بازگشت

صورة وضاءة عند الشهادة


و من اللوحة الكئيبة التي يظللها الموت، تبرز صورة وضاءة لمسلم، و قد سار الي الحسين عليه السلام. (فاذا به رمق، فقال: رحمك ربك يا مسلم بن عوسجة، (فمنهم من قضي نحبه و منهم من ينتظر و ما بدلوا تبديلا) [1] .. [2] .


لمواجهتهم توحي بأن مسلم بن عوسجة سيكون في مقدمة موكب الشهداء و أن الباقين سيكونون في الأثر.

لم يقل له انك ستظل حيا تعيش بيننا، فلم يكن الموت يخيفه، و انما الذي يخيفه أنه لن يكون قادرا علي مواصفة المسير مع الحسين عليه السلام، و كان أشد ما يسره هو أن يواجه المستقبل السعيد مع رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و آله في الجنة، و كانت كلمة الامام بلسما شافيا لجراحاته و آلامه.

و يفد عليه أصحابه، يبشرونه بالجنة و بالفوز العظيم، و كان في مقدمتهم حبيب بن مظاهر الأسدي قريبه في النسب و أخوه في الدين، و قد دار بينهما حوار جميل جدير بالتأمل، اذ كان يجري في ظرف دقيق جدا، و كان العدو يستعد لانزال ضرباته الموجعة بالجميع.

قال حبيب بن مظاهر: (عز علي مصرعك يا مسلم، أبشر بالجنة، فقال له مسلم قولا ضعيفا: بشرك الله بخير.

فقال له حبيب: لولا أني أعلم أني في أثرك، لا حق بك من ساعتي هذه لأحببت أن توصيني بكل ما أهمك، حتي أحفظك في كل ذلك بما أنت أهل له في القرابة والدين.

قال: بل أنا أوصيك بهذا رحمك الله - و أهوي بيده الي الحسين - أن تموت دونه. قال: أفعل و رب الكعبة.. فما كان بأسرع من أن مات في أيديهم) [3] و كانت وصيته الأخيرة أن يموتوا دون الحسين.

و لا ندري من أيهما نعجب، أمن حبيب الذي يعلم أنه ملاق ربه بعد قليل بموت عاجل، تخترمه سيوف أعدائه و رماحهم و نبالهم، فلا يبالي بذلك، و يكون جل همه تطيب خاطر أخيه و قريبه و تبشيره بالجنة التي وعد بها المؤمنون الصادقون، أم من مسلم الذي يموت و لا تهمه الام الجراحة والاحتضار، بل وصية هذا القريب المواسي بأن يستهشد دون امامه و قائده، و لا يهتم بكل ما عدا ذلك.

أنه يتلهف الي أن تتطلع الأمة الي كربلاء، و تري الدم المسفوح في سبيل الاسلام، و كان يعلم أن المهمة الكبيرة لاعادة الأمة الي الاسلام و تخليصها من


الانحراف الأموي و من كل انحراف مقبل لن يتم دون اراقة الدماء الزكية في كربلاء و استشهاد الكوكبة التي ضمها موكب الحسين عليه السلام، فلم ير مسلم بن عوسجة غير هذا الدين جديرا بأن يضحوا من أجله جميعا تلك التضحية الغالية العزيزة، ففيه وحده رأوا حريتهم و سعادتهم و أمنهم و مستقبلهم.

ولأجله حرصوا علي تقديم ما عجز عنه الكثيرون، الأرواح النقية، دون من رأوا أنه الجدير وحده بتخليص الأمة من متاعبها و آلامها وانحرافها المقصود المدبر، سليل الرسول المصطفي صلي الله عليه و آله و سلم و ابنه وخليفته فهو وحده الذي كان جديرا أن يتسلم الأمانة ويحافظ علي التجربة من الضياع والانحراف.


پاورقي

[1] الأحزاب: 23.

[2] الطبري 324/3.

[3] الطبري 325/3.