بازگشت

لا يدركون أن في الحياة ظلما


لقد رأينا، عند الحديث عن أشراف الكوفة و (وجوه الناس)، الذين شكلوا طبقة الظلمة المستضعفين علي حد تعبير القرآن الكريم، أو أعوان الظلمة علي حد تعبير أميرالمؤمنين عليه السلام [1] ، الدور الذي لعبه هؤلاء في ظل التركيبة الاجتماعية المستحدثة التي ظهرت في عهد معاوية و مطلع الدولة الأموية، لترسيخ هذه الدولة و تثبيت قواعدها و أسسها، ورص صفوف الناس حولها و ابعادهم عن قيم الاسلام الحقيقية و آل البيت عليهم السلام، و استعرضنا العملية الضخمة التي قام بها معاوية بمؤازرة هؤلاء لنقل ولاء الناس، من الاسلام وقادته الحقيقيين رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم و آله عليهم السلام، الي شخصه و الي أفراد عائلته و في مقدمتهم ابنه زيد، و سعيه الدؤوب طيلة سبع سنوات لتثبيت مركز يزيد كوفي للعهد و قائد مرشح للأمة الاسلامية من بعده.

و رأينا كيف استدرج الأمة بخطوات منسقة متصاعدة لتقبل انحرافها و تقبل وجود يزيد و أمثاله علي رأس الدولة الاسلامية خليفة لرسول الله صلي الله عليه وآله وسلم نفسه.

و كان من الطبيعي أن يجد معاوية، بعد أن استدرج فئات الأشراف، ذات النفوذ و الثروة و الرأي الي جانبه و وظفهم في خدمته و جعلهم يتبنون نظرياته و اطروحاته و أساليبه في الحكم و الحياة، في سائر الناس الآخرين، المستضعفين، المفرغين من الثروة و النفوذ و الجاه و العلم، مادة خصبه لتمرير مخططاته و زرع ما يريد زرعه في هذه الطبقة الواسعة، و التي جعلها أكثر اتساعا من ذي قبل، و التي لا تعي طبيعة و سبب وجودها و حياتها، و التي لا تكرس اهتماماتها الا للأمور اليومية، المعاشة البسيطة و لا تتطع الي أبعد من مواطي ء أقدامها. فهي مشلولة، محدودة الادراك مقيدة الي اهتماماتها البسيطة، مسلوبة الادراك و الشعور في أغلب الأحيان، مسيرة من قبل غيرها، و (غيرها) هنا هم (الأشراف) ذوو الاتصال المباشر بالسلطة، فهم وحدهم


أصحاب القوة و المؤهلات لقيادة المجتمع و التأثير فيه، كما أنهم يقفون علي رأس التركيبات الهرمية البسيطة التي تشكلها عموم القبائل، لتكون فيما بعد التركيب الهرمي الكبير، المعقد نسيبا، للدولة التي هي كل شي ء و فوق كل شي ء.

و قد رأينا أن السياسية الأموية سادت منذ البداية علي تقريب المتنفذين من رؤساء القبائل و بعض الوجهاء و الشخصيات و رشوتهم بالأموال و المناصب، و خلق مراكز قوي حتي داخل هذه القبائل لزعزعتها و اضعافها و تغيير ولاءات افرادها للدولة و رموزها بشكل مباشر.

ان من شأن التركيبات الادارية المستحدثة في المدن مثل نظام الارباع و أجهزة الشرطة، و الشرطة السرية (العيون) و العرفاء و النقباء و قادة الجند و غيرهم، أن تعمل علي تفتيت مجتمع المدينة المتألف من قبائل عديدة و تجعل منه مجتمعا خاضعا للادارة و الرقابة المباشرة للدولة و تجعل من الفرد غير مدين بالولاء حتي لقبيلته التي أخد يبعتد عنها بعض الشي ء و ينشغل عنها باهتماماته المعيشية اليومية المحدودة، و اذا ما أضفنا الي ذلك التنافس و التناحر المقبليين اللذين غالبا ما يؤجج أوارهما رئيس النظام نفسه بخطط منظمة مدورسة، أدركنا الي أي حد أصبحت القبائل و أشرافها و زعماوها أداة رخيصة بيد السلطة تتلاعب بها كيف تشاء.

ان الفرد العادي في غمرة انشغاله بأمور حياته البسيطة و همومها المتكررة و حاجاته اليومية يفقد الشعور بأية اهتمامات أخري تصل الي حد مناقشة الأمور العامة و مشاكل الأمة، كما يفقد حتي احساسه و شعوره بالظلم، و يتصرف بشكل آلي معاد مكرور مشابه لتصرفات الآخرين من أشباهه، كما يفقد الشعور و الاهتمام بكل مثل أعلي ما عدا المثل الأعلي الواطي ء القائم أمامه، و هو القوة التي يري أنها تسيره و تتحكم به و في مصيره و معيشته، و هو هنا رأس الدولة (فرعون) الذي يراه شاخصا أمامه كأئنا هائلا يتمتع بامكانات غير محدودة و قادرا علي محوه و استئصاله أو رفعه و جعله ذا شأن اذا ما كان (مخلصا) في خدمته و تحقيق أهدافه و مآربه.

ان هؤلاء يشكلون الطائفة الثالثة في عملية التجزئة الفرعونية لمجتمع الظلم، فهذه الطائفة تتشكل من (أولئك الذين عبر عنهم الامام علي عليه السلام «بالهمج الرعاع»، لا تدرك أنها مظلومة، و لا تدرك أن في المجتع ظلما؛ هي الآن تتحرك تحركا آليا، تحرت التبعية و الطاعة دون تدبر، دون وعي، سلب فرعون منها تدبرها، عقلها، وعيها، ربط يدها به، لا عقلها به، و لهذا فهي تحرك يدها تحريكا آليا، و تستسلم


للأوامر، للأوامر الفرعونية، دون أن تناقشها، حتي دون أن تتدبرها، حتي بينها و بين نفسها، لا بينها و بين الآخرين.

هذه الفئة طبعا تفقد كل قدره علي الابداع البشري في مجال التعامل مع الطبيعة، تفقد كل قابليات النمو لأنهاتحولت الي آلات، اذا وجد أن هناك ابداع في هذه الفئة، انما هو ابداع من يحرك هذه الآلات، ابداع تلك الفرعونية التي تحرك هذه الآلات، و أما هذه الفئة، فلم تعد أناسا و بشرا يفكرون و يتدبرون، لكي يستطيعوا أن يحققوا لونا من الابداع علي هذه الساحة، قال الله سبحانه و تعالي: (و قالوا ربنآ انا أطعنا سادتنا و كبرآءنا فاضلونا السبيلا) [2] لا يوجد في كلام هؤلاء ما يشعر بأنهم كانوا يحسون بالظلم أو كانوا يحسون بأنهم مظلومون، و انما هو مجرد طاعة، مجرد تبعية) [3] .


پاورقي

[1] راجع عناصر المجتمع - الشهيد الصدر.

[2] الاحزاب 67.

[3] عناصر المجتمع - المدرسة القرانية 232 - 231.