بازگشت

موكب لدم الصدور


تنتظم من الرجال مواكب وهم حفاة الأقدام حسّر الرؤوس عراة الصدور والظهور، يضربون صدورهم وربما ضربوا رؤوسهم بأيديهم وقد يذروا علي رؤوسهم التراب أو التبن وقد يلطّخ البعض رأسه بالطين تقدمهم وتحفّ بهم وهم علي تلك الحال المحزنة أعلام سود قد كتب عليها بالبياض مثل: (الحسين المظلوم) أو (العباس الشهيد) ينشدون باللغة الدارجة الأناشيد المحزنة بموادها وألحانها يخترقون الأسواق والأزقّة والجوادّ العمومية وهم علي تلك الحال المشجية، وإذا فعلوا ذلك ليلاً تصحبهم الأنوار الكهربائية أو المشاعل الموقدة بالبترول الأسود.

إنّ هذه المواكب بتلك الهيئات وهاتيك الأحوال أبلغ بلا شبهةٍ إظهار مظلومية سيد الشهداء وأشدّ تأثيراً في القلوب من البكاء المجرّد وأحكم في وصل عري الجامعة الجعفرية وجعلها كحلقة واحدة أمام العام والخاص، وأولي في صدق كون اللطم فيها إسعاداً للزهراء وصلة لسيد الأنبياء ومصداقاً لقول النبي (صلي الله عليه وآله): (يجددون العزاء جيلاً بعد جيل في كلّ سنة) [1] .

ولفحوي قول الصادق (عليه السلام): علي مثله تلطم الخدود [2] .

ولقول الرضا (عليه السلام) للريان بن شبيب: إن سرّك أن تكون معنا في الدرجات العلي فاحزن لخزننا وافرح لفرحنا [3] .

وقول علي (عليه السلام) في حديث الأربعمائة: إن الله تبارك وتعالي اطلع إلي الأرض فاختارنا واختار لنا شيعة ينصروننا ويفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا أولئك منّا وإلينا [4] الحديث.

قلت وقد يراد بالنصرة في هذا الخبر وغيره ما يشمل اللطم باليد و السلاسل ونحوه، وإذا كان صاحب (الخصائص الحسينية) يعد البكاء علي الحسين (عليه السلام) نصرة له، مدّعياً أن النصرة في كلّ وقت بحسبها، فاللطم في الشوارع أولي أن يعدّ نصرة وبذلا للنفس في سبيل أئمة الهدي.

ولا ينبغي الريب أن هذا التذكار بحدوده المرموزة ثمة من مظاهر المودة في القربي التي هي أجر الرسالة قال الله تعالي: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربي).

ولا شك أحد من عرفاء الجعفرية أنّ لدم الصدور لمصاب سيد الشهداء (عليه السلام) من الشعائر المذهبية وهذا ما لا ينكره صاحب المقالة قطعاً، ولا ريب أنّ خروج مواكب الرجال لادمةً صدورها وهي بتلك الهيئات المخزنة أدخل في تعظيم تلك الشعائر من اللطم في المآتم والدور…

وعسي أن يكون صاحب المقالة لا ينكر هذا كله، وإنما ينكر علي الجعفرية خروج المواكب لما يترتب عليه من بعض المحرمات.

قال في الصفحة 8 ما ملخصه بإصلاح مني للتعبير: (وأما لطم الصدور فلم أمنع منه ما يكون في المآتم وإنما منعتُ علناً من خروج مواكب اللطم في الأزقة، لما بلغني من ترتّب بعض المحرمات علي ذلك من فتنة وفساد ومضاربة ومقاتلة عندما يلتقي أهل محلّتين بحيث يحصل من جرّاء ذلك جرح وقتل إلي غير ذلك).

قلت: أضف إلي هذا اللازم الفاسد بزعمه أموراً: نظر النساء إلي الرجال عراة الصدور، بروز المتبرّجات والمومسات من النساء حاسرات، نظر الرجال إليهن وهن مكشفات الوجوه، صياحهن عند ذلك المنظر الهائل واستماع الرجال لأصواتهن الرقيقة و مع هذه الإضافات نقول: لا يجهل أحد من أهل العلم أن ترتب بعض المحرمات أحياناً علي خروج المواكب لا يقدح برجحانه البتة.

إنّ المحرّم المقارن ما لم يكن لازماً لذات الواجب أو عنواناً ثانوياً يتعنون به ذلك الراجح لا يوجب حرمته ولا مرجوحيته.

ولو كانت الأعراض المفارقة الاتفاقية في مورد اقترانها بالراجح توجب مرجوحيته لحرمت الصلاة في بعض الصور ومنع الحج ولكان المنع من زيارة ذلك الشهيد الأعظم الكريم علي الله تعالي أولي بالمنع لما فيها من مزاحمة النساء للرجال وبروزهن في وسط تلك المشاهد الشريفة المقدّسة مكشفات الوجوه، بل كثيراً ما يحدث فيها تخاصم فئتين متعاديتين جمعتهما البلدة للزيارة بحيث يحدث من خصامهم الضرب المؤلم والجروح الدامية، بل إزهاق النفوس البريئة. لاشك أن ما يحدث من مضاربة ومقاتلة في الزيارات أكثر مما يحدث في المواكب التي تكون مرة واحدة في السنة.

عجباً! كيف يعدّ هذا الرجل الشخوص من البلدان النائية للزيارة وبذل الأموال الطائلة في سبيلها من الشعائر المذهبية التي يجب تعظيمها ويجعلها من مظاهر المودة في القربي التي ندب إليها الكتاب والسنة ورفع شأنها إذ جعلها جزاء للنبي الأعظم علي تبليغه عن الله جلّ شأنه ولا يعدّ من ذلك هذه المواكب ا لسائرة مع اشتراك الجميع في المسنونية بالذات وفي ترتب المحرمات من غير فرق بينهما أصلاً.

لعمري إن اختراق تلك المواكب المشجية للشوارع واجتماع الجماهير من النساء والرجال - مسلمين وغيرهم - للنظر إليها هو أبلغ في إظهار مظلومية سيد الشهداء التي سن البكاء عليه لأجلها لأن به تتأثر قلوب جميع الفرق بنفس الأثر الذي تتأثر به قلوب الجعفرية فقط من اللدم واللطم في ناد خاص بهم.

ويعلم كل أحد أنّ المآتم المنعقدة لذكر رزية الحسين (عليه السلام) والبكاء لها قد يقع في كل منها في كلّّ يوم غيبة أو نميمة أو مؤامره علي باطل أو تسابّ بين اثنين أو جماعة أو إيذاء مؤمن أو هتك حرمة ونحو ذلك فكان يلزم صاحب المقالة قياماً بوظيفته الروحية أن يمنعها ويسد أبوابها ويكسر منابرها لترتب هذه المفاسد والمحرمات عليها، وما هي بأهون عند الله تعالي مما يحدث في المواكب السائرة من فتنة وفساد ومضاربة ومقاتلة، كما يقول.

إن قال: إن تلك المفاسد ليست بلازمة لذات المآتم ولا موجبة لتعنونها بكونها اجتماعاً للغيبة والتساب مثلاً.

قلنا له بمثل ذلك في الموكب اللاطم سائراً، حرفاً بحرف.

بالله عليك لو تخاصم رجلان في مجلس العزاء الموقّر - المحفوظ من كلّ مفسدة - و أدّي تخاصمهما إلي الضرب المؤلم كما يتفق ذلك فيها أكثر من اتفاقه في المواكب أو أدي إلي الجروح الدامية من باب الاتفاق فهل يصلح لعارف من الشيعة أن يمنعها بتّاً أو يحكم بأنّ ذلك النادي الذي لم يتعنون بعنوان كونه (نادي المضاربة والمقاتلة) محرّماً لا أجر لصاحبه ولا لأهله عليه بل عليهم العقاب؟!

من المحتمل أن يريد صاحب المقالة المنع من فرد خارج لم يقع في الخارج أبداً وهو الذي لا تكون له علة ولا محرّك علي الخروج إلاّ المقاتلة و هو ما تعنيه بأنه المعنون بالخروج للفساد نحو خروج جماعة من محلهم إلي الزنا واللهو أو إلي قتل النفوس.

ويدل علي ذلك قوله في الصفحة 9: نحن نأسف ونحزن إلي الغاية علي من يتعب نفسه باللطم لغير الله سبحانه فانه لو كان لله لما حصل ما ذكر...

وأنت لا يخفي عليك أنّ اتفاق وقوع المحرّم فيه لا يجعله لطماً لغير الله كما أنّ كونه لله لا ينافي حصول ما ذكر بضرب من الاتفاق وإنما الضار بالإخلاص كون المحرم أمراً غير طاعة الله جلّ شأنه.

ثم قال في الصحيفة المذكورة: (ناهيك بما يصدر من جدال وضرب وتقاتل بين أهل اللطم وغيرهم من جهلة فرق المسلمين فتكثر القتلي والجرحي من الفريقين وجميعها ناشئة من سخافة العقل وشدة الجهل ولقد صدر الكثير من هذه الفتن وحتي في العام الماضي صدر شيء منها في بغداد فقتل من قتل وحبس من حبس).

أقول: أنظر إلي هذا التهويل والكلام الشعري الخيالي الذي أظهر به هذا الرجل تلك المواكب بمظهر فئات متعادية بينها ثارات أو ألف هنات قد خرجت لأخذ الثار وإبادة بعضها بعضاً، لا شك انه عند التقائها تكون الملحمة العظمي التي تكثر بها القتلي والجرحي من الفريقين الذين هم في الحقيقة (ثوار) سمّوا أنفسهم بالمعزّين، وقائمون بأكبر (ثورة دموية) يسمونها بالعزاء، غفرانك اللهم من عاقبة هذه السفسطة التي لا مقيل لها في ظل الحقيقة أبداً، لا أقول إنّ المضاربة والمنازعة والجرح لم تحدث في موكب أصلاً، بل ربما يتفق بالسنة أو بالأكثر حدوث ذلك مرة واحدة في بلدة أو بلدتين لا أكثر، وذلك مما لا يخلّ بمسنونية تلك المواكب المقدسة، إن هذا إلاّ كما يعرض للرجل القادم علي إقامة صلاة جماعةٍ في معبد أو زيارة في مشهد أن يتخاصم مع غيره من المصلّين والزائرين جمعه وإياه المكان وربما كان تخاصمهما علي المكان نفسه فيحدث بينهما - لسخافة العقل وشدة الجهل - علي ما يقول من السباب والقذف والضرب والإهانة ما لا ريب في حرمته وعدم اقتضائه بوجه حرمة الصلاة والزيارة، إلاّّ إن يكون الخروج لذلك أو يكون معنوناً بذلك العنوان، وهذا أمر قد مرت نظائره ثمة، لكني أعدته ليعرفه الجاهل ويتدبره الصائل والجائل.

قوله: وحتي في العام الماضي صدر شيء منها في بغداد.

فالحكم بين الشيعة وبينه ثقات البغداديين في النجف فإنهم أخبروا أنه بعد طوال السنين لم يصدر في العام الماضي ألاّ ضرب رجل من غير الشيعة ضحك مستهزءاً علي مجتمعهم المحزن ولم يكن ضربه في المواكب، بل بعد انقضائه ولم يحبس بسبب ذلك الضارب نفسه وإنما حبس غيره لأغراض شخصية وليس ثمة من أمر مذهبي يكون سبباً للحبس. والسيد الناقل في رسالته حاشاه عن الافتراء، لكنه ممّوه عليه من قبل المستاءين من أعمال الجعفرية الذين يجدّون ليل نهار في إبطال هذه المراسم المذهبية لنزعة أموية أو وهابية فهم يديفون الصاب العسل ويذيقونه غير أهل الأذواق من الجعفرية.

قوله: الشريعة المقدسة والعقل السليم قاضيان بان اللطم محله المآتم دون الطرق.

فهو من التلفيقات الفارغة ونسبة ذلك إلي العقل والشريعة فرية بلا مريه.

هانحن لو عزلنا أنفسنا عن سلامة العقل فليأتنا هذا الرجل بما يدل من الشريعة علي أنّ اللطم محله المآتم لا الطرقات، كيف وهؤلاء حملة الشريعة المقدّسة وصلحاء أهل الدين منذ مئات من السنين يرون ويسمعون اللطم في الطرقات ولا ينكرون؟! هب أن هذا الرجل تأتيّ له أن يباهت الجهال بدعوي حكم الشريعة، لكن دعوي حكم العقول السليمة بذلك فرية لا تستر، ولقد كان يكفيه أن ينكر وجود دليل علي جواز اللطم في الطرقات ولا يدعي وجود الدليل علي كونها ليس محلاً له فيطالب بإثباته وأنّ له بذلك.

حقاً أقول: اللطم لا محل له أصلاً، لا الطرقات ولا المآتم لكن رزية الحسين يكون كل محلّ محلاّ لها لأنها بنفسها إذا كانت غير محدودة بحدّ، فأي برهان يحل محلها ويعينه؟! فما ذلك إلاّ عن عدم تقديرها حقها.

إنّ من الأدلة الجليّة علي أنّ اللطم لمصاب الحسنين لا يختص محله بالمآتم، بل يقام في المجامع العمومية وأنها أحسن وأوقع محالّه، ما روي عن الصادق (عليه السلام) من عدة طرق، أصحّها ما في (الكافي) عن يونس بن يعقوب، عنه (عليه السلام)، أنّه قال: قال لي أبي: يا جعفر أوقف لي من مالي كذا وكذا لنوادب يندبنني عشر سنين بمني أيام مني [5] .

إن مني في تلك الأيام هي أعظم المجامع لطوائف المسلمين القاصدين إلي مكة من كل فج، فلماذا اختار ندبته فيها؟! وهلا أوصي أن يندب في بيته أو في ميدان واسع في المدينة، أو في البقيع حيث محل قبره؟! ألست تعتقد انه يرمز بذلك إلي تنبيه الناس علي فضائله وإظهارها وليتذكر أولياؤه والعارفون به ما جري عليه، ومن مجموع ذلك تثبت عقائدهم ويدوم ذكره الجميل فيما بينهم؟!


پاورقي

[1] بحار الأنوار: ج 4 ص 292 ح 27 ب 34.

[2] التهذيب: ج 8 ص 325 ح 23 ب 4.

[3] بحار الأنوار: ج 98 ص 102 ح 3 ب 14.

[4] بحار الأنوار: ج 10 ص 114 ح 1 ب 7.

[5] بحار الأنوار: ج 44 ص 220 ح 25 ح1.