بازگشت

مؤتمر الزعماء الخمسة


تزعّم التحرك الشيعي حينئذ خمسة من كبار الزعماء الكوفيين، المتقدمين في السن [1] الذين ارتبطوا تاريخياً بالحركة الشيعية وهم: سليمان بن صُرد الخزاعي، والمسيّب بن نجبه [2] الفزاري، وعبد الله بن سعد بن نفيل الازدي، وعبد الله بن وال التميمي، ورفاعه بن شداد البجلي [3] وكانوا جميعاً رفاق علي ومن أشد المؤيدين له [4] ومن خلال انتماءات هؤلاء الزعماء القبلية نلاحظ أنهم يتحدرون جميعاً من أصل يماني، علماً بأن القبائل اليمانية لم تنتظم بكاملها في هذه الحركة اذ غاب عنها عدد من أقطاب اليمانية مثل كندة ومذحج وهمدان، وقد عرف عن هذه الاخيرة بصورة خاصة تعصبها الشديد للقضية العلوية.


بدأ الزعماء الخمسة يمارسون نشاطهم في الخفاء ويبشرون بدعوتهم الانتقامية في أوساط الحزب الشيعي، بعيداً عن مراقبة السلطة وجواسيسها المنتشرين في كل مكان، فكان ان أثمرت جهودهم وشكلوا منظمة سرية نواتها نحو مائة [5] من العناصر المتطرفة، لم تلبث أن تحولت الي منظمة كبري تحمل اسم التوابين، وقد صارت هذه التسمية هي الغالبة علي حركة سليمان ورفاقه، وهي أصلاً منبثقة عن الآية الكريمة التي أصبحت الشعار الرئيسي لهم وهي: (فتوبوا الي بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم انه هو التواب الرحيم) [6] .

وكان الاجتماع الاول الذي ضم هؤلاء قد عقد في منزل سليمان بن صُرد الذي وصف بأنه صحابي جليل [7] وهذا يعطينا فكرة بأنه كان متقدماً في السن رفيع المكانة في مجتمعه، وربما كان لذلك اثر في تصدره هذه الحركة واحتلاله مركز الزعامة فيها. لان المناقشات التي جرت في هذا الاجتماع أظهرت أن المسيّب كان من أبرز الخمسة وألمعهم تفكيراً وأكثرهم عمقاً. وكان سليمان يعرف في


الاصل باسم يسار، ويقال ان النبي هو الذي أطلق عليه اسم سليمان بعد اعتناقه الاسلام [8] وقد هاجر في وقت مبكراً الي الكوفة وشارك في القتال الي جانب علي لا سيما في حروب صفين، وان كان قد تخلف عنه في يوم الجمل لاسباب غير واضحة تماماً، الامر الذي جعل علياً يلومه بشدة ثم يقبل عذره فيما بعد. ومما يثير الاهتمام ان علاقة سليمان بعلي وايمانه بقضيته كانت أكثر من مجرد تحالف عادي او مرحلي. فقد كان من أقرب أعوانه وأشدهم اخلاصاً. ويُستخلص هذا من المحاورة التي جرت بينهما اثر انتهاء معركة الجمل حين بادره علي بقوله: «تربصت وتنأنأت فكيف تري صنع الله؟ فأجابه سليمان: الشوط بطين وقد بقي من الامور ما تعرف به صديقك من عدوك» [9] وبعد وفاة علي ظل علي ولائه له حيث أظهر حماسة شديدة للحسين وكان من أوائل الذين كتبوا اليه من اجل التوجه الي الكوفة وتزعم ثورتها ضد النظام الاموي [10] .

كان الاتجاه العام للمناقشات يدور حول التكفير عن الذنب والمخطط الانتقامي الذي يمكن أن يزيل عنهم الشعور بالاثم، وذلك في جو من الانفعال الشديد. والواقع انه لم يكن هناك شيء من برنامج الحركة الشيعية


السياسي او الاجتماعي او الاقتصادي علي غرار ما ظهر قبل ذلك في ثورة الحسين او ما ظهر فيما بعد من ملامح في حركة المختار الثقفي. وكان أول المتكلمين في الاجتماع المسيّب بن نجبه الذي قال: (اما بعد، فانا قد ابتلينا بطول العمر والتعرض لانواع الفتن فنرغب الي ربنا الا يجعلنا ممن يقول له غداً أو لم نعمركم يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فان أمير المؤمنين قال العمر الذي اعذر الله فيه الي ابن آدم ستون سنة. وليس فينا رجل الا وقد بلغه. وقد كنا مغرمين بتزكية أنفسنا وتقريظ شيعتنا حتي بلا الله أخيارنا فوجدنا كاذبين في موطنين من مواطن ابن بنت نبينا. وقد بلغتنا كتبه، وقدمت علينا رسله، واعذر الينا يسألنا نصره عوداً وبدءاً، وعلانية وسراً. فبخلنا عنه بأنفسنا حتي قتل الي جانبنا، لا نحن نصرناه بأيدينا، ولا جادلنا عنه بألسنتنا، ولا قويناه بأموالنا، ولا طلبنا له النصرة الي عشائرنا فيما عذرنا الي ربنا وعند لقاء نبينا صلي الله عليه وسلم وقد قتل فينا ولده وحبيبه وذريته ونسله؟ لا والله لا عذر دون ان تقتلوا قاتله والموالين عليه، أو تقتلوا في طلب ذلك فعسي ربنا أن يرضي عنا عند ذلك وما أنا بعد لقائه لعقوبته بآمن) [11] ثم أنهي كلامه بتشديده علي توحيد الصفوف ودعوة رفاقه الي انتخاب رئيس يفزعون اليه ويأخذون برأيه [12] .


وتكلم بعد ذلك زعيم آخر هو رفاعة بن شداد، فأثني علي ما جاء في خطبة المسيّب وأوصي باتخاذ سليمان بن صُرد زعيماً للحركة، مؤكداً في الوقت نفسه علي الموضوع الرئيسي للاجتماع وهو التكفير عن الذنب اذ قال:

(أما بعد فان الله قد هداك لاصوب القول ودعوت الي أرشد الامور والي جهاد الفاسقين والي التوبة من الذنب العظيم، فمسموع منك، مستجاب لك، مقبول قولك. قلت ولوا رجلاً منكم تفزعون اليه وتحفون برايته وذلك رأي قد رأينا مثل الذي رأيت، فان تكن أنت الرجل عندنا مرضياً وفينا منتصحاً وفي جماعتنا محباً وان رأيت ورأي أصحابنا ذلك ولينا هذا الامر شيخ الشيعة صاحب رسول الله وذا السابقة والقدم سليمان بن صرد المحمود في بأسه ودينه والموثوق بحزمه أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم) [13] .

وتعاقب علي الكلام عبد الله بن وال وعبد الله بن سعد فأيدا اقتراح رفاعة بتأمير سليمان الذي فاز بزعامة الحركة من منافسة المسيّب الذي بدا كأبرز المجتمعين في المؤتمر وظهر ميله الي تزعم الحركة حين كان الوحيد بين الخطباء الذي أغفل اسم سليمان بشأن الزعامة.

وتكلم سليمان بن صُرد وكان قد أصبح زعيماً


للحركة مشيراً الي عظم الرزء وضخامة المأساة، ومشدداً علي النهوض لغسل الاثم والتكفير عن فداحة الذنب والسعي في طلب الشهادة «انا كنا نمد أعناقنا الي قدوم آل نبينا، ونمنيهم بالنصر، ونحثهم علي القدوم. فلما قدموا ونينا، وعجزنا، وأدهنا، وتربصنا، وانتظرنا ما يكون، حتي قتل فينا ولد نبينا وسلالته وبضعة من لحمه ودمه... الا انهضوا، فقد سخط ربكم، ولا ترجعوا الي الحلائل والابناء حتي يرضي الله وما أظنه راضياً حتي تناجزوا من قتله او تبيروا. الا لا تهابوا الموت فوالله ما هابه امرؤ قط الا ذل. كونوا كالاول من بني اسرائيل، اذ قال لهم نبيهم: انكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا الي بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم» [14] .

والواقع ان هذه الخطبة الخطيرة وضعت الحركة موضع التنفيذ وجاءت بمثابة برنامج عام لها حيث تناولت النقاط التالية:

1 - الشعور بهول المأساة وفداحة الاثم.

2 - الاسراع باتخاذ موقف انتقامي من المسؤولين عن مقتل الحسين سواء الامويين ام المتواطئين معهم.

3 - تجسيد فكرة الاستشهاد بالتنازل عن الاملاك واعتزال النساء.


4 - الالحاح في طلب التوبة عن طريق التضحية بالنفس.

ومن خلال هذه المناقشات التي شهدها مؤتمر الزعماء الخمسة، تلاحظ انها دارت حول فكرة رئيسية هي التكفير عن الذنب، وهذه الفكرة لها جذورها البعيدة في المجتمعات العراقية الغابرة، وأصولها القديمة في ديانات ما بين النهرين، فضلاً عن الديانة المسيحية التي تسربت الي هذه المنطقة قبل مجيء العرب اليها. ولا ندري اذا كان التوابون قد تأثروا في هذا المجال بهذه الجذور التاريخية، ام ان ذلك شيء أصيل وذاتي فيهم، زاده بلورة تلك التجربة المريرة التي عاشوها في أعقاب مصرع الحسين.

انتهي المؤتمر ملتزماً بهذه المقررات الحاسمة، وملتزماً بزعامة سليمان بن صُرد أكبر الزعماء الخمسة سناً وأسبقهم في الاسلام وأوثقهم علاقة بعلي وأسرته، وكذلك أرفعهم شأناً في مكانته القبلية. وليس ثمة شك ان هذا الاختيار كان موفقاً وفي صالح الحركة، لان سليمان كان طرازاً فريداً بين رجالات الكوفة، شديد الايمان بالقضية التي رفع شعارها، مقتنعاً بضرورة الاخذ بمبدأ العنف لتصعيد حركة النضال الشيعي ضد أعدائها الامويين. «اتخذوا السيوف وركبوا الاسنة واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل حين تدعوا وتستنفروا» [15] .


فلم يكن هو، أو أحد من رفاقه ساعياً وراء مطلب خاص او مكسب شخصي، وانما كانوا طلاب قضية عامة هدفها اولاً الانتقام للحسين رأس الحركة الشيعية ورائدها في تحقيق أمانيها السياسة، وثانياً ازاحة الامويين من السلطة في الكوفة وتحويلها الي قاعدة للحكم الشيعي الذي ينبغي أن يسود مختلف أقاليم الدولة. وهذا يظهر بكل وضوح أن جماعة التوابين لم يطلبوا السلطة للتحكم، بل لتنفيذ مبدأ عام هو الاسلام. وكان بنظرهم السكوت عن ذلك وتخليهم عنه، يعتبر خيانة لقضيتهم، وتخلياً عن حق شرعي، وخرقاً لعهد الهي. ومن المهم هنا أن نشير الي ان هذه المبالغة في نكران الذات، وطرح هذه الافكار المثالية، كانا بدون شك سبب ذلك الاخفاق المتواصل للحركات الشيعية والعامل الذي ساعد النظام الاموي علي تصفيتها بكل سهولة.


وليس من باب الصدفة فقط ان يتولي قيادة هذه الحركة خمسة من الشيوخ اصغرهم قد نيف علي الستين [16] ولعل الباحث هنا يجد مدخلاً للتعرف الي جمهور الحركة ولتحديد الجيل الذي استمدت منه عناصرها بشكل عام. والارجح ان التوابين - لا سيما الذين تابعوا الشوط حتي آخره - قطعوا خريف العمر او كادوا. وهؤلاء تتجسد لديهم فكرة التوبة عادة اكثر من العناصر الشابة. ثم ان حركة من هذا النوع، اقتصر مضمونها علي التضحية والغفران الا تجتذب جمهور الشبان الملتزمين بخط سياسي واضح والمؤمنين بالتغيير. وهذا ما يفسر انصراف عدد من الزعماء الشبان في الكوفة عن هذه الحركة، كابراهيم الاشتر مثلاً الذي وجد فيها مضموناً ساذجاً وتحركاً في غير أوانه.

ولا شك ان هذا التجانس النوعي في صفوف التوابين كان له بعداً خاصاً كرس أكثر فأكثر مفهوم التضحية والفداء. فهؤلاء لم يجزعوا كثيراً علي ما تبقي من العمر بعد ان بلغوا الارذل منه وقطعوا حبل سنواته العجاف.



پاورقي

[1] فلهوزن: الخوارج الشيعة 189، الطبري 7/48.

[2] ورد في البداية والنهاية: ابن نجيه 8/247.

[3] الطبري 7/47، ابن کثير 8/247.

[4] ابن کثير: 8/247.

[5] الطبري: 7/48.

[6] القرآن الکريم: 54 البقرة 2، اليعقوبي 2/257.

[7] ابن کثير: 8/247.

[8] دائرة المعارف الاسلامية 12/171.

[9] البلاذري: انساب الاشراف، 2/272.

[10] الطبري: 6/197.

[11] الطبري: 7/48.

[12] الطبري: 7/48.

[13] الطبري: 7/48.

[14] الطبري: 7/49.

[15] من خطاب سليمان في المؤتمر، الطبري 7/49.

[16] الطبري 7/48.