بازگشت

علي والخلافة


بعد مصرع عثمان، الذي أخفق في تحمل مسؤوليات الحكم بعد خليفة قوي هو عمر بن الخطاب، شغر مركز الحكم مرة أخري، وعادت الازمة من جديد تفجر صراعات وتثير تناقضات لا حد لها، وهي أزمة فاقت كثيراً في خطورتها وأبعادها الازمة الاولي التي انتهت في السقيفة. ذلك ان مقتل الخليفة في أعقاب ثورة دموية قام بها الجند العرب في الامصار، لم يكن حدثاً عادياً يمكن أن يمر دون أن يخلّف رواسب ستصبح متأصلة في جسم الدولة الناشئة، فتهدد وحدتها بين الحين والآخر، فهو حدث ترك تأثيره العميق علي مجري التاريخ الاسلامي كله، وجعل للسيف الكلمة الفاصلة في امور الحكم [1] ولعل ما ينسب الي عثمان بعد اشتداد وطأة المحاصرين علي داره يعبّر عن هذه الحقيقة حين قال: «فو الله لئن قتلوني لا


يتحابون بعدي أبداً ولا يصلون بعدي جميعاً، ولا يقاتلون بعدي عدواً» [2] .

واذا كان هدف الثوار الذين قادوا انقلابهم علي عثمان تحرير الخلافة من طغيان العائلية والاحتكار لمغانم الحكم، فانهم قضوا بحركتهم دون قصد علي آخر ما تبقي من نظام الشوري الذي تحول الي ملكية مطلقة في عهد معاوية [3] .

ظلت عاصمة الخلافة تعيش في غليان لعدة أيام، بانتظار من يخلف عثمان في الخلافة.. ولم تكن المسألة بسيطة في ظروف حرجة كهذه لان مسؤوليات ضخمة ومهمات خطيرة كانت تنتظر الحاكم الجديد وكان لا بد ان يبت بها سريعاً قبل أن يحترق بنار الحكم. وعلي ذلك لم يكن مستغرباً أن يبتعد بعض كبار السياسيين عن المدينة بعدما أدركوا خطورة الوضع، تاركين معالجة الازمة لعلي المرشح الاوفر حظاً حينئذ للخلافة والذي كان قد بدأ يمارس بعض اعمالها قبل مقتل عثمان [4] وتردد عليّ نفسه في قبول هذا المنصب حين توجه اليه الثوار وعرضوه


عليه بعدما رأوا ميل الغالبية العظمي اليه. ولكن تردده زال أمام اصرار الثوار علي بيعته وربما لشعوره بأن التهرب من الحكم في مثل هذه الظروف خيانة للامة، وللعقيدة، فقد كانت فترة حاسمة في تاريخ الاسلام، فترة في أشد الحاجة الي رجل قوي كعلي، ارتبط تاريخياً بالاسلام منذ ظهوره. وثمة شيء آخر هو ان علياً كان السياسي الذي يحظي بتأييد الغالبية في المدينة والزعيم الذي يمكن ان يتفق عليه بقية الزعماء.

اجتازت الازمة بعض خطورتها بتولية علي مهام الخلافة، ولكن الامور في عهد الخليفة الجديد سارت في اتجاه أكثر تعقيداً وأخذت الاحداث تتلاحق بصورة عجيبة. فقد كان هناك أكثر من عائق يعترض هذا الخليفة ويمنعه من القيام بمهماته لا سيما في مجال التغييرات التي كان لا بد من اجرائها لازالة رواسب الحكم السابق. فقد كان عليه أن يوجد حلاً لجميع المشاكل التي أثيرت في عهد عثمان وأدت الي مقتله.. وهذا معناه الاصطدام بعدد من كبار الصحابة ورجالات الاسلام الذين اصابوا حداً بعيداً من الثراء زمن الخليفة السابق، ومن الطبيعي أن تتعارض مصالحهم مع الخليفة الجديد المعروف عنه المثالية وشدة التصلب في الرأي.


والحقيقة ان مهمة الخليفة الجديد كانت علي جانب كبير من الخطورة، ذلك أنه لم يكن يحظي بتأييد كل القوي السياسية في الدولة يضاف الي ذلك ان بعض الذين بايعوه أخذوا يرفضّون عنه ويتطلعون كل بدوره الي الافادة من الظروف والوصول الي مكاسب معينة. ومن المدهش حقاً أن نري اثنين من الصحابة الكبار هما الزبير وطلحة اللذين ما انفكا يكيدان ضد الخليفة السابق، أول من ينقلب علي علي، ويصل الامر بهما الي اتهامه بالوقوف وراء مقتل عثمان.

بدأ علي أولي مهماته الكبيرة، بعزل ولاة الاقاليم وكانوا موضع السخط والتذمر ووضع مكانهم مجموعة جديدة تتمتع بثقة وتنسجم مع سياسته [5] وقد نفّذ الجميع أوامره الخليفة باستثناء والي الشام معاوية الذي اتخذ من قضية الخليفة المقتول عثمان ذريعة لعدم الاعتراف بعلي، فافتتح بذلك صفحة جديدة دامية في تاريخ الحرب الاهلية التي شهدها حينئذ العالم الاسلامي.

وكان علي بدوره يدرك جيداً أبعاد المشكلة ويعرف ان القضاء علي خصمه القوي المتمرس في المنطقة الشامية


ليس بالامر السهل. ولكن الشام لم تكن كل هموم الخليفة الجديد، فقد كان هناك أكثر من منتحل لقضية عثمان، تصدي لعلي وراح يزرع في دربه المتاعب. ففي الحجاز ناوءه الزبير وطلحة وكانا أصلاً من أصحاب الطموح للخلافة، وقد أيدا علياً أول الامر ثم ثاراً عليه بعد تعيين ولاة الاقاليم الجدد دون أن يكون لاي منهما نصيب [6] وانضمت عائشة التي كانت تحقد علي علي منذ أيام النبي الي فريق الساخطين بزعامة طلحة والزبير [7] وكانت غير بعيدة عن مجري الاحداث التي أودت بالخليفة السابق، ثم انسحبت الي مكة، بعد شعورها بأن علياً سيكون الخليفة، تعمل علي تجميع القوي ضده، وتستغل في نفس الوقت لعبة التشكيك بموقف الخليفة الجديد من قتلة عثمان. واجتمع الساخطون الثلاثة في مكة، ثم غادروها الي العراق بعد أن أدركوا صعوبة مناجزة الخليفة في الحجاز ونجحوا في اقناع البصرة بالانضمام الي حركتهم. ولكن هذه الحركة لم تكلف الخليفة كبير عناء، فسرعان ما خرجت قواته من المدينة (هجري / 656م) وتمكنت من إخضاع الثائرين دونما صعوبة في معركة الجمل التي سميت


بهذا الاسم نسبة الي الجمل الذي كانت تمتطيه عائشة اثناء المعركة [8] .

علي ان هذه الحركة برغم فشلها السريع، نجم عنها نتائج علي جانب من الاهمية. ذلك ان معركة الجمل أدت الي انتهاء مدينة الرسول كعاصمة سياسية وتحويلها الي مدينة ذات مركز ديني بحت واصبحت الكوفة عاصمة الدولة الجديدة خلال الفترة القصيرة التي قضاها علي في الحكم ومن ثم المركز الاول لنشاط الحزب الشيعي طوال أجيال عديدة. كما كانت معركة الجمل أول معركة في الاسلام يقودها خليفة بنفسه ضد اخوان له في العقيدة [9] وكان علي علي وهو الشديد الايمان أن يوجد حلاً لذلك ويستن تشريعاً خاصاً عرف فيما بعد بتشريع قتال أهل القبلة جاء فيه: «ليس علي الموحدين سبي ولا يغنم من أموالهم الا ما قاتلوا به وعليه» [10] .

واذا كانت حركة المعارضة الحجازية قد لاقت الفشل سريعاً في البصرة، فان حركة أشد خطورة كان علي الخليفة


محاربتها في الشام حيث معاوية العامل القوي والولاية المنضبطة والجيش المنظم.

فبعد فراغه من موقعة الجمل وجه علي من مركزه الجديد في الكوفة، الدعوة الي معاوية لمبايعته واعلان الولاء له مع التهديد بأنه سيلجأ الي قتاله اذا ما استمر في مخالفته والخروج علي ارادته [11] ولكن هذه الدعوة كما توقع الخليفة نفسه ومعه كبار معاونيه [12] اصطدمت بتصلب من معاوية واصرار منه علي تسليم المسؤولين عن مقتل عثمان. ولم يكن هذا الاصرار سوي تبريراً لخروجه علي الطاعة واخفاء لما يخطط له من وراء هذه الحملة، وهو منطق كان من الطبيعي أن يرفضه علي أو أي حاكم آخر، فهو الخليفة والمسؤول الاول، واليه يرجع المتخاصمون فيحكم ما بينهم.

وبدأت الحرب أخيراً في صيف 36 هجري / 657 م وكان سهل صفين، المدينة الفراتية القديمة مسرحاً لها، وقد شهدت عدة معارك طاحنة كان يرافقها حملات دعائية مركزة من الطرفين فضلاً عن الحرب النفسية التي كان الهدف


منها تدعيم المعنويات واكتساب أكبر عدد ممكن من عناصر الجيش الآخر. وكان سير المعارك الاولي يتجه لصالح العراقيين الذين اصبحوا علي وشك الانتصار الي أن جابهتهم المصاحف مرفوعة علي أسنة الرماح، وطرح شعار التحكيم للنظر في مسألة الخلاف بين الطرفين. فاستجاب علي وهو مكره [13] ، وتوقف القتال بعد جدل عنيف بين كبار قواده. وكان التحكيم مسرحية لتمييع الموقف أخرجها عمرو بن العاص أحد كبار البارزين في معسكر معاوية. والحق ان استعدادات معاوية لم تتم في الاطار العسكري فقط، وانما في الاطار السياسي أيضاً حيث أحاط نفسه بمجموعة من الرجالات الذين عرف عنهم الدهاء والبراعة في تغيير المواقف، ومن هؤلاء عمرو بن العاص الذي انضم الي معاوية بعد مساومات طويلة جرت بين الرجلين [14] .

وأرغم علي علي القبول تحت ضغط الاكثرية في صفوف جيشه التي كان يعوزها الانضباط وتفتقر الي روح الحماسة، فالجبهة العراقية كانت غير متماسكة وتتفجر بالتناقضات بينما كان الامر علي عكس ذلك في الجبهة


الشامية، حيث كان وقف القتال انتصاراً للشاميين دفع عنهم الهزيمة وجعل من زعيمهم معاوية في مركز الند والمنافسة لعلي في الخلافة.

وكما أرغم علي علي القبول بمبدأ التحكيم، أرغم علي اختيار ممثله في المفاوضات وهو ابو موسي الاشعري. بينما كان ممثل معاوية بطل عملية رفع المصاحف عمرو بن العاص، الذي أوصاه معاوية بقوله: «ان أهل العراق أكرهوا علياً علي أبي موسي، وأنا وأهل الشام راضون بك، وقد ضُم اليك رجل طويل اللسان قصير الرأي، فأخر الحزّ، وطبق المفصل ولا تلقه برأيك كله» [15] والتقي الحكمان بأذرح في دومة الجندل (هجري /659 م) ووضح منذ بدء المفاوضات انعدام التكافؤ بينهما، وما لبث الاجتماع ان ارفضّ دون نتيجة، وعادت الامور الي ما كانت عليه قبل التحكيم مع فارق واحد ان مركز علي أصبح أكثر تضعضعاً حيث خرج من معسكره مجموعة من اثني عشر ألفاً محتجة علي مبدأ التحكيم، رافعة شعار «لا حكم الا لله». وهي المجموعة التي عُرفت بالخوارج وكان لثوراتها فيما بعد تأثيراً كبيراً في التاريخ الاسلامي. ولقد أحدث تمرد هؤلاء ارباكاً في جيش علي اضطر هذا


الاخير ان يوقف الزحف الي الشام من أجل القضاء عليهم. وقد أدي هذا الاقتتال الجانبي الي هدر طاقات الجيش العراقي في الوقت الذي اتاح الفرصة لمعاوية ان يستفيد بتعزيز مواقعه التي تعدت الدفاع الي الهجوم.

.. وفجأة انهارت الجبهة العراقية بعد ان دأب عليّ علي ترميمها واستكمالها بعناصر متجانسة موحدة الولاء لوضع الامور في نصابها.

ولكن مشاريع الحرب التي أريد لها ان تفتح مرة أخري أبواب الصراع بين الشام والعراق، احبطها معاوية قبل ان تخرج الي النور. وفي غمار ذلك تسقط ولاية مصر المهمة بيد عمرو بن العاص - أحد أبرز المتحالفين مع معاوية في صفين - ويقتل علي غيلة في مسجد الكوفة (هجري - 661 م)، فكانت الضربة القاتلة للحزب الشيعي بغياب قائده المؤسس. وليس من العسير علي أي متتبع لشريط الاحداث حينئذ ان يلمح شبح معاوية وراء تلك المؤامرة وقد تلوثت أصابعه بالدماء. واذ أصبحت الصورة أكثر وضوحاً، تحدّد الموقف بصورة شبه نهائية لمصلحة الحزب الاموي.



پاورقي

[1] فلهوزن: تاريخ الدولة العربية، 50.

[2] ابن کثير: 7/180.

[3] بيضون - زکار: تاريخ العرب السياسي، 76.

[4] ابن کثير: 7/177.

[5] اليعقوبي: 2/155.

[6] ابن قتيبة: الامامة والسياسة 1/49.

[7] Perier Vie Dal - Hadjajadj ibn yousof, P10.

[8] قدوره: عائشة 255 - 260.

[9] لويس: العرب في التاريخ 84.

[10] الدينوري: الاخبار الطوال 144 - 145.

[11] الطبري: 5/215.

[12] ابن الاثير: 3/140.

[13] Perier Vie Dal - Hadjajadj ibn yousof, P12.

[14] الطبري: 5/232.

[15] المسعودي: مروج الذهب 2/392.