بازگشت

اشراف الكوفة


خضراء الدمن في دولة النفايات

كان أشراف الكوفة من أولئك الاشراف، و كانوا مثلهم نتاجا غير طبيعي لدولة غير طبيعية، و كانوا كخضراء الدمن في دولة النفايات و الدمن، يلوحون وجها مشرقا زاهيا، غير أنه عرضة للذبول و الاضمحلال لأدني هبة ريح لكي تحل نبتة خضراء جميلة محل نبتة خضراء جميلة أخري، سرعان ما تذوي دون أن تترك رائحة أو أثرا الا رائحة الدمن و النفايات.


و كان أولئك الاشراف ينغلون في جسم الدولة الاموية المترهلة و ينتشرون و يتكاثرون و يموتون و يعودون للتكاثر و الانتشار، بالسرعة التي انتشر فيها أمثالهم و تكاثروا في الدولة الرومانية المنقرضة، الذين أصبح شرفهم مضرب المثل للانتهازية و الاباحية و الابتذال و الفجور، و الذين ملكوا كل شي ء الا الشرف الحقيقي، و بالسرعة التي تنتشر فيها الارانب و الفئران في بيئة مناسبة لنموها و تكاثرها.

أصبح وجود الاشراف أمرا واقعا، فرض حضوره علي المجتمع الاسلامي، فأصبحت تسمية (الشريف) لا تعني ما كان ينبغي أن تعنيه في المفهوم - الاسلامي، اذ قد يكون الانسان الشريف - وفق هذا المفهوم، هو الذي يتمع بمستوي خلقي رفيع و وضع اجتماعي يتيح له تحقيق خدمات كبيرة للآخرين، و الذي يتمتع بمميزات استثنائية تجعله جديرا بهذا اللقب، لا أن يكون مرادفا للبطالة و اللهو و العبث و التسلط و الانتماء لدولة الظلم و أعوانها.

و اذا ما اخترنا هذا النص الذي يرد فيه وصف عفوي عرضي لرجل (شريف) من جند ابن سعد كان يقوم بمراقبة معسكر الحسين عليه السلام ليلة المعركة و كان يحاول أن يسخر من الحسين و أصحابه عندما كانوا يقرأون القرآن و يحيون الليل بالصلاة و العبادة، و هو وصف وصفه به لأحد أصحاب الحسين (بريد بن خضير) من عرفه قال: (فعرفته.. قلت هذا أبو حرب السبيعي عبدالله بن شهر، و كان مضحاكا بطالا، و كان شريفا شجاعا فاتكا - و كان سعيد بن قيس ربما حبسه في جناية - فقال له برير بن خضير: يا فاسق، أنت يجعلك الله في الطيبين؟

فقال له: من أنت؟ قال: أنا برير بن خضير. قال: انا لله، عز علي هلكت و الله يا برير.

قال: يا أبا حرب، هل لك أن تتوب الي الله من ذنوبك العظام - فو الله انا لنحن الطيبون.

و لكنكم لأنتم الخبيثون. قال: و أنا علي ذلك من الشاهدين، قلت: ويحك، أفلا ينفعك معرفتك، قال: جعلت فداك، فمن ينادم يزيد بن عذره العنزي، ها هو ذا معي، قال: قبح الله رأيك علي كل حال، أنت سفيه، ثم انصرف عنا) [1] .


لم تكن لفظة شريف هنا ترادف ما يمكن أن يفتخر به حقا، و لم تكن تعني الا أحد عناصر طبقة استجدت و توسعت و نمت بشكل طفيلي علي حساب المجتمع.. و لم يكن مما يخل بالشريف كونه مضحاكا بطالا فاسقا شاربا للخمر أو فاتكا أو سائرا. بركاب الظالمين... فالمجتمع قد أخذ يتساهل الي الحد الذي كان يعتبر أمثال هذا الشخص شريفا لمجرد أنه كان مقربا من أحد المقربين من السلطة، و لم يكن يجهد نفسه بالعمل و الكدح.

و ربما كان الشريف مرفوعا الي انتهاج المسلك الانتهازي بدافع المنافسة مع الأشراف الآخرين الذين يتفتون في وسائل ارضاء الدولة و كسب عطفها و التقرب اليها.

ان تساهل الدولة بالمثل و القيم و الأخلاق الاسلامية و اعتبارها أمرا ثانويا لا أهمية له الا من الناحية الشكلية، سهلت مهمة الاشراف و وضعت عنهم الشروط التي كان ينبغي توفرها فيهم بنظر الاسلام ليكونوا مؤهلين للتصدي لقيادة الشرائح الاجتماعية المختلفة و توجيهها و تزعمها و أخذ الأدوار البارزة فيها.

لقد كان معاوية نفسه رغم تستره بالدين يتبجح صراحة بأنه كان يشتري من الاشراف دينهم [2] ، و كانت أغلبيتهم لا تأنف من الدخول في مساومات لقاء تقديم تنازلات و خدمات لدولة الظلم الاموية.


پاورقي

[1] الطبري 317 / 3.

[2] (و قد الاحنف بن قيس و جارية بن قدامة... و الجون بن قتادة.. و الحتات بن يزيد.. الي معاوية بن أبي‏سفيان، فأعطي کل رجل منهم مائة الف، و أعطي الحتات سبعين ألفا، فلما کانوا في الطريق سأل بعضهم بعضا فأخبروه بجوائزهم، فکان الحتات أخذ سبعين الفا، فرجع الي معاوية، فقال: ما ردک يا أبا منازل؟ قال: فضحتني في بني‏تميم، أما حسبي بصحيح؟ أو لست ذا سن؟ أو لست مطاعا في عشيرتي؟ قال معاوية: بلي. قال: فما بالک خسست بي دون القوم؟ فقال: اني اشتريت من القوم دينهم و کلتک الي دينک و رأيک في عثمان بن عفان - و کان عثمانيا - فقال: و أنا فاشتر مني ديني، فأمر له بتمام جائزة القوم) الطبري 211 / 3 و لا يخفي أن معاوية کان يري الأمر أمر مساومة علي الدنيا... و لم يأنف الحتات من الدخول في هذه المساومة...