/268.

[30] الطبري: 7/113 - 114.

[31] الطبري: 7/115.

[32] فلهوزن: الخوارج والشيعة: 218.

[33] ابن کثير: 8/269.

[34] بيضون - زکار: تاريخ العرب السياسي 117.

[35] ابن کثير: 8/270.

[36] ابن الاثير: 4/98.

[37] الطبري: 7/120.

[38] الطبري: 7/120.

[39] جون جلوب: امبراطورية العرب 153 - 154.

[40] رافد للزاب الکبير.

[41] في الشهر الاول من سنة 67 للهجرة، ابن الاثير: 4/109.

[42] الطبري: 7/144.

[43] الطبري: 7/80 - 81.

[44] ابن الاثير: 4/112.

[45] فلهوزن: الخوارج والشيعة: 229.

[46] ابن الاثير: 4/113.

[47] قال لاصحابه وهو خارج الي القتال: ان الحصار لا يزيدنا الا ضعفاً، فانزلوا بنا نقاتل حتي الليل ونموت کراماً. ابن الاثير: 8/288.

[48] ضياء الدين الريس: عبد الملک بن مروان: 210.

[49] المسعودي: مروج الذهب: 3/107 - 109.