لماذا ينكر ابن زياد حديث الحوض
و بما أن ابن زياد كان يمثل النظام الاموي، و كان وجها من وجوهه الحقيقية، فانه رأي أن كل ما يرد بحق أميرالمؤمنين و آل البيت عليهم السلام يمثل تحديا شخصيا له، و قد بلغ به الكره لهم، ان يقدم علي قتل الحسين عليه السلام بتلك الطريقة المروعة، و لنا أن نتصور موافقه مع من يميل اليهم و يتحدث بفضائلهم، حتي لو كان ذلك الشخص أحد أصحاب رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم. [1] .
كان ابن زياد من جيل متأخر، و قد تأثر بشخصية والده و شخصية عميد الدولة الاموية نفسه، و بما أنه عاش في مجتمع جعل من كراهيته لآل البيت عليهم السلام دينا، فان تصديه لأتباعهم و مواليهم كان يمثل بنظره مهمة مقدسة.
و كان يروي عنه انكاره لما يرويه بعض صحابة رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم بخصوص
حديث الثقلين و الحوض، لأن بروز تلك الاحاديث في تلك المراحلة التي تلت اقدامه علي مجزرة الطف كان يمثل ادانة واضحة له هو علي الخصوص و لسيد يزيد.
و حديث الثقلين، ذلك الحديث الذي يجعل من أهل بيت الرسول صلي الله عليه وآله وسلم مساوين لكتاب الله في الدرجة و المكانة لأن الوصول اليه و فهمه و الأخذ منه لا يتم بدونهم، و متي ما ابتعدت الامة عنهم و تركت تعاليمهم و هجرتهم، فان آخرين سيعمدون الي تشويه مضامين الحديث و تفسيره علي هواهم، و هو ما تم فعلا بعد ذلك عندما أقدم معاوية و آخرون علي الخوض فيه وفق هواهم و مصالحهم و جندوا لذلك جماعة كبيرة من المرتزقة و واضعي الحديث و مؤولي السور و القصاصين و غيرهم.
قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم في حديث الثقلين: (اني تارك فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء و الارض، و عترتي أهل بيتي، و انهما لن يفترقا حتي يردوا علي الحوض) [2] .
و قال صلي الله عليه وآله وسلم: (انا فرطكم علي الحوض، من ورد شرب، و من شرب لم يظمأ. و ليردن علي أقوام أعرفهم و يعرفونني ثم يحال بيني و بينهم) [3] .
ان مجتمع الكوفة الذي عرف عظم الجريمة التي أقدم عليها ابن زياد، و ادانه ادانة تامة، و ندم علي مسايرته و الخضوع له، جعل يستعيد ما تعلمه بالامس و أجبر علي تناسيه أو تركه بخصوص آل البيت عليهم السلام و في مقدمتهم أميرالمؤمنين و أولاده عليهم السلام الذين التفوا حولهم ثم تخلوا عنهم، فعلوا ذلك عدة مرات، و اذا يبلغ الندم حدم الدعوة لأخذ بثأر الحسين عليه السلام من الدولة الظالمة، فان البحث عن الاحاديث الصحيحة التي لا يزال بعض شهودها و رواتها من الصحابة حاضرين، يعيشون بين أظهرهم، يبدو أمرا طبيعيا لمواجهة حالة التخاذل و الانحدار التي عاشوها و لتجنب حالة مماثلة في المستقبل.
و كان تداول أمثال تلك الاحاديث بحق آل البيت عليهم السلام تعني عودة اليهم و الي منهجهم في الحياة و النظر، و كان يعني رفضا للمنهج الأموي برمته.
و قد روي عن أبي سبرة الهذلي قوله (كان عبيدالله بن زياد يكذب بالحوض بعد ما سأل عنه أبا برزة [4] و البراء بن عازب و عائذ بن عمرو و رجلا آخر) [5] .
كما كذب أنس بن مالك و زيد بن أرقم عندما رويا له حديث الحوض و أنكر عليهما روايتهما لهذا الحديث، و قد بلغ أنس انكاره فقال: (ما انكرتم من الحوض؟ قالوا: سمعت النبي صلي الله عليه وآله وسلم يذكره؟
قال نعم. و لقد أدركت عجائز بالمدينة لا يصلين صلاة، الا سألن الله تعالي أن يوردهن حوض محمد صلي الله عليه وآله وسلم [6] و يبدو من المحاورة أن جماعة شايعوا ابن زياد علي رأيه الذي انكره عليه انس بن مالك.
و قد ورد في رواية أخري أن ابن زياد تساءل: (و لمحمد حوض؟ قالوا: هذا أنس بن مالك يحدث ان له حوضا. فجاء أنس فقال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يقول: ان لي حوضا و أنا فرطكم عليه) [7] .
و قد روي عن زيد بن ارقم أنه قال: (بعث الي عبيدالله بن زياد فأتيته، فقال: ما أحاديث تبلغنا و ترونها عن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم لا نسمعها في كتاب الله، و تحدث أن له حوضا!؟
قال زيد: لقد حدثنا عنه رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم و أوعدنا. فقال ابن زياد: كذلك، و لكنك شيخ قد خرفت. قال زيد: اني قد سمعته اذناي و وعاه قلبي من
رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم و في رواية (سمعته أول خطبة النبي في غديرخم، في الوصية بكتاب الله و أهل بيته) [8] .
و قد وردت ملاحظة قيمة في كتاب (معالم الفتن) [9] حول هذه النقطة، قال فيها الكاتب (و كان تكذيب ابن زياد بالحوض تكذيبا له ثقافته الواسعة، علي أرض اتخذت من قبل ثقافة سب أميرالمؤمنين علي عنوانا لها. و تحت خيام هذه الثقافات نشأت أجيال يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، و هذه الأجيال ما خرجت الا من تحت خيام بني أمية.
و ثقافة انكار الحوض شقها ابن زياد بالسكين، و بالسيف، و جلد عليها الظهور، و منع المطايا عن كل ما قال ان للنبي حوضا. لأنه يعلم ان اثبات الحوض، سترتب عليه أمور تدينه، و تدين ملك بني أمية الطويل العريض.
و اذا كان ابن زياد قد جمع من حوله اتباع يقولون بقوله، فان طائفة الحق كان يدوي في اسماعهم قول النبي صلي الله عليه وآله وسلم: «اسمعوا»، قالوا: سمعنا؛ فقال: «اسمعوا»؛ قالوا: سمعنا، فقال: «انه سيكون عليكم أمراء، فلا تعينوهم علي ظلمهم فمن صدقهم بكذبهم فلن يرد علي الحوض» [10] و كان في ذاكرتهم أيضا قوله صلي الله عليه وآله وسلم: «أنا فرطكم علي الحوض، و لأنازعن أقواما، ثم لأغلبن عليهم فأقول: يا رب، أصحابي، فيقول: انك لا تدري ما أحدثوا بعدك» [11] و قوله: «اني تارك فيكم الثقلين احدهما أكبر من الآخر، كتاب الله، حبل ممدود من السماء الي الأرض، و عترتي أهل بيتي، و انهما لن يتفرقا حتي يردا علي الحوض») [12] .
[13] .
و بعد، فهل كان ابن زياد علما من أعلام الثقافة الاموية، رغم أنه يبدو متمتعا بكفاءات كبيرة لقيادة دولة فرعونية كبيرة أو خدمة فرعون كبير؟. أم أنه كان يفرض دوره و يناقش و يحاور من منطلق القوة و السلطان، ذلك الذي يرفض أن يتغلب عليه أحد أو يفرض عليه رأي أو سلطان، حتي و لو كان سلطان الله سبحانه و تعالي؟
ان كل شي ء يبدو مقبولا لابن زياد و أمثاله ما دام يمهد لحكم الدولة الظالمة و يدعو لها و يقوي أركانها، حتي و لو كان حديثا موضوعا مزورا سخفيا لا يقبله العقل و المنطق السليم، و كل شي ء ينبغي رفضه ما دام - في محصلته و في نتائجه - يؤدي الي كشف دولة الظلم و تعريتها و اسقاطها، و اذا ما وصلت المواجهة الي هذا الحد، فان هذه الدولة ستكشف عن الباقي و تعلن نواياها بصراحة، و سيكون سقط الاسلام اهون عليها من ذهاب سلطتها و مصالحها.
و هذا ما كشفه لنا سلوك يزيد و ابن زياد و من تلاهما من (خلفاء) الامويين و أعوانهم و أصبح سنة لكل سلالات (الخلفاء) الذين جاءوا بعدهم علي امتداد التاريخ.
و في الختام ان سيرة ابن زياد جديرة ان يتتعن فيها و تدرس بعناية، لنري فيها النماذج المعادة المكررة التي تنحاز للظم و تتبني مواقفه، ثم تفقد بعد ذلك كل شي ء و تنتهي الا من الصيت السي ء و لعنة الاجيال. لعلها تكون عبرة لبعض من يريد أن يتفرعن و يعلو في هذه الأرض علوا كبيرا.
پاورقي
[1] و وصل به الأمر الي هدم دار حجر بن عدي الکندي، مع أن حجر قد أعدم بيد معاوية و قتل صبرا بدسيسة من زياد حسب ما يذکر الطبري.
[2] رواه أحمد و الترمذي و قال المناوي رجاله موثقون - الفتح الرباني 186 / 1.
[3] البخاري ک الدعوات. ف الصراط: جسر جهنم - الصحيح 141 / 4 - صحيح مسلم 53 / 15.
[4] و أبو برزة هو نفسه الذي انکر علي يزيد قيامه بنکت ثغر الحسين عليه السلام عندما جلب الرأس اليه و قال له: (اتنکت بقضيبک في ثغر الحسين! أما لقد أخذ قضيبک من ثغره مأخذا، لربما رأيت رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يرشفه، اما انک يا يزيد تجيء يوم القيامة و ابن زياد شفيعک، و يجيء هذا يوم القيامة و محمد صلي الله عليه وآله وسلم شفيعه، ثم قام فولي) الطبري 341 / 3.
[5] رواه ابن أبي عاصم و قال الالباني اسناده ثقات (کتاب السنة 323 / 2).
[6] رواه ابن أبي عاصم و قل الالباني اسناده صحيح علي شرط مسلم و أخرجه أحمد (کتاب السنة 321 / 2).
[7] کتاب السنة 322 / 2.
[8] المصدر السابق 322 / 2.
[9] معالم الفتن - سعيد أيوب - دار الکرام 1414 ه ط 1 ج 2.
[10] رواه أحمد و ابن أبي عاصم و ابن حبان في صحيحه (الفتح الرباني 23 / 30) کتاب السنة 352 / 2.
[11] رواه البخاري الدعوات ب الصراط جسر جهنم (الصحيح 4 / 141) و مسلم (الصحيح 15 / 59).
[12] رواه أحمد و الترمذي و حسنه و الطبراني و قال المناوي: رجاله موثقون (الفتح الرباني 186 / 1.
[13] معالم الفتن 312 - 113 / 2.