بازگشت

لا بأس من العذر..


ما دام يرضي الأمير حاول الشريفان محمد بن الاشعث و أسماء بن خارجه بالتعاون مع الشريف عمرو بن الحجاج الزبيدي اقناع هاني ء بن عروه للمثول بين يدي ابن زياد، رغم ما في ذلك من مخاطر محتملة، و أقسما عليه أن يذهب معهم مؤكدين له أن الخير كل الخير في ذلك و ان ابن زياد لم يرد به الا خيرا، و كانت نتيجة استدراجهم، الايقاع به في فخ ابن زياد.

و حاول الشريف مسلم بن عمرو الباهلي اقناعه بتسليم مسلم بن عقيل بحجة أن هذا الرجل، و يقصد به مسلم ابن عم القوم، و ليسوا بقاتليه و لا ضائريه. و هو يعلم أن الأمر علي العكس من ذلك تماما، (يا هاني ء اني انشدك الله أن تقتل نفسك و تدخل البلاء علي قومك و عشيرتك، فو الله اني لأنفس بك عن القتل - و هو يري أن عشيرته ستحرك في شأنه - أن هذا الرجل ابن عم القوم، و ليسوا قاتليه أو ضائريه، فادفعه اليه، فانه ليس عليك بذلك مخزاة و لا منقصة انما تدفعه الي السلطان) [1] .

ان الباهلي لا يري أمامه الا قوة السلطان و لا يري وراءها قوة، و هو يعتقد ان استجابته العمياء حتي و لو كان مناقضة لقوانين الاسلام ليس فيها مخزاة و لا منقصة، فالسلطان هو القوة الوحيدة التي يجب أن تطاع.

و قد عمل هذا السلطان (ابن زياد) علي اهانة أحد الاشراف أسماء بن خارجه،


(فأمر به فلهز و تعتع به، ثم ترك فحبس) [2] لمجرد أنه اعترض علي حبس هاني ء و ضربه بعد ان استخدم هو وسية لجلبه للقصر، و قد عمل ذلك علي تأديب بقية الأشراف و منهم محمد بن الاشعث الذي قال بعد أن رأي فعل ابن زياد بصاحبه (قد رضينا بما رأي الأمير، لنا كان أم علينا، انما الأمير مؤدب) [3] و بذلك يعلن استسلامه الكامل للسلطان أو الأمير، مهما فعل، فالأمير مؤدب. و هو و أمثاله قد يحتاجون لمن يؤدبهم.

أما عمرو بن الحجاج ثالثهما، فرغم ما كان يتمتع به من نفوذ بين قومه الذين ربما دفعوه الي الذهاب للقصر لتخليص هاني ء من ابن زياد، و كان يستطيع تغيير الموقف كله لوجد في نفسه الارادة الصادقة لفعل ذلك؛ فقد اسمع ابن زياد كلمات بدت كأنها كلمات اعتذار عن موقفه و قد أتي بقومه، و بدا كأنه مكلف بالحديث نيابة عنهم و حسب، و كان حريا به و قد أتي بتلك الجموع ان يطالب باخراج هاني ء اليه لا أن يكتفي بسماع كلمات مطمئنة عن وجوده حيا، أقبل ابن حجاج في مذحج (حتي أحاط بالقصر و معه جمع عظيم، ثم نادي: أنا عمرو بن الحجاج، هذه فرسان مذحج و وجوهها، لم تخلع طاعة و لم تفارق جماعة، و قد بلغهم أن صاحبهم يقتل، فاعظموا ذلك) [4] .

و لو أنه نادي أنا عمرو بن الحجاج، و هؤلاء قومي، و قد بلغنا أن صاحبنا يقتل فاخرجوه الينا، لكان بذلك قد بلغ رسالة واضحة صارمة، غير أنه بكلماته هذه عزل نفسه عن قومه، و أوحي اليهم أنه انما كان يبلغ كلماتهم و حسب، و أنه قد يكون غير مقتنع بموقفهم.. انه مهزوم بداخله أمام ابن زياد، حتي و ان امتلك قوة قد تفوق قوته عشرات المرات في تلك اللحظة التي لم يكن فيها مع ابن زياد سوي عدد ضئيل من الاشراف و الشرطة و الاعوان و الخدم.

و لم يأنف (الشريف) شريح القاضي - رغم أنه قاض - من شهادة الزور ظالما أنه يرضي بها سيده الذي لقنه تلك الشهادة المزورة التي سيرمي بها في وجوده المحتجين من مذحج بقيادة عمرو بن الحجاج الذي كان مستعدا لسماع أي عذر


للانسحاب بقومه و التراجع عن القصر... خرج اليهم شريح قائلا: (ان الأمير لما بلغه مكانكم و مقاتلكم في صاحبكم أمرني بالدخول عليه، فاتيته فنظرت اليه، فأمرني أن القاكم، و ان أعملكم انه حي، و ان الذي بلغكم من قتله كان باطلا.

فقال عمرو و أصحابه: فأما اذ لم يقتل فالحمدلله، ثم انصرفوا) [5] .

صحيح أن هاني ء لم يقتل حتي تلك اللحظة و لكن، ألم يكن معرضا للقتل بعد أن ضرب ذلك الضرب المؤلم من قبل ابن زياد نفسه. و قد هدده أن يقتله فعلا؟ و تم هذا الامر تحت سمع القاضي و بصره؟

فكيف تمت شهادة القاضي الشريف؟ و كيف يستطع تبريرها أمام الناس و هو يعلم حكمهم عليها مسبقا؟

انه لم يستطع سوي ترديد أقوال بدا أنه لم يجد سواها، (فخرجت اليهم و معي حميد بن بكير الاحمري، أرسله معي ابن زياد، و كان من شرطه ممن يقوم علي رأسه، و أيم الله لو لا مكانه معي، لكنت أبلغت أصحابه ما أمرني به) [6] .

و بعذره هذا يعترف بشهادته المزورة و يدين نفسه الي الأبد.


پاورقي

[1] الطبري 285 / 3 و ابن الاثير 392 / 3.

[2] الطبري 286 / 3 - و ابن الاثير 393 / 3.

[3] المصدر السابق.

[4] المصدر السابق.

[5] الطبري 286 / 3 و قد ورد في 276 / 3 قوله: (لا بأس عليه، انما حبسه الامير ليسأله و ورد في طبعة اخري قوله (.. ما هذه الرعة السيئة، الرجل حي، و قد عاتبه سلطانه بضرب لم يبلغ نفسه فانصرفوا و لا تحلوا بانفسکم و لا بصاحبکم فانصرفوا). 203 / 6 و ابن الاثير 393 / 3.

[6] المصدر السابق.