بازگشت

سيد القراء


كان المشهد الأول الذي رأينا فيه برير، في تلك الأمسية التي سبقت القتال، و كان الحسين عليه السلام و أصحابه يتوجهون فيها بالصلاة والدعاء الي الله أن ينقذ هذه الأمة من طغاتها و جهالها و المتسلطين عليها ظلما و قهرا... (قاموا الليل كله يصلون و يستغفرون، و يدعون و يتضرعون. و أن حسينا ليقرأ: (و لا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم انما نملي لهم ليزدادوا اثما و لهم عذاب مهين ما كان الله ليذر المؤمنين علي ما أنتم عليه حتي يميز الخبيث من الطيب) [1] .

كان مخيم الحسين تحت حراسة العدو المشددة و مراقبته الشديدة، و قد سمع أحد أولئك المكلفين بالحراسة ما كان الحسين عليه السلام يقرأ من الذكر الحكيم، فعقب عليها بكلمات ما جنة، عابثة، قال: (نحن، و رب الكعبة الطيبون) ميزنا منكم) [2] .

و اذا أن أصحاب الحسين عليه السلام تساءلوا: من عسي أن يكون هذا العابث الذي بلغت به الجرأة أن يستهزي ء بالامام الحسين عليه السلام نفسه، فان أحدهم قد عرفه، و عرف به برير قائلا له: (هذا أبوحرب السبيعي، عبدالله بن شهر) [3] ، و كان ابن شهر هذا من الطبقة الطفيلية الجديدة (مضحاكا بطالا، و كان شريفا شجاعا فاتكا، و كان سعيد بن قيس ربما حبسه في جناية) [4] ، و كان أفراد هذه الطبقة من (الأشراف) ممن


تجردوا من كل قيم حقيقية و أعلنوا انتمائهم لدولة الظلم، قد أخذوا يتكاثرون و ينتشرون.

و كان برده علي الحسين عليه السلام يمثل دور المهرج أمام أصحابه ويهمه أن يثير ضحكهم و سخريتهم حتي ولو تعرض هو للاهانة شخصيا، لقد فقد الاحساس بالكرامة شأن من يدمن العبث والبطالة و كان مستعدا لسماع أي كلام حتي ولو كان جارحا و لا يبدي أي تأثر له حتي لا يفقد صفة المهرج التي أراد أن يشتهر بها و يعرف بين الناس، و الا فأي شأن لسكير بطال باطيبين الذين أشار اليهم القرآن الكريم، يكفيه من حياته خمره و لهوه و عبثه.

لقد آثار تعليقه علي آيات الله و هزؤه بها غضب برير، فالتفت اليه قائلا: (يا فاسق، أنت يجعلك الله في الطيبين؟.

فقال له: من أنت؟.

قال: أنا برير بن خضير.

قال: انا لله، عز علي، هلكت والله، هلكت والله يا برير) [5] .

لم ينزع ابن شهر من تقريع برير له بعد أن عرفه، و لا بد أنه كان يعرف منزلته و موقعه في قومه، غير أنه أسف له، و قد رأي أنه سيقتل بعد ساعات، في صبيحة تلك الليلة التي كانا يتحاوران فيها، و قد أعرب عن أسفه ذاك صراحة أمامه، ولعله كان صادقا في أسفه في تلك اللحظة.

و رأي برير في ذلك فرصة سانحة ليعرض علي هذا الرجل أن يتوب و يلتحق بموكب الحسين عليه السلام و أصحابه و أن يتخلي عن ابن زياد، فبصيرة الاسلام جعلته يري ما لم يره هذا الرجل و ما لم يره كل السائرين بركاب الظالم، فليعرض الأمر عليه، طالما أن شعورا نبيلا قد دعاه للاعراب عن أسفه لمصرعه، و لعله أن يكون قد مل من دنيا الباطل والظلم و شبع من ملذاته و سئم منها، قال له برير: (هل لك أن تتوب الي الله من ذنوبك العظام، فوالله انا لنحن الطيبون، ولكنكم لأنتم الخبيثون.

قال: و أنا علي ذلك من الشاهدين) [6] .


و ما دام الأمر كذلك، و أبوسبيع يعلم أنه كان كذلك، و أنهم لم الخبيثون، فقد أصبحت الحجة قوية، فيلقها برير بوجه هذا العابث اللاهي، الذي قد تلوح منه بارقة أمل، و قد يهتدي في نهاية المطاف.

قال راوي هذه القصة، الضحاك بن عبدالله المشرقي، الذي كان مع الحسين عليه السلام، و أتيحت له فرصة النجاة في آخر لحظة و بعد استشهاد كل أصحاب الحسين عليه السلام، قلت لأبي سبيع: (ويحك، أفلا ينفعك معرفتك؟ قال: جعلت فداك، فمن ينادم يزيد بن عذرة العنزي، ها هو ذا معي، قلت: قبح الله رأيك علي كل حال، أنت سفيه.. ثم انصرف عنا) [7] .

بتلك الروح العابثة اللاهية المجردة من الشعور بالمسؤولية، كان يقدم الكثيرون من أصحاب ابن زياد علي ارتكاب جريمتهم النكراء، فهل كان ابن شهر و أشباهه يحاربون من أجل الدفاع عن الاسلام و وحدة المسلمين، و منعا للفتن والفرقة، كان سلوكهم الشخصي يشير الي أنهم كانوا أبعد ما يكونون عن ذلك، و كانوا معروفين بفسقهم و فسادهم، مجاهرين به.

و كان أولي بمن يريد الدفاع عن الاسلام و وحدة المسلمين أن يصلح هؤلاء، و أن يشن حربا علي ممارساتهم البعيدة عن الاسلام، غير أن من نصب نفسه خليفة علي المسلمين، كان عابثا مبتذلا، و أني له أن يصلح هؤلاء و هو لا يستطيع اصلاح نفسه، بل رأي أن الطريق الذي كان سائرا فيه هي الطريق الأمثل والأصح.


پاورقي

[1] آل عمران: 179، 178.

[2] الطبري 317/3.

[3] الطبري 317/3.

[4] الطبري 317/3.

[5] الطبري 317/3.

[6] الطبري 317/3.

[7] المصدر السابق.