بازگشت

الامر 2


إنّ بعض أهل التقشف يمنع من ضرب الطبول، ونفخ الأبواق، ودقّ الصنوج في المواكب وغيرها علي الكيفية المرسومة في العزاء في النجف اليوم، وذلك (أي: المنع) من الزّلاّت الناشئة عن خفاء هذه الموضوعات لديهم ولا غرو فهذه موضوعات لا يعرفها النسّاك.

الآلات الثلاث تارة يكون استعمالها علي الكيفية التي يضرب بها للّهو والطرب كما يستعمله أهله وهذا لا ريب في حرمته، وتارة لا يكون علي تلك الكيفية، كالذي يكون في الحرب، وفي العزاء المرسوم، وهذا لو كان محرّماً لكان الضرب العبثي الغير المنتظم محرّماً وذلك مما لا ينبغي لأحد أن يحتمله. ولم يذهب ذاهب ممن يُعتدّ به من فقهائنا إلي حرمة جميع أنحاء استعمال آلات اللهو فضلاً عن المشتركة بينه وبين غيره علي أي كيفية كان الاستعمال وفي أي حال وقع.

وما ورد في أخبارنا ـ كالمروي عن النوفلي عن السكوني عن الصادق (عليه السلام) من نهي النبي (صلي الله عليه وآله) عن الزفن، والمزمار، وعن الكوبات، والكبرات [1] ـ لم يحرز له إطلاق يشمل غير مورد الاستعمال اللهوي، بل الخبر الآتي وغيره قرينة علي أنّ المراد استعمال الآلات المذكورة لأجل اللهو والطرب علي الكيفية التي يستعملها أهل الملاهي. وليس المراد باللهو مطلق اللعب ـ كما لعلّه يتوهّمه من لا خبرة له ـ بل ما كان علي سبيل البطر وشدة الفرح فإنّ اللعب والعبث ـ ولو لغرض عقلائي ـ مما لم يقل بحرمته أحد ألا أن يكون شاذاً وهو مع شذوذه محجوم بالأخبار الكثيرة.

قال شيخنا الإمام (المرتضي الأنصاري) قدّس سرّه: (الظاهر أن حرمة اللعب بآلات اللهو ليس من حيث خصوص الآلة، بل من حيث إنّه لهو).

والمراد باللهو هو ما ذكرناه كما صرح به قبل ذلك وبعده.

ثم استشهد علي ذلك بشواهد منها رواية سماعة عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: لما مات آدم شمت إبليس وقابيل به، فاجتمعا في الأرض فجعل إبليس وقابيل المعازف والملاهي شماتة بآدم، فكلّما كان في الأرض من هذا الضرب الذي يتلذذ به الناس من الزفن والزمار والكوبات والكبرات فإنما هو من ذلك [2] ، ثمّ قال: فان هذا يشير إلي أن المناط هو التلهي والتلذذ.

أقول: وأنت إذا تأمّلت وجدت دق الصنج مثل التصفيق، بل هو تصفيق بآلة لا باليد ورأيت ضرب الطبل المتعارف في العزاء كضرب الطشت، ولا ريب في أنّ التصفيق والضرب بالطشت بدل الدف إذا استعملا للهو والطرب كان استعمالهما محرّماً كما صرح به الإمام الشيخ المرتضي أيضاً مع إن الطشت ليس من آلات اللهو فضلاً عن التصفيق ولا بمنصوص عليه في الأدلّة، وما ذلك إلاّ لكونه مفيداً فائدة آلاف اللهو.

وكذا الحال في الصنج والطبل إذا استعملا علي تلك الكيفية كان استعمالهما حراماً وإلاّ فلا وجه لحرمته البتة، ومن هذا القسم ما يستعمل في العزاء والمواكب والشبيه اليوم في النجف، ودعوي أنّ هذا من الملهي المطرب سخيفة جداً.

اللهو والطرب أمران يعرفهما الفُساق لا النساك ولا يقلّد فيهما المجتهد إذا كان المقلّد عالماً بهما والمجتهد محتاطاً لعدم استفراغ وسعه في البحث عن الموضوع.

وهكذا الأمر في معني (الغناء) فإني لا أستبعد أن أولئك إذا سمعوا صوتاً رخيماً وإن كان غير متقاطع ولا متناسق النغم حسبوه غناء، وهذا خطأ وأولي لهم أن يسألوا أهل الفسوق عن ألحانهم فإنّها الغناء لا غيرها.

إنّ من البديهي الوجداني أنّ ضرب الطبل ودق الصنج ونفخ البوق علي الكيفية المرسومة في العزاء اليوم في النجف مع إنها لم يقصد بها اللهو والطرب هي بنفسها لا لهو بها ولا طرب وإنما يقصد بها، انتظام الموكب، والإعلان بمسيره، ووقوفه، ومشايعة صوته لندبة أهل الموكب، فإنّ انتظامه يختلّ بخفاء أصوات النادبين، ولذلك تجدهم إذا اجتمعوا للطم في دار أو مأتم لا يضربون ولا يدقون بشيء لاستغنائهم حينئذ عن كلّ شيء.

وقد سمعت من غير واحد أنّ الصنج المتعارف الآن قد أحدثه في العزاء (العلامة المجلسي) أعلي الله مقامه في قري (إيران) ليسمع أهل القري القريبة منهم ويعلموا بإقامتهم العزاء، وكذا في البلدان الكبار لأجل تنبيه أهل المحلات جميعاً لأن الطبل الحربي الذي هو المتعارف في العزاء لا شيوع له في البلدان الإيرانية.

وهذا القدر وإن كان كافياً في إثبات الجواز لكن نظراً إلي أهمية تحقيق الحال في استعمال الآلات الثلاث المذكورة، فإني أرجع إلي البحث عنها بطور آخر:


پاورقي

[1] الوسائل: ج 17 باب 100 الحديث رقم 16 ص 313 - طبعة مؤسسة آل البيت (عليهم السلام).

الزفن: أي الرقص.

الکبر: طبل له وجه.

الکوبة: الشطرنجة... راجع العين للخليل بن أحمد الفراهيدي.

[2] الوسائل: ج 17 باب 100 الحديث رقم (5) ص 313 - طبعة مؤسسة آل البيت (عليهم السلام).