بازگشت

بعد الطف ويلكم يا أهل الكوفة


أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم«أقام ابن سعد في كربلاء (يومه ذلك والغد، ثم أمر حميد بن بكير الأحمري فأذن في الناس بالرحيل الي الكوفة، و حمل معه بنات الحسين و اخواته و من كان معه من الصبيان، و علي بن الحسين مريض) [1] .


و لنا أن نتصور حال النسوة المفجوعات و قد أصبن بتلك الخسارة الكبيرة، و هن يتركهن أولياءهن و اغراءهن في أرض المعركة رهن البلي والدمار بعد أن قطعت رؤوسهم و سير بها الي ابن زياد اعلانا ببشري (انتصاره) في تلك المجزرة.

و كان بامكان ابن سعد أن لا يلجأ الي ما لجأ اليه من قطع الرؤوس والتمثيل بالجثث - و هو أمر لم يكن مألوفا في ظل الاسلام - و لم يكن يسيغه أو يقبله العرب حتي في جاهليتهم، لو كان اذا ارادة حرة و موقف يتيح له التصرف بوعي بعيدا عن التبعية الذليلة لابن زياد الذي طلب منه ما طلب، و كان بامكانه أن يعتذر عن المضي بما فعله من قطع الرؤوس و التمثيل بالجثث الي النهاية بقوله: حسنا.. لقد قتلت الحسين و أصحابه امتثالا لأوامرك و لأنك تري أن هذا أمر ضروري للحفاظ علي سلامة الدولة، و هذا هو المهم في الأمر كله، و قد أديت مهمتي و لم أدع منهم أحدا، أما قطع الرؤوس و التمثيل بالجثث، فلك أن تكلف أحدا غيري يقوم بذلك، اذ لا يليق بي كقائد انضم تحت لوائه أكثر من ثلاثين ألف مقاتل أن يقوم بذلك.

غير أن ابن سعد ربما كان حاقدا علي الحسين حقد ابن زياد عليه، و لعله لم يجد في نفسه الجرأة علي مخالفة أوامره و تعليماته بخصوص قطع الرؤوس و التمثيل بالجثث، و قد أثبت بذلك، كما أثبت الجيش المشارك بالجريمة كله حقده علي الحسين و تلهفه علي الحاق الأذي به لأقصي حد ممكن، كما أثبت موقفه و موقف رجاله من نساء الحسين و أطفاله مدي ذلك الحقد الذي كانوا يضمرونه له، فقد كان بامكانهم أيضا أن لا يتعرضوا لهن بالسلب والاهانة والأذي كما فعلوا بعد ذلك، و حال مصرع الحسين مباشرة، فقد (مال الناس علي نساء الحسين و ثقله و متاعه، فان كانت المرأة لتنازع ثوبها عن ظهرها حتي تغلب عليه فيذهب به منها) [2] .

أية مهانة أشد من تلك التي عوملت بها تلك النسوة المغلوبات الضعيفات بعد الفاجعة، و قد أخذن بتلك الصورة يستعرضن أمام الأنظار الحقودة لأولئك الذين نفذوا مجزرة قتل الحسين و أصحابه.

كيف قضين ذلك اليوم و الذي بعده، و قد بقين في العراء أمام جنود ابن سعد؟


و كيف كانت رحلة العودة من كربلاء الي الكوفة و دخولهن اليها بذلك الشكل المحزن، و قد تركن أجساد الحسين و أصحابه عليه السلام وراءهن بتلك الحال؟.

لا شك ان ما شعرن به لا يمكن لأحد وصفه، فأي شي ء من تلك الحال يمكن وصفه؟.

أما وصولهن الي الكوفة - التي كن معززات مصونات فيها، أيام أميرالمؤمنين عليه السلام - فقد كان يثير مزيجا من مشاعر الألم ولاحزن والقلق مما ستتمخض عنه تلك المعاملة الأليمة من نتائج أكثر ايلاما و حزنا.

هكذا دخلن الكوفة اذا، اذ لم يقدم أحد ممن سلبهن ملابسهن و متاعهن علي ارجاعه اليهن رغم ما ذكر لنا عن طلب ابن سعد منهم ذلك، فقد ذكر أنه قال: (ألا يدخلن بيت هؤلاء النسوة أحد. و من أخذ من متاعهم شيئا فليرده عليهم، فوالله ما رد أحد شيئا) [3] .

كانت الكوفة تترقب نتيجة المعركة، و ان بدت لها تلك النتيجة متوقعة علي ضوء ما رأته من استعدادت ابن زياد و تحشيده عشرات الآلاف من الرجال لمقاتلة الحسين عليه السلام والقضاء عليه، و ربما كانت أخبار القتال والاستعدادات له تصل اليها في كل ساعة، و ربما كانت تستعد لاستقبال رأس الحسين عليه السلام و رؤوس أصحابه تستعد لاستعراض عياله و نسائه.

و كان الناس ما بين فرح مستبشر بهذه النتيجة و متألم حزين لها، و حتي الذي كان يضمر الحب له و يتمني له الغلبة علي عدوه ابن زياد، كان يريد أن يتم ذلك النصر بارادة الهية عليا، و أن ينزل جاهزا دون أن يكون لأحد يد أو مشاركة فيه.

و هكذا جاء الموكب الحزين، و بدا للناس كأنه موكب من سبايا الروم أو الديلم أو الفرس، لا موكب عائلة الرسول صلي الله عليه و آله و سلم، الذي كان ينبغي أن يقابل بالتجلة والاكرام، لا بهذه المهانة المخزية، و قد جمعت لهن احدي النساء مجموعة من الملاء والازر والمقانع.

و كان حريا بأهل الكوفة ألا يخرجوا الي الطرقات و هم يعلمون أن من سيستعرضونهم هم آل الحسين و عيالات آل أبي طالب، و قد أضافوا بخروجهم ذاك


موقفا مخزيا جديدا الي مواقهم المخزية السابقة عندما تخلوا عن مسلم و وقفوا في صف قتلة الحسين عليه السلام.

و من الطريف أن نذكر أنهم كانوا يبكون و يذرفون الدموع عندما كان الموكب يمر من أمامهم، و قد لفتت هذه الظاهرة زينب فاستغلت مرورها بتجمع كبير منهم، فأومأت اليهم أن اسكتوا ثم قالت: (الحمدلله والصلاة علي محمد و آله الطاهرين.

أما بعد، يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والعذر، أتبكون! فلا رقأت الدمعة و لا قطعت الرنة، انما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها انكاثا، تتخذون ايمانكم دخلا بينكم، و هل فيكم الا الصلف النطف والصدر الشنف (الا الصلف والعجب والشنف والكذب)، و ملق الاماء و غمز الأعداء، أو كمرعي علي دمنه أو كفضة علي ملحوده. ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم، ان سخط الله عليكم و في العذاب أنتم خالدون [4] .

أتبكون و تنتحبون! أي والله، فابكوا كثيرا، واضحكوا قليلا، فلقد ذهبتم بعارها و شنارها، و لن ترحضوها بغسل بعدها أبدا، و أني ترحضون قتل سليل خاتم النبوة، و معدن الرسالة، و سيد شباب أهل الجنة، و ملاذ حيرتكم، و مفزع نازلتكم، و مناز حجتكم (محجتكم) و مدره سنتكم، ألا ساء ما تزرون، و بعدا لكم و سحقا، فلقد خاب السعي، و تبت الايدي، و خسرت الصفقة، و بؤتم بغضب من الله، و ضربت عليكم الذلة والمسكنة، ويلكم يا أهل الكوفة، أتدرون أي كبد لرسول الله فربتم (فرثتم)، و أي كريمة له أبرزتم، و أي دم له سفكتم، و أي حرمة له انتهكتم. لقد جئتم بها صلعاء عنقاء سوداء فقماء، نأناء (خرقاء) شوهاء، كطلاع الأرض، أو مل ء السماء. أفعجبتم أن مطرت السماء دما، فلعذاب الآخرة أخزي، و أنتم لا تنصرون [5] ، فلا يستخفنكم المهل، فانه لايخفره البدار، و لايخاف فوت الثار، و ان ربكم لبالمرصاد) [6] .

و قد روي خزيم بن بشر الأسدي، و هو أحد من حضر ذلك التجمع و استمع لخطبة زينب، قال: (فوالله، لقد رأيت الناس يومئذ حياري يبكون، و قد وضعوا


أيديهم في أفواههم، و رأيت شيخا واقفا الي جنبي يبكي، حتي اخضلت لحيته و هو يقول: بأبي أنتم و أمي، كهولكم خير الكهول، و شبابكم خير الشباب و نساؤكم خير النساء، و نسلكم خير نسل، لا يخزي، و لا يبزي) [7] .

كان من شأن هذه الخطبة أن تثير في الناس فورة عاطفة يدركون معها أنهم قد أخطأوا خطأ كبيرا بحق الحسين عليه السلام و بحق رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم نفسه، و لعلهم بعد انتهاء تلك المواجهة العاصفة سيعلمون علي تقييم الأوضاع والنظر اليها مجددا و تحديد مواقفهم علي ضوء رؤيتهم الجديدة المتأملة اليها.

فالحسين عليه السلام بدا لهم الآن أنه يحمل قضيتهم جميعا و أنه كان يدافع عنهم و يريد عودتهم الي خط رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و أميرالمؤمنين عليه السلام بعيدا عن خطوط الانحراف المتشابكة الملتوية التي تركتهم في حيرة و اضطراب شديدين، و قد أدركوا أن هذا الركب الحزين الباكي، ولكن المتماسك السائر بقوة و ارادة الاسلام.. كان أقوي من جمعهم الهش المشتت، و أنهم كانوا عرضة للشر و الأذي والعدوان،) بعد أن لم تتورع دولة الظلم عن الحاق الأذي بأكبر شخصية من المسلمين و هو الحسين عليه السلام، و أنها لن تري حرمة لأي أحد منهم طالما أنها أقدمت علي استباحة حرمته.

و هنا تبدو لنا مهمة زينب أبعد من مجرد المحافظة علي النساء والأطفال و ايصالهم الي المدينة سالمين، و كانت تلك القافلة تبدو قافلة اعلامية تقوم بتعبئة الرأي العام ضد يزيد والحكم الأموي الجائر... و كان يبدو أنها تنجح في مهمتها الي أبعد حد.


پاورقي

[1] الطبري 336/3.

[2] المصدر السابق 335/334/3.

[3] المصدر السابق.

[4] اشارة لقوله تعالي في سورة المائدة الآية 80 (تري کثيرا منهم يتولون الذين کفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم و في العذاب هم خلدون).

[5] اشارة لقوله تعالي في سورة فصلت آية 16. (.. و لعذاب الأخرة أخزي و هم لاينصرون).

[6] سيرة الأئمة عليهم‏السلام - السيد محسن الأمين 143-142-2.

[7] المصدر السابق 143/2.