بازگشت

تخذيل الناس


سلاح لئيم لجأ اليه (الأشراف)

و قد كان أولئك الأشراف يعلمون أن أقصي ما قد يتعرضون له من قبل الجماهير الغاضبة، هو الضرب أو الشتم لوجودهم مع ابن زياد، و لم يكن من المرجح أن يقتلوا أو يعذبوا اذا ما حاولوا (نصيحة) الناس و حثهم علي ترك مسلم و التراجع عن ثورتهم ضد ابن زياد و دولة الظلم الأموية، و هكذا، فلم يكن يبدو أنهم يغامرون بحياتهم و مستقبلهم الي حد بعيد، و لم يكونوا يتعرضون لخطر الموت عندما قاموا بمهمة ثني الناس عن عزمهم بالاستيلاء علي القصر و تخليص هاني ء.

و لو أنهم كانوا يحتملون تعرضهم لمثل ما كان محتملا أن يتعرض له ابن زياد، لما أظهروا رؤوسهم أمام الجماهير الغاصبة و لما طلبوا منها التفرق أو تخذيلها و تحذيرها (عقوبة السلطان) و الجيش القادم من الشام، و لكانوا قد اختفوا من أمام أبصارهم.

و لعل هناك أعدادا كبيرة من هذه الجماهير تري ما يراه هؤلاء الأشراف و تتأثر بهم و تتابعهم، و لعلها حسبت أنها لن تراهم مع ابن زياد حين بلغ الأمر ذلك الحد، و لعل ذلك سيسهل مهمتها باقتحام القصر و اعلان الثورة و تخليص هاني ء. الا أن وجود الأشراف الذين لابد أن يكونوا من ذوي التأثير الكبير علي أفراد قبائلهم


و معارفهم، مع ابن زياد و قيامهم بالمهمة التي كلفهم بها، قد ساعد علي احباط مهمة مسلم و هجوم الثوار الذي لو كان قد استمر بنفس الاندفاع و القوة و الحماس و طالبوا بهاني ء حالا و استعملوا بعض الأساليب التي غالبا ما يلجأ اليها ابن زياد و أمثاله، لكانوا قد سيطروا علي القصر و علي الكوفة بأسرها و لأنقلب ميزان القوي لصالح مسلم و لا تخذت الثورة بعد ذلك مجري آخر يختلف عن ذلك الذي اتخذته.

(دعا عبيدالله كثير بن شهاب بن الحصين الحارثي، فأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج فيسير بالكوفة و يخدل الناس عن ابن عقيل، و يخوفهم الحرب، و يحذرهم عقوبة السلطان، و أمر محمد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة و حضرموت، فيرفع راية أمان لمن جاءه من الناس، و قال مثل ذلك للقعقاع بن شور الذهلي و شبث بن ربعي التميمي و حجار بن أبجر العجلي و شمر بن ذي الجوشن العامري، و حبس سائر وجوه الناس عنده استيحاشا اليهم لقلة عدد من معه من الناس) [1] .

لقد استنفر ابن زياد أشرافه و من أطاعهم من قبائلهم، لتخذيل الناس و تخويفهم و بث الاشاعا حول وصول الجنود من الشام اليهم، و قد كان أهل الكوفة يعرفون مدي حقد أهل الشام عليهم و كانت تجربتهم معهم أليمة شاقة، و قد علموا انحيازهم ضد أميرالمؤمنين عليه السلام مع معاوية و بقاءهم معه الي النهاية.

كان أهل الكوفة يعلمون أن ذكريات أهل الشام عنهم لم تكن مما يسر نفوسهم و لعلهم يطمحون الي الانتقام منهم، اذا ما أتيحت لهم فرصة حرب جديدة يشنها معاوية أو يزيد، فهؤلاء هم قتلة آبائهم و اخوانهم في صفين.

كان أهل العراق يعلمون كل ذلك، و يعلمون أن أهل الشام اذا ما وصلوا اليهم فان أقل ما يمكن ان يفعلوه بهم هو أن يبيدوهم و يبيحوا أموالهم و أعراضهم و أنفسهم... لذلك فان استعمال هذه الورقة الجديدة مع و رقتي التهديد و ورقة الرشوة و الوعود بالعطاء، قد ساعد ابن زياد الي حد بعيد في مهمته، و ساعد الأشراف علي النجاح التام في مهمتهم.


و نستعرض هنا كلام الشريف كثير بن شهاب، الذي كان أول المتكلمين و ربما كان آخرهم، حتي كادت الشمس أن تحجب، قال كثير: (أيها الناس، الحقوا بأهاليكم،و لا تعجلوا الشر، و لا تعرضوا أنفسكم لقتل، فان هذه جنود أميرالمؤمنين يزيد قد أقبلت، و قد أعطي الأمير عهدا: لئن أتممتم علي حربه و لم تنصرفوا من عشيتكم، أن يحرم ذريتكم العطاء، و يفرق مقاتلتكم في مغازي أهل الشام علي غير طمع، و ان يأخذ البري ء بالسقيم، و الشاهد بالغائب، حتي لا يبقي له فيكم بقية من أهل المعصية الا أذاقها و بال ما جرت أيديها.

و تكلم الأشراف بنحو من كلام هذا.

فلما سمع مقاتلهم الناس أخذوا يتفرقون و أخذوا ينصرفون) [2] .

و كان أهل الكوفة يعلمون أيضا أن ابن زياد اذا ما تمكن منهم، فانه سينفذ تهديداته حقا، و أنه سيلجأ الي سياسة الغشم التي تبنتها الدولة الأموية و لجأ اليها سلفه زياد، و هي سياسة قائمة علي أسس مبادي ء غير اسلامية لبناء دولة اسلامية مزورة و مشوهة، ان ذلك يعني أن تجرد عليهم الدولة الأموية كل قواها و كل جيوشها و تذيقهم كل صنوف التنكيل و العذاب و الحرمان التي سبق أن ذاقوها من قبل في ظل هذه الدلوة و التي لا يزالون يشعرون بمرارتها و آثارها.

لقد رأي أهل الكوفة كما رأي المسلمون جميعا، المبادي ء تستباح من قبل (الخليفة) الذي نصب علي هذه الأمة برغمها قائدا و اماما، و رأوها تستباح من قبل أقربائه و حاشيته و عماله و جنده، كما رأوها تستباح من قبل أشرافهم الذين انساقوا مع موجة الدولة و انجرفوا أمامها و كانوا أول المستسلمين المهزومين.

لم تكن المبادي ء هي التي تتحكم، و لم يكن الاسلام هو الذي يسود.

كشرت الجاهلية عن أنيابها ثانية، و ظهرت شريعة الغاب، شريعة القوة و الغشم و الأخذ علي الظن و الشبهة، و أخذ البري ء (بالسقيم)، و الشاهد بالغائب، و وجد كل فرد نفسه وحيدا أمام سلطان الدولة و جبروتها بعد أن صوروها و جسموها كحيوان هائل مفترس لا يتورع عن التهام كل من يقف في طريقه.
فما عسي أن يفعل أولئك الأفراد البسطاء المغلوبين المتفرقين الضعفاء أمام الهجمة الشرسة التي تشنها عليهم دولة الظلم.

لقد اندفعوا في السابق في ظل حياة سليمة، و بدافع من حماسهم و حبهم لأولئك الذين رأوا أن الحياة لا تستقيم الا معهم و أن الدين لا يطبق الا في ظلهم، و رأوا سعادتهم و مستقبلهم مرهونين باتباع خطاهم و آثارهم.. و قد شهدوا وقفة أميرالمؤمنين عليه السلام للدفاع عن الاسلام منذ أن جاءه الاسلام ضد الجاهلية و الكفر ثم ضد الناكثين و المارقين و القاسطين و كيف رفع سيفه طيلة حياته و لم يغمده الا عند استشهاده، عندما استهدفته اليه الخارجية الغادرة، و رأوا كيف تنازل الامام الحسن عليه السلام عن حقه و وقع وثيقة الصلح مع معاوية عندما تخلوا هم عنه و ساوموا عدوه، لكي يحفظ الأمة و يضمن سلامة أبنائها و هو يروي أمامه الوحش الأموي المفترس الذي لا يهمه الا التغلب علي فريسته و التهامها.

لقد حاربوا معهما، و تخلت غالبيتهم عنهما، و كان الأشراف أول من تسلل الي صفوف أعدائهما، و مع ذل ظلوا متيقنين أن منهجهما رغم تخرصات أعدائهما و الصعوبات التي أو جدوها لهما هو المنهج الاسلامي الأصيل الذي اختطه رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم.

و ظلت قلوبهم معهما و ان استدرجوا للوقوع في الفخ الأموي الذي نصب لهم بمهارة و حذق جديرين بمعاوية بطل التحريف و عبقري الشر.


پاورقي

[1] الطبري 287 / 3 و في رواية اخري.. (.. فبعث عبيدالله الي الأشراف فجمعهم اليه ثم قال: أشرفوا علي الناس فمنوا اهل الطاعة الزيادة و الکرامة، و خوفوا أهل المعصية الحرمان و العقوبة، و أعلموهم وصول الجنود من الشام اليهم) نفس الصفحة.

[2] المصدر السابق 288 / 3 و راجع بقية المصادر الأخري....