بازگشت

التمثيل


المعبّر عنه بلسان العامّة (السبايا والشبيه) وهو عبارة عن تجسيم الواقعة لحاسّة البصر بما صدر فيها من حركة وسكون وقول وفعل وهذا بما هو حكاية عن شيء غابر بشيء حاضر غير محظور ولا محذور فيه بل ربّما يرجّح علي المآتم لكونه أبلغ في إظهار مظلومية سيّد الشهداء من الأقوال المجرّدة علي المنابر وفي المجامع وأشد منها تأثيراً في القلوب، وقد أسلفنا ثمّة نبذة شافية مما يتعلق به إذا تأمّلها المنصف يذعن بأنه لا يحتاج في شرعيّته إلي برهان لقيام العلّة التي أوجبت أن يسلّم الحسين (عليه السلام) نفسه للقتل به، قيام الورد بماء الورد لا تخلص عنه ولا ينفك عنها إلا بقاسر شبه الإماتة للمذهب - هذا غير ما ينطبق عليه من العناوين المرغّب فيها من كونه إبكاء وتحزيناً واحياءً لأمر الحسين (عليه السلام) لكن السيّد الصائل حرّم كلّ تمثيل ومنع منه.

قال في الصفحة (1 و 2) من مقالته:

التشبيهات التي يمثلونها يوم عاشوراء قد صرت منوّهاً برفضها ومصرّحاً بما فيها من التحريم لأني أراها مجلبة لسخرية الملل الخارجة وداعياً من دواعي الاستهزاء. (انتهي).

أقول: إن لكل أمّة من الأمم مراسم دينية وعوائد قومية تنكرها عليهم الأمم الأخري حتي لو كانت طفيفة نحو الاختلاف بالأزياء، وذلك للمنافاة بين العوائد والمراسم والطبايع الناشي بعضها من تأثير الإقليم والبيئة التي يعيش بها الإنسان، وربما عدّ البعض مراسم البعض الآخر ضرباً من الجنون والتوحّش، وهذا لا يقتضي رفض الرسم الديني أو المذهبي أو غيرهما بين أهله، لا سيما مثل التمثيل الذي تجتني الشيعة من فوائده ما لا تجتنيه في إقامة المآتم المجردة عن التمثيل والتشبيه، ولعمري ما استهزاء الأجانب به إلاّ كاستهزاء قريش وسائر مشركي العرب بصلاة رسول الله (صلي الله عليه وآله) التي لم يعرفوا أسرارها ولم يذوقوا ثمارها، أفهل كان يلزمه أن يتركها وهي من شعائر دينه.

إنّ قريشاً لمّا سمعوا الإعلان بالأذان يوم فتح مكّة أنكروه وعدّوه فعلاً همجياً وشبّهوه بنهيق الحمار لارتفاعه وعلوه وزعموا أن لو كان اخفض من ذلك لكان أقرب إلي الوقار.

إن الدين الصحيح يجب أن لا يكون خرافياً بأساسه أو بأغب أحكامه نحو أن يكون شعبذة صرفة، أو لهواً ولعباً، أو صرف رقي وتمائم، أو دق طبول وضرب أوتار وغير ذلك، لأن ما يكون من الأديان كذلك تنفر عنه النفوس ولا تذعن له العقول.

أما إذا كان الدين - حتي بنظر الأجنبي عنه - قويم المبادئ متين الأساس كافلاً لحفظ النظام بقوانينه الوضعية وعباداته الروحية،غير أن فيه شعيرة مذهبية لادينية يعدّها الأجنبي خرافة و فعلاً همجياً وهو لا يعلم أسرارها فهل يجب رفضها بمجرد كونه يستهزئ بها؟! كلاّ وإلاّ لكان الحج أول مرفوض في الشريعة، لأن غير العارف بحكمه وأسراره يسخر به بل يعده ضرباً من الجنون والتوحش فهل يصلح للعارف أن يمنع عنه؟! كلا إنه كان اللازم علي صاحب المقالة أن يتعرف أولاً أقسام السخرية و الخرافة وأحكامها ليلحق بكل موضوع حكمه ولا يتورط.

ويعلم المسلمون والأجانب جميعاً أنّ جميع التذكارات الحسينية ليست من المجعولات بالأصالة في دين الإسلام كسائر قوانينه من صلاة، وصيام، وصدقة وإلاّ لاشترك فيها جميع المسلمين ولم تختص بالشيعة.

أما عقائد الإسلام بما هي توحيد وتنزيه لمرتبة الرب، وقوانينه الوضعية بما هي شريعة زمنية حافظة لحقوق المربوب، ليس في شيء منها ما يوجب السخرية، بل هي حافظة للنواميس الكلية التي لأجلها أرسلت الرسل وأنزلت الكتب، ومن ثمة كانت غنية عن تبشير المبشرين بها لأنها داعية بنفسها إلي نفسها ومبشّرة بذاتها إلي ذاتها.

وهذا أمر بيانه خارج عن موضوع مقالتي وإن كان مهمّاً جداً في نفسه، وعلي هذا فلا علينا إذا سخر الأغيار بتمثيلنا. إنّ علينا أن نُعرّف الأجانب براءة دين الإسلام بذاته مما هو أوقر منه لا أن نتركه و نمنع عنه.

إنّ التذكارات الحسينية جميعاً لم تسنّ كمبشّرة بالمذهب ليحصل لنا الاستياء بالسخرية منها، بل شرّعت لحفظ عقائد الجعفرية فيما بينهم لإحياء أمر أئمتهم وتلك الفائدة حاصلة لهم برغم سخرية الأغيار.

إنّ الأغيار لا يسخرون بالمواكب والتمثيل فقط، بل بالمآتم أيضاً والزيارات ولبس السواد.

وكيف لا يسخر العقلاء من اجتماع جماعة من الرجال من أهل الجلد والقوة يبكون بكاءً عالياً علي رجل منهم أو من غيرهم مات منذ مائة سنة مثلاً؟!

أجل إنّ بكاء الرجل وحده مستهجن فكيف باجتماع مائة رجل مثلاً علي ذلك؟!

ألست - أسوة بجميع العقلاء - تسفّه أحلامهم إذا شهدت مجمعهم وعلمت أنه قد آتي علي فقيدهم الذي يندبونه وينتحبون عليه نحو سنتين وهو رمة بالية؟

ألست تزيد سخرية واستهزاءً إذا رأيت اولئك الرجال بعد بكائهم وقوفا - في دار أعدوها للنياحة وصرفوا علي تنظيمها المبالغ الطائلة من المال - قد جرّدوا عنهم الثياب إلي أوساطهم وحسروا عن رؤوسهم وهم يضربون صدورهم ضرباً تدمي به صدور كثير منهم حزناً علي ذلك الفقيد الذي طحنه البلاء وأكله الثري؟

ألست تعدّها من الأفعال الوحشية الهمجية؟

أفهل يصلح لعارف من الشيعة أن يمنعها جميعاً لذلك؟

ثم إنه كان بين ظهرانينا - قبل دخول الأمم الأوروبية - عدد جمّ من غير المسلمين في كل مكان - وإنّ اختلفوا قلة وكثرة وزاد عددهم بأفراد الأمة الإنكليزية الذين لا يهمهم من أمر ديانة العناصر وعوائدهم شيئاً - ولا ينكرون علي مراسم عادية ولا عبادية، ونحن للآن ما بلغنا عن أحد منهم الاستخفاف والاستهزاء ولا شك أن صاحب المقالة لم يسمع ولم ير من أجبني قط استهزاء وأنما ينقل له ذلك المستاؤن من أعمال الجعفرية وهم علي الأغلب من أفراد (الجمعية الأمويّة) التي تحققت أنّ لها فروعاً في بغداد والبصرة وغيرهما من عواصم العراق وهم الذين يغرون أهل الدين ليقتلوه باسمه من حيث لا يشعرون.

إنّ التأثّر بتمثيل المخزن طبيعي إذ إنه لازم لذات ذلك التمثيل وإن اختلف شدة وضعفاً فكيف - وهم متأثرون حزناً أقل تأثر - يسخرون ويستهزؤن؟! اللهم إلا أن يكون التمثيل غير واقع طبق الأمر الممثّل بكل قول وفعل بحيث لا يوجب التحزين وإثارة العواطف وإلاّ فتمثيل فاجعة الطف محزنة لكل مدرك عاقل.

إنّ ذلك التمثيل المقرح للأكباد إذا سخر منه أغرار الأجانب، فإنّ العقلاء المفكّرين ربما يدعوهم ذلك إلي الفحص عمن تتمثّل فاجعته لدي العموم وتحقيق مصائبه، وأسباب حدوثها، ومن ذا أحدثها؟ ومن مهّد ذلك؟ وتلك نكتة أخري لرجحان التمثيل قد تدعو البعض إلي الفحص عن دين الإسلام أو التمذهب بالمذهب الجعفري، ولهذه النكتة بعينها سري أمر الشيعة إلي غير المسلمين من الفرق في الهند والصين، وكثر ببركته - في تلك الأماكن الشاسعة عن مراكز الشيعة - مذهب التشيّع والولاء لأهل البيت (عليهم السلام).

وقد ذكر فلاسفة التاريخ الحادث والمتعمّقين في أسرار الحوادث من الأجانب أنّ السبب الوحيد لذلك هو جعل الجعفرية طريق إقامة العزاء مشابهاً لمراسم إقامة العزاء في الهند وهو التمثيل والتشبيه.

ومن المضحك المبكي أنّ الأجانب يدركون و يذيعون أسرار إقامة المآتم و التشبيهات المتداولة عند الشيعة، وهي علي عرفاء الشيعة حقائق مخفية.!!

إنّ الأجانب في جميع أنحاء المعمورة يقيمون حفلات التذكار سنوياً لكبار الحوادث وينصبون التماثيل والهياكل في المحلات العمومية لكبراء الرجال تخليداً لذكر الرجل، والتفاتا للجاهل به إلي معرفته وما أبداه من اختراع أو بسالة في حرب، أو فتح، أو قلب سلطة، أو مظلومية متناهية في العظم عندهم، نحو مظلومية المسيح أو غير ذلك فكيف يسخرون من شيء هم فاعلوه؟!!

إن الهياكل القائمة في جميع معابدهم علي مرور الأيّام - نحو تجسيم صورة البتول العذراء (مريم) بصورة مختلفة، منها صور محزنة، وتمثيل هيكل السيد (المسيح) مصلوباً علي خشبة وغير مصلوب، وطفلاً تحمله مريم و كهلاً غير محمول - هي في الحقيقة تمثيل دائمي لا سنوي. أليس غرضهم من ذلك تخليد ذكر المسيح وظهور مظلوميته التي هي اليد القوية لاستحكام الروابط المسيحية وعدد اندراسها علي مرور الأزمان؟!!

أليس غرضهم هذا يرمز إليه تعليق الشارة المسيحية (الصليب) وساماً لصدورهم وقلادة لأعناقهم؟ فكيف يسخرون؟!

إن (الروايات التمثيلية) التي تقام في العواصم كل ليلة في محال عديدة لم يؤسّسها إلا أرباب السياسة من الأجانب إصابة لأغراضهم وهي ليست إلاّ تجسيم خيالي للحوادث الغابرة، ولو أنّهم ألبسوها لباس التفرج والانشراح لكانت موقع استهزاء وتهجين لكنهم بتفريح الطبايع جذبوا إليها قلوب العامّة. أفهل يطلب الأجانب من الجعفرية أن تطرح ذلك الثوب علي التمثيل الذي لم تقصد به إلاّ تحزين الطبايع وإبكاء النواظر وإثارة العواطف الرقيقة نحو المصاب بتلك (الفادحة) الكبري؟!!