بازگشت

الاحوال السياسية داخل العراق


لنعد الي الوراء قليلاً، الي بدايات التحرك الشيعي في العراق بعد استسلام هذا الأخير الي معاوية. وهو استسلام لم يكن في جوهره أكثر من استجابة للامر الواقع واعتراف اكراهي بالخلافة الاموية. فقد كانت هذه التغييرات السياسية تحمل في صميمها، الكارثة للعراقيين الذين التزموا مصيرياً بالقضية العلوية ووقفوا الي جانب علي الذي جعل من عراقهم مركز الحكم في الاسلام، بما يعنيه ذلك من أهمية سياسية واقتصادية وما يعكسه من شعور بالتفوق، أصبح الآن أكثر وضوحاً من قبل.

واذ ينقلب الموقف وتتحطم الاحلام وتنهار المكاسب، كان لا بد من تقويم لما جري ووضع الامور في نصابها. وفي غمرة ذلك وجد العراقيون أنفسهم يتحملون وزر هذا المصير الذي آلوا اليه، ويتتبعون بأسي الصورة القاتمة


لمستقبلهم السياسي في ظل السيادة الاموية. ولم يكن هنالك ادني ريب في أن أية مقارنة بين النظام السابق والنظام الجديد ليست في بال علي الاطلاق. فمعاوية ما كاد يستتب له الامر في العراق، حتي انهارت تلك الصورة الزائفة التي اقترنت بها شخصيته، القائمة علي الحنكة والدهاء.. فاذا به في العراق انساناً آخراً ونموذجاً مختلفاً.

وكان معاوية يعرف جيداً أن أقلية ضئيلة فقط بايعته ربما علي قناعة أو سعياً وراء مصلحة خاصة. أما الغالبية فقد بايعته مكرهة وتحت التهديد. وكان يعرف أيضاً أن هذه الفئة الرافضة بمختلف فصائلها ستنقلب عليه، ان لم يكن اليوم فغداً.

أخذت ملامح السياسة الجديدة للخليفة الاموي، القائمة علي التحدي والاستفزاز والمبادرة بالعنف، تتبلور بالنسبة للعراق وتوحي بأن أحداثاً خطيرة سيشهدها هذا الاقليم. فقد أرسل معاوية أحد البارزين في نظامه وهو المغيرة بن شعبة، والياً علي الكوفة ومعه صلاحيات مطلقة، وتوجيهات بشتم علي من فوق منبر المسجد، ومراقبة تحركات زعماء الشيعة وملاحقة المتحمسين منهم للقضية العلوية [1] ولقد نفذ المغيرة باخلاص تعليمات سيده،


ولكن بأسلوبه المرن الذي عرف عنه. فشغل الكوفيين بحرب الخوارج ودفع بصفوة زعمائهم الي أتونها، ليصرفهم عن مقارعة السلطة واثارة المشاكل ضدها. وقد لاقت سياسته نجاحاً نسبياً في هذا المجال، ولكن التجرؤ علي مهاجمة الخليفة الراشدي لم يستسغه الكوفيون ووجدوا فيه اهانة صريحة لهم وانتهاكاً لقيمهم ومعتقداتهم. وكان أن اصطدم المغيرة بعدد من زعمائهم كحجر بن عدي أحد أبرز رجالات قبيلة كندة الشهيرة وأول من ثار بشدة علي سياسة التجريح بالخليفة السابق، وصعصعة بن صوحان من بني عبد القيس [2] الذي نفي بأمر من المغيرة - بعد أن ضاق بمعارضته - ومات في منفاه [3] .

ورغم ما أظهره المغيرة من براعة في حكم مدينة تعج بالمتطرفين من أعداء النظام الذي يمثله، فان ذلك لم يعجب معاوية، الذي أخذ عليه تساهله مع العلويين وبشكل خاص موقفه ازاء حجر بن عدي [4] ويحلل المغيرة هذا الموقف أمام منتقديه من أقاربه وامام معاوية [5] بأنه تقدم في السن ولا يجب أن يبتدأ عمله في الكوفة بسفك دماء رجالها وقتل زعمائها [6] .


ولم يكن شأن البصرة بمختلف عن الكوفة، فهي رغم عدم مماشاتها هذه الاخيرة بنفس الحماسة في قضاياها السياسية، فان موقفها من النظام الاموي كان معروفاً ولم يتعد حدود التسليم بالامر الواقع. لذلك لم يكن عبد الله بن عامر، الوالي المعين في البصرة، الشخصية المؤهلة، بنظر معاوية، لتنفيذ سياسته العراقية. وأخذ حينئذ يبحث عن شخصية قوية يعهد اليها بحكم العراق بكامله حيث ضاق ذرعاً بسلوك المغيرة في الكوفة، فوجد أن أفضل من يقوم بهذا الدور هو زياد بن أبيه عامل علي السابق علي فارس، وكان لا يزال يحتفظ بمنصبه ويرفض الاعتراف بمعاوية. واستطاع معاوية اقناعه بالانضمام اليه وذلك بعدما استلحقه بأسرته [7] وقد شغل المغيرة دوراً بارزاً في اقناع زياد بالتخلي عن رفضه للنظام الاموي والانقلاب الي التعاون معه.

ولم يلبث زياد أن صار أميراً علي البصرة (هجري) فنجح في مهمته الي حد كبير، وأدي لمعاوية فوق ما يتطلبه من خدمات. وكانت خطبته الشهيرة (البتراء) التي فاجأ بها أهل البصرة مؤشراً لسلوكه الجديد وبرنامجاً واضحاً لسياسته العراقية المقبلة التي ستمتد علي كل العراق بعد وفاة المغيرة [8] وانتقال الكوفة اليه.


والامر الذي يثير الاستغراب بالنسبة لزياد، ذلك التحول المذهل من نقيض الي آخر. فبعد ان كان من أشد المؤيدين لعلي - الذي اختاره، لكفاءاته الادارية والسياسية، حاكماً علي فارس دون الالتفات الي تصنيفه الاجتماعي - أصبح من أشد المتعصبين تطرفاً ضد العلويين، ومنسجماً الي أبعد حدود الانسجام مع معاوية في أساليبه الانتهازية [9] ففي نفس السنة [10] التي جمعت فيها الكوفة لزياد افتتح نشاطه المعادي للشيعة بالقبض علي حجر بن عدي [11] وارساله الي دمشق حيث جرت له تصفية جسدية مع عدد من رفاقه علي يد معاوية [12] .

لم يمر استشهاد حجر - دفاعاً عن مبادئه والتزاماً بمواقفه التي رفض أية مهادنة علي حسابها - دون أن يثير موجات شديدة من الغضب في صفوف الشيعة، خاصة في الكوفة. ولم تستطع قبضة زيادة الحديدية اسكات المعارضة التي أخذت في التبلور حينئذ. وعلي عكس ذلك


فقد أدي مقتل الزعيم الكوفي الي ولادة الحزب الشيعي، بأبعاد جديدة ومفاهيم سياسية وعقائدية خاصة. وفي خلال عشر سنوات أتيح لهذا الحزب أن يعبر هذه المحنة بصبر، وأن يجتاز هذا المناخ الارهابي وهو أكثر صلابة وأقوي ايماناً.



پاورقي

[1] فلهوزن: الخوارج والشيعة 149.

[2] الطبري: 6/106.

[3] ثابت الراوي: العراق في العصر الاموي 140.

[4] الدينوري: الاخبار الطوال 236.

[5] فلهوزن: الخوارج والشيعة 149 - 150.

[6] الطبري: 6/142.

[7] تاريخ خليفة 1/241.

[8] تاريخ خليفة 1/247، سنة خمسين للهجرة.

[9] ابراهيم الابياري: معاوية 244.

[10] 51 للهجرة.

[11] محمد جواد فضل الله: حجر بن عدي الکندي، 121 وما بعدها.

[12] تاريخ خليفة: 1/251.