بازگشت

شجاعة و ثبات


و كان حوار زينب مع يزيد أشد من ذلك الذي كان مع ابن زياد في الكوفة، فقد روت أختها فاطمة بنت أميرالمؤمنين عليه السلام، التي كانت ترافقها في هذه السفرة الطويلة، قالت: (لما أجلسنا بين يدي يزيد بن معاوية، قام رجل من أهل الشام أحمر فقال: يا أميرالمؤمنين، هب لي هذه - يعينيني، فارعدت و فرقت، و ظننت أن ذلك جائز لهم، و أخذت بثياب أختي زينب، و كانت أختي زينب أكبر مني و أعقل، و كانت تعلم أن ذلك لا يكون.

فقالت: كذبت، والله، و لؤمت، ما ذلك لك وله، فغضب يزيد، فقال: كذبت والله، اني ذلك لي، و لو شتئت أن أفعله لفعلت!.

قالت: كلا والله، ما جعل الله ذلك لك الا أن تخرج من ملتنا، و تدين بغير ديننا.


فغضب يزيد و استطار ثم قال: اياي تستقبلين بهذا؟ انما خرج من الدين أبوك و أخوك.

فقالت زينب: بدين الله و دين أبي و دين أخي و جدي اهتديت أنت و أبوك و جدك، قال: كذبت يا عدوة الله.

قالت: أنت أمير مسلط، تشتم ظالما و تقهر بسلطانك.

فوالله لكأنه استحيا فسكت، ثم عاد الشامي فقال: يا أميرالمؤمنين، هب لي هذه الجارية، قال: اعزب، وهب الله لك حتفا قاضيا...) [1] .

و قد كشف هذا الحوار عن شجاعة زينب الفائقة و ثباتها في الوقوف بوجه يزيد والتصدي له، مع أنه كان أكبر رأس في الدولة و أساس البلاء الذي حل بالأمة كلها و سبب المصيبة التي لحقت بالحسين و آله و أصحابه عليه السلام كما أنه، بما عرف عنه من تهور و طيش، جدير بحماقة أخري من حماقاته المعروفة.. و ربما كان باستعراضه موكب النساء والأطفال، و عرضهم بتلك الحال المزرية؛ التي توقع فيها أن يجدهم أذلاء خانعين و هم يعرضون مع رأس الحسين و أصحابه؛ يوجه رسالة للمسلمين كافة يريهم فيها أن هذا مصير كل من سيعمد الي خلافه و قتاله والخروج علي حكمه.

و اذ أنه فوجي ء بجواب زينب الحاسم للشامي الأحمر، فانه غضب وادعي أن من حقه أن يفعل ما يشاء.

و هنا يكشف عن طبيعته التي لا تتورع عن الخروج المتعمد عن الاسلام و فعل أي شي ء تزين له نفسه فعله.

و لو أنه كان يعلمه أن ذلك لن يجر عليه الوبال في النهاية، لكان قد تجرأ حتما بفعل ما لم يفعله أحد قبله، و لأعطي فاطمة بنت أميرالمؤمنين عليه السلام للشامي كسبية من دين آخر غير دين الاسلام، الا أنه علم أنه بقيامه بذلك الفعل، فانه يعلن رسميا و علنيا خروجه المتعمد عن الاسلام، هكذا أعلنت له زينب بكل وضوح: (كلا والله، ما جعل الله لك ذلك الا أن تخرج من ملتنا و تدين بغير ديننا).

و رغم أنه يعلم أن جوابها هذا و وضعها هذه الحقيقة أمامه، يقف عائقا أمام تماديه واحتمال اقدامه علي هذا الأمر المشين،فانه رأي أن ينفس عن غضبه حينما


ذكرت له ما هو دينها، و ما هي ملتها، و هو الاسلام حتما، غير أنه اسلام غير اسلامه و اسلام أبيه وجده، اسلام يرفضه، بل لا يراه.. بل انه يري أن جدها محمد صلي الله عليه و آله و سلم و أباها و أخاها عليه السلام قد كلفوهم الكثير عندما أرادوا ارساء الاسلام الحقيقي النقي، غير المزيف، و لم يسمحوا أو يتساهلوا بأية (تعديلات أو تحويرات أو اضافة أو حذف).. و أن عليا والحسين بالذات هما اللذان وقفا عقبة في سبيل المطامح الأموية و كانا حجر عثرة أمام الدين الجديد الذي أراد معاوية اقامته علي انقاض الاسلام، و هو دين يتوافق مع مصالحه و مشاريعه و طموحاته، و لا يمت للاسلام الا ببعض الشعائر و الطقوس المظهرية.

لقد ذكرته زينب بأخطائه، بل و أعلنت ذلك علي الأمة، و أنه انما يحكم باسم الاسلام الذي أقام دعائمه جدها رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و عمل علي تقويتها و ادامتها أبوها و أخوها، و أنه ان كان حقا يدعي أنه مسلم، كما ادعي ذلك أبوه وجده من قبل، و ان كانا بعيدين عن الاسلام، فان الفضل في ذلك يعود لاعلام الهدي أولئك.

و ما يملك يزيد أن يقول بعد ذلك؟ هل يستطيع رد الحجة بالحجة والقول القول؟ هل يقول لها علانية نحن ننكر دين محمد صلي الله عليه و آله و سلم مع أنهم اتخذوه بضاعة يتاجرون بها و وسيلة لغاياتهم و مآربهم؟ و أنهم لم يدينوا به الا في الظاهر؟ مع أنهم لم يدينوا به الا في الظاهر فعلا.

لو كان قد صرح بذلك علانية لألغي مبررات وجوده رأسا للسلطة التي تدعي قيامها علي أساس الاسلام و شرعيته، و لكان ذلك تصريحا بأنه قد أعلن خروجه السافر المتعمد عن الاسلام، و هو ما لم يجرؤ علي فعله طالما أنه يدعي الحكم باسم الاسلام ويجني المكاسب العديدة من وراء ذلك لم يستطع سوي أن يوجه لها الشتائم بعد ذلك، و اذ ذاك أعلمته زينب أن تصرفه ذاك لم يكن سوي تصرف رجل عاجز ضعيف يستطيل بحرسه و أعوانه و مرتزقته، - (أنت أمير مسلط تشتم ظالما و تقهر بسلطانك).

و هل يعدو الأمر أن يكون كما ذكرت زينب؟.

موقف زينب أثناء واقعة الطف و بعدها جدير بالانتباه و التأمل، فقد أثبتت في كل لحظة و في كل مرحلة من مراحل الثورة و بعد ذلك أيضا، أنها كانت بمستوي رسالة أخيها و ثورته.. و أنها لم تكن مجرد امرأة محزونة مركوبة أثقلها هول المصاب


وعظم الجريمة، بل كانت امرأة قوية ذات موقف حازم و ثابت، و قد ساهمت بلفت الأنظار الي ثورة الحسين عليه السلام ضد الانحراف الأموي المتسارع، و علمت علي تهديم ما بنته دولة الظلم، وظللت رمزا للمرأة الرسالية المؤمنة الواعية التي تدرك واجباتها و ما ينبغي عليها القيام به في كل ظرف و في كل وقت.


پاورقي

[1] الطبري 339/3 والبحار 136/45 والارشاد 231.