بازگشت

المقدمة


ان تاريخنا العربي حافل بالكثير من الشخصيات الفذة التي ساهمت بمواقفها البطولية وتضحياتها الرائعة في صنع هذا التاريخ. بيد أن فئة غير قليلة من هؤلاء، لم نجد لها محلاً لائقاً في مجالات التقييم والنشر، فظل بعضها مطموساً في صفحات الكتب القديمة، والآخر تناولته الاقلام بشكل عابر، فما زادت القارئ الا فضولاً والا تشويقاً لمعرفة المزيد.

وسليمان بن صُرد الخزاعي موضوع كتابنا، هو من تلك الفئة التي تكاد تكون شبه مجهولة حتي للقارئ التاريخي في كثير من الاحيان. ويرتبط اسم سليمان بثورة التوّابين التي قامت كردة فعل عفوية لمصرع الحسين في كربلاء، وانبثاقاً من الشعور بالذنب الذي غمر الكوفة حينئذ، ومحاولة للتكفير عنه بأية وسيلة.

والواقع ان حركة التوابين التي قامت بزعامة سليمان ورفاقه من قادة الحزب الشيعي، هي طراز فريد بين


الحركات السياسية العديدة التي شهدتها تلك الفترة المهمة من التاريخ العربي، ذلك انها لم تتضمن شيئاً من برنامج الحركة الشيعية السياسي او الاجتماعي او الاقتصادي علي غرار ما ظهر قبل ذلك في ثورة الحسين او ما ظهر من ملامح فيما بعد في حركة المختار الثقفي، وانما انحصرت في ظل اطار التكفير عن الذنب واتخذت من الثأر للحسين شعاراً رئيسياً لها، وانعكس عليها سلوك زعمائها المثالي وشخصياتهم المرتفعة التي زهدت بالمناصب ورفضت المساومات، ونبذت كل موقف لا يتلاءم مع المبدأ العام للحركة، الذي لخصه سليمان بالعبارة الآتية: «انه لا يغسل عنهم ذلك الجرم الا قتل من قتله او القتل فيه» [1] .

وانطلاقاً من هذا المفهوم نجد أن حركة التوابين كثورة سياسية لا تبتعد بذلك عن الخط المبدأي لحركة المعارضة الشيعية اثناء مراحلها النضالية المتلاحقة من أجل استلام الحكم. فالتخلي عن هذا المطلب - كان بنظرهم - تخلياً عن حق شرعي وخرقاً لعهد الهي. ونتيجة لذلك لم يكن طلب السلطة عندهم للتحكّم، وانما لتنفيذ مبدأ هو الاسلام. ولا ريب في أن وجود مثل هذه الافكار المثالية


كان سبباً لاخفاق الحركات الشيعية وعاملاً ساعد الامويين علي تصفيتها بسهولة.

وفي هذا الكتاب عن ثورة التوابين وزعيمها سليمان بن صرد، رأينا انه من المفيد البحث في جذور المشكلة التي كانت دافعاً لكل تحرك شيعي ضد النظام الاموي، وهي مشكلة الحكم. ورغم أن ثورة التوابين لا تدخل ضمن هذا التحرك، ولكنها تتصل به بصورة غير مباشرة باعتبارها ردة فعل لثورة الحسين، باكورة التحرك الشيعي المنظم.

ولكي نوفر لهذا البحث المعطيات اللازمة والاساسية لكل بحث موضوعي، عالجنا مشكلة الحكم في الاسلام بعد النبي وخلفياتها في مجتمع شمالي شبه الجزيرة العربية، وظهور منصب الخلافة ثم تطور مفهومه من الناحية السياسية البحتة الي الامامة. بعد ذلك تطرقنا بشيء من الاختصار الي ثورة الحسين قبل أن نتوسع في تفاصيل الحركة التوابية موضوع بحثنا.

أما المنابع التي استقينا منها عناصر هذا البحث فكانت بصورة أولية مخطوطة الفتوح لابن الاعثم الكوفي من رجالات القرن الثالث للهجرة وبعض المصادر القديمة المعروفة، فضلاً عن عدد غير قليل من المراجع الحديثة.


وأخيراً فأرجو أن أكون قد وُفقت في القاء ضوء علي شخصيات لم تنل حقها العادل في مجال التقييم، وأن أكون قد أسهمت بدور متواضع في خدمة الفكر التاريخي للعرب.

بيروت 17/9/1974

ابراهيم بيضون



پاورقي

[1] المسعودي: مروج الذهب 3 / 37 - 38.