بازگشت

البدايات


لم تبرز شخصية باهتة الملامح، عديمة اللون، تجد الذل في جانب منها و الطمع و الخيانة في الجانبة الآخر، طيلة عهود التاريخ الاسلامي، مثلما برزت شخصية عمر بن سعد.

و لأنها شخصية باهتة، لا لون لها و لا حس و لا ارادة و لا موقف، و قد ظهرت في ظرف دقيق تزامن مع ابرز حدث في تاريخ الاسلام، و لعبت فيه دورا لا يزال يذكر كلمات مرت ذكري هذا الحدث أو تعرض الباحثون و الدارسون له، و هو ثورة الامام الحسين عليه السلام علي الانحراف المعلن للدولة الاموية؛ فانها برزت كظاهرة جديرة بالتأمل و الدرس، لأنها ظاهرة مكررة معاده علي امتداد التاريخ. و غالبا ما تسند لأمثال هذه الشخصية بعض مهام الطغاة - باشرافهم و توجيههم طبعا - لتقوم بتأديتها علي وجه يحقق رضاهم، ثم تذوب و تمحي بعد ذلك و لا تجد لها أثرا في حركة المجتمع، بعد ان لم تكن أساسا ذات أثر في الماضي.

كانت هذه الشخصية احدي نتاجات مجتع الظلم و الانحراف، افرزتها مجموعة العوامل التي شكلت هذا المجتمع و جعلته بالشكل الذي بدا عليه، و أصبح مجتمعا موزعا مشتتا حتي داخل بنية الشخصية الواحدة - القلب مع الحسين و السيف مع بني أمية.

و لن تتاح لأحد فرصة فهم هذه المعادلة المعقدة؛ اذ كيف يكون قلب امري ء معك و سيفه عليك، اللهم الا في وضع غير صحي و غير سليم، لن تتاح فرصة فهم ذلك، ما لم تدرس التحركات الدؤوبة المدروسة لمعاوية و حزبه، الذي استطاع العبث بالمفاهيم الاسلامية الصحيحة و تشويهها و تزويرها و عرضها بشكل جديد تري لمساته و أسلوبه عليه واضحا، و هو اسلوب لا يستطيع أحد نسبته للاسلام. و قد اعتمد التطلعات الأرضية الدنيوية الدنيئة البعيدة عن تطلعات الاسلام، و شجع عليها و دعا اليها كمثل عليا و أسس وحيدة للتعامل و البناء، بديلة عن أسس الاسلام و مثله و قيمه و تشريعاته.


و لن نتكلم عن بدايات ابن سعد، و نشأته الأولي اذ لم نجد في سيرته أو شخصيته ما يلفت اليه الانظار، و يجعله مثار اهتمام أحد من الناس، و لم ترد بحقه الا شهادة واحدة، انت مع ذلك كافية لكي تدينه، هي من والده، سعد بن أبي وقاص، الذي كان فيما يبدو حانقا عليه، و قد ابعده بعد أن لم ير فيه خيرا حتي له هو، فقد كان صاحب لمسات خاصة و مواقف معينة، و صاحب كلمات مزوقة خادعة، جعلها سبيلا لتجارة خاسرة و طموحات فاشلة محدودة لم تستطع أن تنيله حتي الدنيا التي كان يريدها.

روي الجاحظ أن (سعد بن أبي وقاص قال لعمر ابنه، حين نطق مع القوم فبزهم، و قد كانوا ملكموه في الرضا عنه قال: هذا الذي أغضبني عليه؛ اني سمت رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يقول: «يكون قوم يأكلون الدنيا بألسنتهم، كما تلحس الارض البقرة بلسانها) [1] . كان يري ان ابنه من هؤلاء، و لعل ما تكلم به هذا الابن لم يكن من الدين في شي ء، و لعله بدا أقرب الي كلام المنافقين الذين يحسنون تزويق الكلام، و ربما كان هذا ما أغضب والده الذي ربما كان يريد اعداده لمكانة أرفع و لم يرد لطموحه أن يتوقف عند طموحات اقرانه العاديين العابثين، و لعل الذي أغضب الوالد، ليس مجرد نطق ابنه و كلامه، بل ما عرفه عنه قبل ذلك، مما كان نتيجته هذا الغضب الذي روي عنه.

و لم يكن عمر بن سعد بن أبي وقاص - و اسم ابي وقاص مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهره بن مرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي، و ام سعد حمدونة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس - يبدو ممن كانوا يهتمون بأمور الدين الا بالقدر الذي يقربهم من الدنيا، و قد نشأ في ظل أبيه - في فترة شبابه - عيشة مترفة في داره التي بناها بالعقيق و رفع سمكها و أوسع فضاءها و جعل علي أعلاها شرفات كما ذكر ابن عساكر في تاريخه.

لقد كان لسعد بن أبي وقاص نفسه، مواقف مع أميرالمؤمنين عليه السلام، اتهمه سعد في احدها بأنه كان حريصا علي الخلافة [2] ، و ذلك خلال أحداث الشوري بعد


مقتل عمر، مع أنه كان أعرف الناس بمنزلته واحد الرواة الرئيسيين لقول رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام: «أنت مني بمنزلة هارون من موسي»، و قد ذكر أميرالمؤمنين حادث اتهامه من قبل سعد و جوابه له [3] ، و يبدو من ثنايا قول الامام عليه السلام أنه كان يتألم بشده، خصوصا و ان من واجهوه بهذه الأقوال هم من أعرف الناس بمكانته و حقه [4] ، و حتي في حالة مجابهتهم بالحجة الواضحة، فان ردهم الاخير هو السكوت، ثم الاستمرار بسعيهم لسلبه حقه، و سلب المسلمين حقهم بولايته و خلافته.


پاورقي

[1] الجاحظ - البيان و التبيين 172 / 1.

[2] و قيل ان الذي قال له هذا هو ابو عبيدة بن الجراح يوم السقيفة و الرواية الأولي أشهر، کما روي ابن أبي الحديد في شرح النهج 475 - 9.

[3] (و قد قال قائل: انک علي هذا الأمر يا ابن أبي ‏طالب لحريص، فقلت: أما انکم و الله لأحرص و أبعد و أنا أخص و أقرب، و انما طلبت حقا لي و انتم تحلون بيني و بينه، و تضربون وجهي دونه. فلما قرعته بالحجة في الملأ الحاضرين هب کأنه بهت لا يدري ما يجيبني به. اللهم اني أستعديک علي قريش و من أعانهم، فانهم قطعوا رحمي، و صغروا عظيم منزلتي، و أجمعوا علي منازعتي أمرا هو لي. ثم قالوا: الا ان في الحق أن تأخذه، و في الحق أن تترکه) - شرح نهج‏ البلاغة 475 - 9.

[4] اخرج الشيخان عن سعد بن أبي وقاص ان رسول‏ الله صلي الله عليه وآله وسلم قال لعلي عليه‏ السلام: «أما ترضي أن تکون مني بمنزلة هارون من موسي الا أنه لا نبي بعدي» تاريخ الخلفاء -السيوطي 157. و روي مسلم في کتاب (فضائل الصحابة) بسنده عن سعيد بن المسيب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: «قال رسول‏ الله صلي الله عليه وآله وسلم لعلي عليه‏ السلام: «أنت مني بمنزلة هارون من موسي الا أنه لا نبي بعدي» قال سعيد: فأحببت أن أشافه بها سعدا، فلقيت سعدا فحدثته بما حدثني عامر: فقال انا سمعته. فقلت: أنت سمعته. فوضع اصبعيه علي أذنيه، فقال: نعم، و الا فاستکتا. و رواه ابن الاثير في اسد الغابة 26 - 4 و النسائي في الخصائص 15. و قد روي الحديث من طرق متعددة و عن رواة کلهم ثقاة (فضائل الخمسة من الصحاح الستة - السيد مرتضي الفيروزآبادي، مؤسسة الاعلمي لبنان ط 1982 - 4 ج 2 ص 348 و ما بعدها).