بازگشت

مشاهد و تهديدات


و تطالعنا في غمار الحوادث التي مهدت لواقعة الطف مشاهد عديدة، نري فيها فورات لأهل الكوفة و حماسا سرعان ما تخمد و تتلاشي بعيد تصاعدها و اتساعها و تأجيجها؛ و لا نحسب أن ذلك كان أمرا محيرا لمن أطلع علي تاريخ الكوفة و استهدافها بالظلم من قبل دولة الظلم كما أشرنا الي ذلك في هذه الدراسة.

فلا غرابة اذا ما رأينا خطابا من ابن زياد أو تهديدا سيكون كافيا لاسكات آلاف الأصوات الغاصبة و تراجع أصحابها، و لا غرابة اذا ما تلاشت الآلاف المحيطة بمسلم خلال ساعات قليلة بمجرد ان كشر الوحش الأموي عن أنيابه و أبدي استعداده للقتل و البطش، فلم تكن تلك الساعات الا نتاج سنوات عديدة من الظلم الدؤوب المستمر، كان ارهاب الدولة المنظم كله يعد عدته لمثل تلك السويعات القصار التي يخشي أن يختل ميزان القوي فيها، فلا يكون لصالحها، ليفتقد السيطرة الي الأبد.

و اذا ما عدنا الي بعض تلك المشاهد، رأينا في أحدها ابن زياد و قد خشي ثورة الناس عليه بعد ضربه هانئا وحبسه، و اذا استطاع عمرو بن الحجاج أن يرد عنه جموع مذحج، فمن له برد بقية الناس عنه اذا ما ثاروا و أحاطوا بقصره، (فخرج، فصعد المنبر و معه أشراف الناس و شرطه و حشمه؛ و قال: أيها الناس، اعتصموا بطاعة الله و طاعة أئمتكم، و لا تختلفوا و لا تفرقوا فتهلكوا و تذلوا و تقتلوا و تجفوا و تحرموا، ان أخاك من صدقك، و قد أعذ من أنذر)

[1] .

و لنا أن نتصور مشهدا آخر مكملا لذلك المشهد، حيث تعرض ابن زياد للحصار و القتل؛ فهنا نري الناس قد أخذوا يستمسكون و يتوحدون خلف مسلم، و قد بدت طلائعهم تفد علي المسجد، فهو اذا الهجوم المتوقع و الذي بدأ الآن، و هي الثورة الشعبية التي بدأت قبل حينها و قبل أن يستكمل مسلم استعداداته النهائية.

فما كان ابن زياد ينهي كلمته القصيرة، و لعل اقبال الثوار لم يتح له اطالتها، و ينزل عن المنبر (حتي دخلت النظارة المسجد من قبل التمارين يشتدون و يقولون: قد جاء ابن عقيل، قد جاء ابن عقيل، فدخل عبيدالله القصر مسرعا، و أغلق أبوابه) [2] .


لم يكن متع ابن زياد اذا سوي عدد محدود من الأشراف و الشرطة و الحشم، لا يغنون عنه أمام عشرين الف مقاتل حقيقي مستبسل يحمل قضية الاسلام و هموم الأمة المبتلاة كما حملها أصحاب الامام الحسين عليه السلام.

و مع ذلك فقد واجه ابن زياد جموع الكوفة بجرأة ظاهرية يحسد عليها و لم يتراجع أمامهم و بذل جهودا كبيرة لتفتيتهم و تفريق شملهم، فقد حان أخيرا قطف ثمار السعي الجاد في طريق الظلم و الارهاب؛ و هذه الجموع التي ذاقت لسعات ذلك الظلم و سياطه أصبحت تخيفها كلمة تهديد واحدة يلقيها الظالم و أعوانه من الأشراف و الشرطة و المزتزقة حتي تتراجع، بل و تقف عكس موقفها الأول تماما، فبينما كانت تؤلف جيش مسلم و غالبية أعوانه حتي أصبحت تؤلف جيش ابن زياد الذي جرده علي الحسين عليه السلام فيما بعد.

فهي تعرف أن من يعد بالشر لابد و أن ينفذ وعيده [3] ؛ و هي تعرف أن أهل الشام سيسيرون خلف يزيد لمقارعتهم و حربهم و القضاء عليهم كما ساروا من قبل خلف معاوية.

و كمع ذلك فقد كانت هذه هزيمة لابن زياد، و ربما ادرك ان الامر جدي هذه المرة، و لن تنفع معه خطبه و لا تهديداته أو وعيده.



پاورقي

[1] نفس المصدر السابق 286 / 3 و راجع بقية المصادرالسابقة التي أشرنا اليها في هذه الدراسة.

[2] المصدر السابق.

[3] و من أولئک الذين سمعت وعيدهم و تهديداتهم زياد، حاکمهم السابق و قد جاء في احدي خطبه لأهل البصرة: (لاخذن الولي بالولي، و المقيم بالظاعن، و المقبل بالمدبر، و الصحيح منکم بالسقيم، حتي يلقي الرجل منکم أخاه فيقول: انج سعد فقد هلک سعيد، أو تستقيم لي قناتکم، ان کذبة المنبر تبقي مشهورة،فاذا تعلقتم علي بکذبة فقد حلت لکم معصيتي..) الطبري 197 / 3 کما خطب في أهل الکوفة بعد أن جمعت له مع البصرة قائلا: (.. و اني و الله لا أقوم فيکم بأمر الا أمضيته علي اذلاله و ليس من کذبة الشاهد عليها من الله و الناس أکبر من کذبة امام علي المنبر..) الطبري 219 / 3.

کما خطب ابن ‏زياد في أهل البصرة قائلا: (فو الذي لا اله غيره، لئن بلغني عن رجل منکم خلاف لاقتلنه و عريفه وليه، و لآخذن الدني بالاقصي حتي تستمعوا لي و لا يکون فيکم مخالف و لا مشاق، أنا ابن ‏زياد، أشبهته من بين من وطي‏ء الحصي لم ينتز عني شبه خال و لا ابن عم) و خطب في أهل الکوفة بعيد وصوله اليها: (.. فأنا لمحسنکم و مطيعکم کالوالد البر، و سوطي و سيفي علي من ترک أمري الطبري 281 / 3 و خالف عهدي، فليبق امرؤ علي نفسه، الصدق ينبي عنک لا الوعيد) الطبري 286 / 3.