بازگشت

المهزوم يتوقع اعتذار القوي


المنتصر / المفاوضات

علي أن حماقة ابن سعد تبرز بمحاولته تجاهل سبب قدوم الحسين عليه السلام الي العراق، و كأنه لم يكن يعيش في الكوفة و يعاصر أحداثها و يدرك السبب الحقيقي وراء ذلك، و لأنه كان ضعيفا محاصرا، فقد كان يتوقع اعتذارا من الامام (المحاصر) بتصوره. كان يتوقع أن يتنازل الامام عليه السلام أمام ابن زياد و أمامه هو و يطلب العفو و المسامحة بعد أن وجد نفسه مواجها للآلاف من أعدائه، و بذلك يوفر له فرصة حسم المسألة سلميا عندما يتيح له أخذه الي ابن زياد ليري فيه رأيه و ليتحمل هو تبعات تصرفاته معه.

و قد روي أنه حاول أن يبعث الي الامام من يسأله عن سبب قدومه (فعرض ذلك علي الرؤساء الذين كاتبوه، فكلهم أبي و كرهه) [1] فهل كانت حركة هؤلاء الرؤساء الذين أبوا الذهاب الي الامام لسؤاله، بعد أن كانوا قد شاركوا بالكتابة اليه و دعوته


للقدوم تخفي علي ابن سعد؟ و هل كان من الذلة و الهوان - رغم أنه قائد الجيش - بحيث لا يستجيب له هؤلاء الرؤساء المرؤوسون و ينفذوا أوامره بالذهاب الي الامام عليه السلام و سؤاله؟ و هل لم يدرك هو هوانه و ضعفه حتي أمام مرؤوسيه؟.

و أخيرا وجد من يتطوع لاداء هذه المهمة، مهمة سؤال الامام عن سبب مقدمه، الا أن أسلوبه الفج و سلوكه الفظ جعلاه يفشل في الاقتراب من الامام عليه السلام، غير أنه وجد شخصا آخر كلفه بذلك، هو قرة بن قيس الحنظلي، الذي ابلغ الامام رسالة ابن سعد.

وقد أجابه الامام عليه السلام اجابة مختصرة تنطوي علي حجة قوية (كتب الي أهل مصركم هذا أن أقدم، فاما اذا كرهوني فأنا انصرف عنهم) [2] .

و بما معظم رؤساء أهل المصر الذين كاتبوه كانوا ضمن الجيش الذي أرسل لقتاله يتزعمون بقية الجند و عامة الناس، فان عليهم أن يلتحقوا به، و لا تحملوا السمؤولية التاريخية امام الله و أمام أجيال المسلمين اللاحقة.

ألم يكن هو سيتحمل مسؤولة خذلانهم و انكسارهم لو لم يلب دعوتهم؟

أما كانوا سيقولون و تردد الاجيال بعدهم: ان الامام قد خذل الامة بعد أن استعدت لمقاومة الانحراف، و دعته الي القدوم لتزعم الحرمة المناوئة للدولة الاموية؟.

أما و قد تراجع أولئك الذين دعوه و انكشفوا امام الامة كلها، فان اقل ما سيطلبه الامام منهم هو أن يتركوه لينصرف عائدا.

و رغم علم الامام عليه السلام أنهم لن يلبوا طلبه هذا، الذي ربما كان من باب القاء الحجة عليهم، فانه فعل ذلك ليحملهم مسؤولية التخاذل و التراجع، و يحمل كل المهزومين و المتخاذلين علي مر التاريخ مسؤولية الهزائم التي تتعرض لها الامة بسببهم.

كانت الأمور كلها تشير الي ادراك الامام و معرفته ان الجيش الذي جردته الدولة لمحاربته لن يرجع حتي يؤدي المهمة التي كلف بها، و انه لابد مقتول في النهاية، و قد أشرنا في عدة مواضع من الكتاب الي ذلك.


و ليس أدل علي يقين الامام و أصحابه عليه السلام أنهم بمواجهة معركة حاسمة مع جيش ابن زياد، دعوة أصحاب الحسين مبعوث ابن سعد للانضام اليهم في هذه المعركة.

قال له حبيب بن مظاهر: (ويحك يا قرة بن قيس! اني ترجع الي القوم الظالمين! انصر هذا الرجل الذي بآبائه أيدك الله بالكرامة و ايانا معك، فقال له قرة: أرجع الي صاحبي بجواب رسالته و أري رأيي) [3] .

كان حبيب متيقنا من المعركة المقبلة، و ان القوم لن يتركوهم حتي يقاتلوهم، و كان نصر الحسين عليه السلام بنظره يعني نصر قضيته، نصر الاسلام بمواجهة الانحراف حتي و ان أدي ذلك الي قتل جميع المنتصرين للاسلام، و غلبة أعدائهم في ساحة القتال، و هذا أمر لا يستطيع فهمه الا أولئك الذين فهموا الاسلام فهما واعيا و انحازوا اليه انحيازا تاما.

ما كان قرة سيغني لو انتصر للامام الحسين و قضيته؟ انه لن يمنع عنه القتل، غير أن انحيازه سيعني ان القضية وجدت لها نصيرا آخر لم يتردد عن التضحية بحياته في سبيلها، و سيكون موقفه لو فعل ذلك حافزا لاجيال المسلمين فيما بعد للوقوف نفس الموقف دفاعا عن الاسلام و قضاياه العادلة و استقامة و وضوحه. و من هنا كانت أهمية موقف الحر فيما بعد لم يقل له الحسين عليه السلام أنك سبب المصائب التي حلت بنا مدركا أنها لم تحل لهم لأسببا شخصية و غايات خاصة، بل رحب به، لأن ذلك الرقم الصغير المضاف الي العدد الصغير من أصحاب الحسين قد جعل بانحيازه في ذلك الظروف الدقيق، أهمية لقضية الاسلام، فهل كان الحر يتوقع في ذلك الظرف سوي القتل؟ و مع ذلك لم يتردد في الانضمام الي الحسين عليه السلام لأنه بذلك استطاع أن يقول ا عجزت عنه الملايين من أبناء الامة الخاضعين المستكينين للانحراف و الظلم، و أن يكون موقفه الفريد نجاحا محققا بادراك الركب الرسالي الذي اخفقت الأمة اداركه و الالتحاق به، و ان يكون ذلك الموقف رسالة واضحة لأجيال الأمة بأن الحق رغم أن دربه موحش و أصحابه قليلون الا أنه مبين و واضح و ان دربه سالك و ان كان مليئا بالمصائب و العوائق، و ان الباطل باطل رغم كثرة اعوانه و رواده و أصحابه.


و ربما لم يفكر ابن سعد - حتي ذلك الوقت - بتزوير أقوال الحسين عليه السلام معتقدا أن المسألة كلها يمكن أن تسوي سلما، و قد أرسل لابن زياد رسالة يعلمه فياه بموقف الحسين عليه السلام و جوابه، (أما بعد، فاني حيث نزلت بالحسين، بعثت اليه رسولي، فسألته عما أقدمه، و ماذا يطلب و يسأل، فقال: كتب الي أهل هذه البلاد، و أتتني رسلهم، فسألوني القدوم ففعلت، فأما اذا كرهوني فبدا لهم غير ما اتتني به رسلهم فأنا منصرف عنهم) [4] .

و لا يختلف مضمون هذه الرسالة عن الجواب الذي ذكره الامام عليه السلام لابن قرة، كما روي لنا ذلك معظم المؤرخين.

و قد أكد توقعات الامام الحسين عليه السلام و أصحابه أنهم مقبلون علي مواجهة ساخنة مع الدولة الاموية المنحرفة.. و ان هذه الدولة ستستغل فرصة وجود الامام عليه السلام مع قلة من أصحابه بمواجهة جندها و جيوشها لتقدم علي قتلهم قتلة شنيعة يقصد منها ارهاب بقية الناس لكيلا يقدموا علي عمل مماثل في المستقبل.

فقد أجاب ابن زياد عندما قري ء علي كتاب ابن سعد قائلا:



(الآن اذ علقت مخالبنا به

يرجو النجاة ولات حين مناص!)



و كتب الي عمر ابن سعد:

(أما بعد، فقد بلغني كتابك، و فهمت ما ذكرت، فاعرض علي الحسين أن يبايع ليزيد بن معاوية هو و جميع أصحابه، فاذا فعل ذلك رأينا رأينا) [5] .

و حتي ابن سعد نفسه كان يتوقع اقدام ابن زياد علي عمل ارهابي فظيع يتسم بما اتسمت به أعمال ابيه من قبل، و انه كان يضمر فيه الاقدام علي جريمة جديدة من شأنها أن تعرض الدولة للخطر و تلطخ سمعة القائمين بها الي الأبد، و قد عبر عن ذلك بقوله: (قد حسبت الا يقبل ابن زياد العافية) [6] .

كان ابن سعد يدرك ان الاقدام علي التصدي للحسين عليه السلام و قتاله يشكل أكبر


جريمة، و كان يحسب أن المسألة يمكن تسويقها بسهولة و ان الحسين عليه السلام يمكن أن يتراجع أو يساوم اذا ما تأكد من الخطر المحدق به، و كأنه لم يكن متأكدا من ذلك قبلا، و ان الدولة يمكن أن تقبل عرضه بالرجوع من حيث أتي بعد أن كشف زيف الدعوات الموجهة له و عدم جدية أصحابها و جبنهم و تخاذلهم، و مع ذلك لم يجد في نفسه القوة علي الامتناع من الوقوف علي رأس الجيش المكلف بقتال الامام و قتله، و كان الجبن و الطمع قد عملا علي سلب ارادته و جعلاه يبدو بمظهر العاجز الضعيف المتردد الخانع المستسلم الممتثل لارداة عليا قوية هي ارادة سيده ابن زياد التي جعل لها مكانة كبيرة في نفسه مستبدلا اياها بالارادة الالهية التي كان ينبغي ان تسود و تتغلب و تنتصر، لو كان لديه اي شعور بالانتماء للاسلام.

أما و ان ذلك الشعور كان ضعيفا، فان تغلب النزعات الارضية المتدنية كان قويا، و هو ما أتاح لسيده ابن زياد التمادي معه الي أبعد حد، و فرض ارادته عليه.


پاورقي

[1] الطبري 311 - 310 / 3. و المصادر السابقة.

[2] نفس المصدر.

[3] المصدر السابق 311 / 3.

[4] المصدر السابق.

[5] نفس المصدر 3 / ص 311 و تراجع المصادر السابقة.

[6] نفس المصدر السابق 311 / 3 و تراجع بقية المصادر.