بازگشت

الكذب لا يضر بشرف الشريف


و قد تمادي اشراف الكوفة بعد ذلك الي أبعد حد، فراحوا يضيفون الكذب الي امجادهم و فضائلهم! و قد رأينا كيف أنكروا دعوتهم الحسين عليه السلام الي الكوفة و وعدهم اياه بالنصر و أنه يقبل علي جند مجندة له، و كان ذلك أمام الجيش كله الذي ربما كان بعض أفراده مطلعين علي مراسلاتهم للحسين عليه السلام.

كانت مواقفهم كلها تفيض بأكاذيبهم المعلنة و غير المعلنة، لم يجدوا أي حرج منها ما داموا يحفظون بها حياتهم و يحققون المزيد من المكاسب و الارباح و الفوائد.

و قد أضافوا الي أكاذيبهم الكثيرة كذبة أخيرة، حاولوا أن يشوهوا بها الصورة المشرقة التي ظهر بها الحسين عليه السلام و أصحابه خلال المعركة، فلم يسجل أحد، حتي أعداؤهم أنفسهم - أن الحسين عليه السلام أو أحد أصحابه قد خاف أو تردد أو أحجم عن القتال، و لم يذكر لنا أحد أن الحسين عليه السلام قد تنازل أمام ابن زياد أو ابن


سعد، أما روايتهم ليزيد، فقد كانت تناقض ما صرحوا به ورووه هم في عشرات الروايات الأخري التي تحدثوا فيها عن استبسال الحسين عليه السلام و أصحابه. فكيف يهرب و يلوذ بالآكام و الحفر من لم يكن أحد (اربط جاشا و لا أمضي جنانا و لا أجرأ مقدما منه، و الله ما رأيت قبله و لا بعده مثله؛ ان كانت الرجالة لتنكشف من عن يمينه و شماله انكشاف المعزي اذا شد فيها الذئب) [1] .

و هل يهرب من يهازل صاحبه و هما يتزاحمان للاطلاء بالنورة قبيل نشوب المعركة، و يكاد يطير فرحا و هو يخاطب صاحبه: (و الله اني لمستبشر بما نحن لا قون، و الله ان بيننا و بين الحور العين الا أن يميل هؤلاء علينا باسيافهم، و لوددت أنهم قد مالوا علينا بأسيافهم) [2] .

و هل يهرب من كان مثل زهير بن القين، و هو يخاطب الجيش المعتدي قبل بدء القتال بهذه الكلمات القوية الواثقة: (ان الله قد ابتلانا و اياكم بذرية نبيه محمد صلي الله عليه وآله وسلم لينظر ما نحن و أنتم عاملون، أنا ندعوكم الي نصرهم و خذلان الطاغية عبيدالله بن زياد، فانم لا تدركون منها الا بسوء عمد سلطانهما كله، ليسملان أعينكم، و يقطعان أيديكم و ارجلكم، و يمثلان بكم، و يرفعانكم علي جذوع النخل، و يقتلان أماثلكم و قراءكم) [3] .

و من يخاطب الشمر بقوله: (أفبالموت تخوفني! فو الله للموت معه [مع الحسين عليه السلام] أحب الي من الخلد معكم) [4] لاشك أنها فرية كبية أن يقول أحد بعد ذلك أن أي أحد من أصحاب الحسين عليه السلام قد خاف ذلك المشهد الرهيب و قد أحاط بهم عشرات الالاف من الأعداء و انهم لم يقاتلوا و انما لاذوا بالاكام و الحفر علي حد تعبير مندوب ابن زياد الشريف زحر بن قيس.


لقد رويت لنا عشرات الروايات عن مواقف أصحاب الحسين عليه السلام و ارجوازتهم و هم يقاتلون أعداءهم فلم يذكر أي مؤرخ أن أحدا منهم قد خاف أو تخاذل أو تراجع أو طلب الامان، أو تخلي عن الحسين عليه السلام؛ بل ان سباقهم للموت بين يدي الحسين عليه السلام لم يساوه الا سباق أصحاب رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم بين يديه في بدر، بل ان حماس أصحاب الحسين عليه السلام و اسبتسالهم امتد ليشمل حتي النساء و الأطفال، و لعلنا سنستعرض عند الحديث عنهم بعض تلك المواقف الفريدة التي لم نشهد لها مثيلا طوال تاريخنا الاسلامي و تاريخ الشعوب و الأمم كلها.

كانت شهادة الشريف زحر بن قيس الذي كان يراقفه الشريف شمر بن ذي الجوشن أمام يزيد تناقض نفسها، فبينما يقول في القسم الأول منها: (أبشر يا أميرالمؤمنين بفتح الله و بنصره، ورد علينا الحسين بن علي في ثمانية عشر من أهل بيته و ستين من شيعته، فسرنا اليهم، فسألناهم أن يستسلموا و ينزلوا علي حكم الأمير عبيدالله بن زياد أو القتال، فاختاروا القتال علي الاستسلام) [5] و هي شهادة تدل علي أن الحسين عليهم السلام و أصحابه قد قرروا القتال و رفضوا الاستسلام رغم مواجهتهم جيش ابن زياد الضخم و هو قرار بدا أن لا رجعة فيه... يقول في القسم الثاني: (فعدونا عليهم من شروق الشمس فأحطنا بهم من كل ناحية، حتي اذا أخذت السيوف مأخذها من هام القوم، جعلوا يهربون الي غير وزر، و يلوذون منا بالآكام و الحفر، لواذا كما لاذ الحمائم من صقر، فوالله يا أميرالمؤمنين ما كان الا جزر جزور أو نومة قائل حتي أتينا علي آخرهم، فهاتيك أجسادهم مجردة، و ثيابهم مرملة، و خدوهم معفرة، تصهرهم الشمس، و تسفي عليهم الريح، زوارهم العقبان و الرخم بقي سبسب) [6] و هو أمر فندته الاحداث و الوقائع، فالمعركة قد استمرت حتي بعد صلاة الظهر و ربما دامت حتي العصر، حيث أدي الحسين و أصحابه عليهم السلام الصلاة في وقتها المحدد، و قد جرت مبارزات فردية أي كل واحد منهم فيها دورا بارزا و قتل عدة أفراد من الجيش الذي أحاط بهم، و قد بلغت خسارة الجيش مبلغا رأي فيه قادته أن المبارزة الفردية ستلحق بهم أفدح الخسائر و أنه لابد من اتباع أسلوب الهجوم الشامل بعد أن


(قاتلهم أصحاب الحسين قتالا شديدا، و أخذت خيلهم تحمل، و انما هم اثنان و ثلاثون فارسا، و أخذت لا تحمل علي جانب من خيل أهل الكوفة الا كشفته) [7] .

حتي استنجد قائد فرسان ابن سعد به قائلا: (أما تري ما تلقي خيلي مذ اليوم من هذه العدة اليسيرة، أبعث اليهم الرجال و الرماة) [8] .

لقد بلغ من أمر اسبتسالهم و أقدامهم ان أحد قادة ابن سعد، عمرو بن الحجاج، ناشد الناس ألا يبرزوا اليهم، و قد رأي ابن سعد رأي قائده هذا.

(صاح عمرو بن الحجاج بالناس: يا حمقي، أتدرون من تقاتلون، فرسان المصر، قوما مستميتين، لا يبرزن لهم منكم أحد، فانهم قليل، و قلما يبقون، و الله لو لم ترموهم الا بالحجارة لقتلتموهم، فقال عمر بن سعد: صدقت، الرأي ما رأيت، و أرسل الي الناس يعزم عليهم الا يبارز رجل منكم رجلا منهم) [9] .

كان زحر يحسب أنه بذلك يسر سيده و يرضيه اذا ما بالغ ببطولة قادته و جسارتهم المزعومة أمام الحسين عليه السلام و أصحابه، و هو الأمر الذي دعا الحسين و أصحابه علي حد زعمه لكي يهربوا و يلوذوا بالحفر و الآكام، و حسب أنه بذلك يقدم وصفا شائقا ليزيد و ما علم أنه يضيف الي جريمة القتل رذيلة الكذب، ليذكره الناس بعد ذلك و هم يلوون برؤوسهم اشمئزازا من رائحة الكذب المنفردة المقيته، فللكذب رائحة كريهة تظل و لو بعد الوف السنين تزكم الانوف و تخدش المسامع.

و لعل هذه الرواية قد وضعت علي لسان زحر بعد ذلك، و هو أمر كان يسره حتما. ليبين اعلام الدولة فيها، ان عداءها غير جادين حقا بمواقفهم، و أنهم بمجرد أن يتعرضوا لسطوة الدولة و سلطانها، فانهم سرعان ما ينهزمون و ينكسرون، حتي أن القضاء عليهم لا يستغرق الفترة التي تستغرقها فترة ذبح ناقة أو شاة.

و هو تحذير لمن تحتمل أن يثور علي سلطانها في المستقبل خصوصا و ان الرواية قد حفلت بوصف دقيق للحسين و أصحابه عليهم السلام بعد قتلهم، و هو ما يرجح انها موضوعة عمدا.



پاورقي

[1] عن عبدالله بن عمار بن عبد يغوث البارقي، و هو ممن شارک في الجيش الذي قتل الامام عليه‏ السلام الطبري 334 / 3.

[2] و هو برير بن حضيره الطبري 318 / 3.

[3] الطبري 319 / 3.

[4] المصدر السابق.

[5] الطبري 325 - 338 / 3 و ابن الاثير 437 / 3.

[6] نفس المصدر السابق.

[7] نفس المصدر السابق.

[8] نفس المصدر السابق.

[9] الطبري 324 / 3 و ابن الأثير 423 / 3.